قراءة في رواية “على شواطئ الترحال” للكاتبة راوية بربارة
قرأت مقالا لصديقي العزيز الناقد د. نبيه القاسم،[1] يُعالج فيه رواية “على شواطئ الترحال”[2]والقضايا الساخنة التي جاءت تطرحها. لفت نظري ترديده للقب دكتور (د.) في المقال، ينعت به الكاتبة، ما يشي وكأنّ من كتب الرواية هي د. راوية بربارة وليست راوية بربارة التي وقّعت الرواية باسمها عاريا بلا لقب. بهذا الخصوص، بين راوية بربارة ود. راوية بربارة، هناك فرق كبير. لا علاقة للقب الأكاديمي بكتابة الرواية. راوية هي التي كتبت، دفقت روايتها دفقة صادقة من أعماق النفس واللاوعي، ولم تكتب بحثا أكاديميا من نتاج العقل والدرجة العلمية. أنا على ثقة أنّ صديقي ردّد اللقب احتراما للكاتبة، ولكنّه بشكل عفوي غير مقصود ظلم الكاتب والرواية، لأنّ من كتب الرواية هو راوية بربارة، تلك الذات القلقة التي تُعاني من الأوضاع الاجتماعية والسياسية والنفسية الجمعية. فهي تحمل همّا شخصيا أنكر حدود ذاتيّته ليُصبح همّا جمعيا. في ترديد اللقب الأكاديمي، حسب رأيي المتواضع، ظلم للناقد نفسه، ولنقده البنّاء الهادف، وللكتابة كملاذ وخلاص، وللكاتب الذي لم يُسعفه شيء، حتى لقبه الأكاديمي، فلجأ إلى الكتابة لتخلّصه مما يعتمل في نفسه من ضغوط لا علاقة لها بدرجته العلمية، فهي ضغوط نفسية، ذاتيّة وجمعية، تراكمت في أعماق نفسه وطبقات لاوعيه، قبل نقلها إلى طبقات وعيه وعقله وإلى الأوراق. ولكن، ما لا أشكّ فيه، هو أنّ صديقي لم يقصد ظلم أحد أو الإساءة إليه، ولا أنا كذلك في ملاحظتي هذه، إنّما قصدت التذكير وليس الإساءة، له أو لأيّ شخص آخر، معاذ الله.
مما جاء في مقال صديقي، أنّ الكاتبة راوية بربارة تحرّرت من لغتها التي كبّلتها في أعمالها السابقة، وقد أصاب في ذلك أيّما إصابة. فقد أصدرت الكاتبة قبل روايتها “على شواطئ الترحال” (2015)، ثلاث مجموعات قصصيّة هي: “شقائق الأسيل” (2007)، “من مشيئة جسد” (2008)، “خطيئة النرجس” (2010)، قيّدت فيها القارئ وكبّلته بلغتها التي قيّدتها وكبّلتها هي أيضا. فقد وقعت الكاتبة في مجموعاتها تلك، أسيرة اللغة التي طغت بمفرداتها وتعابيرها وتراكيبها وقواعدها، على مضمون النصّ، بحيث شغلت القارئ عنه، رغم طرحها لقضايا كثيرة ومهمّة، لها علاقة وثيقة بالمرأة والرجل والمجتمع والوطن والعلاقات الإنسانية عامة، بينما في روايتها الأولى، “على شواطئ الترحال”، التي نحن بصدد الحديث عنها، نجد أنّ التجربة قد صقلت الكاتبة، وحرّرتها من اللغة وقيدها، بحيث يُحسّ القارئ، أنّ لغة الكاتبة، رغم محافظتها على جماليّاتها، لم تعد قيدا، بل صارت أداة طيّعة توظّفها الكاتبة في خدمة الشكل والمضمون دون أن تطغى عليهما وتشغل القارئ عنهما، ودون أن تتنازل عن جمالها وشعريّتها وشاعريّتها. تجدر الأشارة إلى أنّ الكثير يُمكن أن يُقال إيجابا أو سلبا حول توحيد لغة الشخصيات، ولكن، يكفيها أنّها تُحيل إلى قيمة المساواة التي تؤمن بها الكاتبة.
في شكل فني جميل، تطرح الكاتبة قضايا شائكة قد يتناغم معها بعض القرّاء وقد يُصدم بعضهم، لما فيها من طروح نفسية واجتماعية وسياسية قد يألفها بعضهم وقد يخرج عليها بعضهم الآخر. وذلك بتأثير حساسية القضايا المطروحة، وحساسية اتخاذ الموقف منها، وكيفية تعامل مجتمعنا معها.
من جماليّات الرواية ومن بعض أهدافها عامة، وكذا هو الأمر في رواية “على شواطئ الترحال”، أن تطرح الرواية قضية أو أكثر، وتخلق حوارا بينها وبين ذاتها، وبينها وبين القرّاء، وبين القرّاء أنفسهم، تطمح ألّا يتعدّى ذلك الحوار، حدود إنسانيته، وأن تكون له نتائجه التي تتوخى منها أن تُؤثر بشكل إيجابي على المجتمع وعلى العلاقات التي تربط بين عناصره بكل أشكالها.
من حيث الشكل الفني، يبدو واضحا أنّ الكاتبة استغلّت بشكل جيد، ما تُتيحه لها حدود التجريب في الرواية الحديثة. صدّرت الرواية بعنوان فيه من جمال العبارة وسحر الإثارة الشيء الكثير، وبلا إهداء، استعاضت عنه بعبارة، كنصّ ممهّد (Paratext)، فيها الكثير من الأيحاء، “لا أريد من الحبّ غير البداية” (ص 2)، اقتبستها من محمود درويش، والأهمّ، أعقبتها بعبارة إيحائية أخرى، من نحتها هي، “لا أريد من الحبّ غير أن تستمر البداية” (ص 2). هذه العبارة تشي بما ينتظرنا في الرواية. في العنوان وفي العبارتين المذكورتين وغيرهما على امتداد الرواية، توظيف لتقنية الميتاقصّ وقدرتها على إظهار وعي الكاتبة، ووعي النصّ لذاته، وعلى تحفيز القارئ واستفزازه ودفعه لقراءة الرواية والتفاعل مع القضايا التي تطرحها.
السارد وطرق السرد: تدور أحداث الرواية حول حدث يبدو صغيرا وهو أن تكتب البطلة قصّتها أو لا، وتظهر حيرتها من خلال صعوبة اختيارها للغة الكتابة. وبهذا تتخذ الكاتبة، من الكتابة كملاذ ترجو به الخلاص من معاناتها، تتخذ منها دافعا للسرد وحاملا له. “سارة”، الراوية وبطلة الرواية، تتردّد بين الكتابة وتركها، ولكنّها تكتب، فهناك ما يُغريها بذلك. “لم يبقَ لي إلّا أن أتحرّر من ذكرياتي ومن حبّي … سأكتب قصّتنا وأتحرّر منك إلى الأبد” (ص 7)، فالكتابة هي خلاصها الوحيد من معاناتها التي تسردها بضمير “الأنا”، وتُطلعنا عليها من خلال ما تتذكّره وتكتبه، وتُعيدنا بالذاكرة إلى لقائها الأول بإبراهيم وهو يقول لها: “تحمّلي قليلا، أريد أن أساعدكِ” (ص 12)، حين أفاقت بين يديه وهو يُساعدها لتُفيق من غيبوبتها بعد سقوطها نتيجة استنشاقها الغاز المسيل للدموع في “مظاهرة سلميّة بلا حجارة تجوبُ الشوارعَ من أجل أطفال الحجارة” (ص 12)، جمعت بين العرب واليهود ممن يُعارضون سياسة الحرب والاحتلال.
وظّفت الكاتبة تيار الوعي وتقنيّاته المختلفة بشكل موفق، مكّنها من استبطان دواخل “سارة” والبوح بما يعتمل في نفسها، عن طريق الاسترجاع والمونولوج. ولكنّها في مرحلة ما، تشعر بالأرهاق من السرد، “تعبت من ذكرياتي ومن أناي” (ص 122)، فتتنازل بشكل أنيق عن السرد، وتوكل المهمّة إلى الراوي العليم، كليّ المعرفة، إذ تقول: “سأتنازل عن الأنا وأترك للراوي حقّ السرد، ليفتح الأبواب ويُشرّعها”. وفي هذه العبارة أيضا، توظيف لتقنية المياقصّ التي تستفزّ القارئ. إذن، فالكاتبة على دراية بأشكال السرد والبناء وبقدرات الراوي العليم على استبطان النفوس التي لا تستطيع “سارة”، الراوي الأنا الشاهد المشارك، استبطانها. ثم لاحقا، يُصرّح الراوي بأنّه تعب هو الآخر من السرد حين قال، “لقد تعبت من السرد، أنهكتني قصّة سارة وإبراهيم، وجلدت صبري قصّة خولة وصادق، وأرّقتني قصّة ماري … سأعيد السرد لسارة، هي حكايتها، فلتنقلها هي لكم … كما تعيشها وتشعرها” (ص 166)، فيُعيد السرد إلى “سارة” بشكل أنيق أيضا، لتتابعه بصيغة “الأنا” المتكلّمة، إلّا أنّها كثيرا ما تلجأ إلى ضمير المخاطب بشكل موفق أيضا، ما يزيد من حميمية الخطاب وحرارة الكلمات، لأنّها تدوّن ذكرياتها كرسالة تكتبها لزوجها وحبيبها إبراهيم.
التعب من السرد، عند “سارة” وعند الراوي العليم، يشي بثقل المعاناة وتعقيدات القضايا الشائكة التي تطرحها الكاتبة في روايتها، فهي قضايا تُثقل على الكاتبة وعلى صوتها المتداخل بصوت الراوية، فيزيد ذلك من تأثيرها على القارئ الذي يتفاعل مع تعدّد الأصوات وتداخلها.
الزمكانية:يمتدّ زمن الرواية أو الزمن الموضوعي فيها، مدّة قصيرة لم تُحدّد ولكنّها لا تزيد عن زمن كتابة الذكريات، أما الزمن النفسي فتُحدّده “سارة” مخاطبة فستانها: “أنْ أرتديكَ يعني أنْ أتنازلَ عن خمسةٍ وعشرينَ عامًا وبعض الكيلوغرامات” (ص 12)، ويبدأ منذ اللقاء الأول بين سارة وإبراهيم، ويمتدّ إلى انتهاء العلاقة بينهما بعد خمسة وعشرين عاما. وهو زمن المعاناة النفسية التي عاشتها “سارة”. يبدأ الراوي بالسرد من النهاية، فالبداية هي النهاية، والنهاية تعتبرها “سارة”، البطلة الراوية، بداية جديدة. فهي تعتمد الاسترجاع والمونولوج الذي يُمكّنها من البوح بما يعتمل في نفسها من ذكريات سعيدة وصراعات أليمة أدّت إلى انفصالها عن إبراهيم.
نجحت الكاتبة في اختيارها للفترة الزمنية النفسية، خمسة وعشرين عاما، وهي فترة توازي امتداد الأحداث بين بداية الانتفاضة الأولى 1987، إلى ما بعد نهاية حملة “الرصاص المصبوب” على غزة عام 2008-2009. هذه الفترة كانت شاهدة على صدامات وأحداث كثيرة وتحوّلات اجتماعية وسياسية في المجتمعين العربي واليهودي.
أمّا المكان فهو موضوعي جغرافي، ونفسي كذلك، يمتدّ جغرافيا بين تل أبيب وكريات شمونة، مرورا بعكا وتلك القرية الفسيفساء في الجليل وغيرها من القرى الباقية والمهجّرة. تتوسط المكان، حيفا التي احتضنت اللقاء الأول وبداية الصراع الحقيقي. ولذلك، فتلك المساحة الجغرافية بتركيبتها المذكورة، لها دلالتها النفسية التي تُعبّر عن الشرخ بين تل ابيب، مدينة “سارة” ومجتمعها اليهودي، وبين القرية، قرية إبراهيم والمجتمع العربي، ذلك الشرخ الذي أحدثه الصراع وتطوّرات الأحداث، والتحوّلات الموضوعية والنفسية التي كشفتها تلك الأحداث. وبذلك يُصبح المكان كالزمان، جزءا من المشكلة أو المشاكل التي عَمِيَ عنها الحبّ فأعمى بصر وبصيرة “سارة” وإبراهيم، الأمر الذي أدّى إلى فشل الحبّ رغم عدم تراجعه. وقد أحسنت الكاتبة أن جمعت بين “سارة” وإبراهيم بالزواج الذي يقتل أعظم حبّ، “فالزواج مقبرة الحبّ” (ص 58) كما تقول “سارة”، وإن كنت أرى أنّ الزواج هنا ليس هو السبب الحقيقي لفشل الحبّ، بقدر ما هو إحالة ذكيّة إلى الأسباب الموضوعية للفشل، سواء كانت اجتماعية أو سياسية، متفرّقة أو مجتمعة.
الشخصيات: سارة، الشخصية المركزية والبطله والراوية، بناء ذكي استطاعت الكاتبة من خلالها أن تجمع فيها بين معاناة المرأة من ظلم الرجل، وبين مأساة اللقاء بين المجتمعين: العربي واليهودي، وعمق الكراهية التي تجمع أو تُفرّق بينهما لدرجة أنّها قادرة على قتل أيّ حبّ قد تأتي به الأيام. مأساة المرأة في المجتمع العربي تصبح مزدوجة أو أكثر إذا كانت المرأة غير عربية، ويهودية بشكل خاص. ولذلك يصعُب، بل هو مستحيل، النظر إلى “سارة” على أنّها تحمل همّا شخصيا كما يتبادر للأذهان من بعض ما تبوح به. لا شكّ أنّها تحمل همّا جمعيا، مزدوجا من أكثر من ناحية، أهمّها السياسية والاجتماعية. الهمّ السياسي مزدوج لأنّ سارة يهودية تحبّ عربيا وتتزوج منه، وهو أمر يرفضه المجتمعان: العربي واليهودي، ولا يصبح مؤلوفا مهما تكرّر. خاصة وأنّ هذه العلاقة تنشأ في مجتمع تحكمه علاقات اجتماعية وسياسية عدائية، سواء حدث الزواج أم لم يحدث.
إبراهيم: شخصية قست عليها كثيرا الراوية والكاتبة من ورائها، إذ لم تكتفِ بتحميله مسؤولية تدهور العلاقة بين المرأة المظلومة والرجل الظالم، وإنّما حمّلته مسؤولية تدهور منظومة العلاقات كلها، حتى بين أصحاب الفكر المتقارب، بحجّة رضوخه للقبيلة في انتماءاته المتعدّدة: الاجتماعية والسياسية والدينية. ولكنّ الكاتبة، منحتنا بعض العزاء في إظهارها بعض الأسباب غير الشخصية التي أدّت إلى فشل إبراهيم، عندما جعلت المجتمع الذي تُحيل إليه “سارة”، يتحمّل جزءا من أسباب ذلك الفشل.
الشخصيات الأخرى، وهي كثيرة، وكلّها مهمّة، ولكن أهمّها ماري وخولة وأمّ إبراهيم، هي شخصيات رسمتها الكاتبة لتستكمل بها أفكارها حول القضايا المطروحة، وحول العلاقات بين المجتمعين: العربي واليهودي من جهة، وداخل المجتمع العربي، مجتمع الفسيفساء من جهة أخرى، ذلك المجتمع الذي تربطه علاقات لها خصوصياتها وحساسيتها، طرحتها الكاتبة بجرأة، سواء فكّرت أم لم تُفكّر بالجدل الذي قد تُثيره بين موافق ومعارض ومتحفّظ. كل شخصية من الثلاث تُحيل إلى قضية سياسية شائكة: شخصية خولة وما حدث لابنها، تُحيل إلى خدمة الشباب الدروز في الجيش، وكيف أنّ الكثيرين في مجتمعنا لا يتفهّمون أنّها مصدر معاناة للمجتمع الدرزي وليست مصدر فخر. وشخصية ماري تُحيل إلى الإنسان الفلسطيني اللاجئ في وطنه. وشخصية أمّ إبراهيم تحيل إلى الشعب الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال وسياسة الحرب. وكلّ تلك القضايا تُؤثر وتتأثّر بالعلاقة ذات الحساسية العالية بين المجتمعين: العربي واليهودي.
كل الشخصيات في الرواية، من “سارة” وحتى أصغر شخصية، ليس من حيث الجيل طبعا، تستحقّ دراسة اجتماعية نفسية أشمل وأعمق لا تحتملها هذه العجالة.
أمّا من حيث المضمون، فالكاتبة تبحث في روايتها عن عالم مثالي، أو عن مدينة فاضلة (Utopia)، يفتقدها أولئك الذين تتضاعف معاناتهم لأنّ المشاعر التي تتحكّم بهم هي مشاعرهم الإنسانية، التي يقتلها في هذا العالم الذي نعيش فيه، أولئك الذين تتحكّم بهم مشاعر أخرى غير الإنسانية. وهي مشاعر تنبع غالبا من نزعات سلبية تتراوح بين الأنانية والطائفية والعنصرية وغيرها الكثير، وتُشكّل عقبات أمام بناء علاقات تقوم على الحبّ وغيره من القيم والمشاعر الإنسانية. في طريق آلام بحثها، تصطدم الكاتبة بتلك العقبات التي تُجهض الحبّ والمشاعر الإنسانية، تلك القضايا الشائكة ذات الحساسية الخاصة، سواء كان ذلك في المجتمع الواحد، أو بينه وبين غيره من المجتمعات الأخرى، التي تربطه بها علاقات سياسية بشكل خاص. ولذلك، ليس غريبا أنّ الكاتبة تركت القصة القصيرة ولجأت إلى الرواية، فهي بخلاف سائر الأجناس الأدبية الأخرى، هي الأقدر على نقل الواقع وإبداعه، وعلى نقل حركة الإنسان في تطوّره بأشكاله المختلفة، وخاصة في صراعه المتواصل بكل أشكاله مع أعداء الحياة. الكتابة بشكل عام، وكتابة الرواية بشكل خاص، يراها لوسيان غولدمان Lucien Goldmann كتابة “تاريخ بحث منحط (يسميه لوكاتش Lukacs “شيطاني”)، فهي بحث عن قيم أصيلة في عالم منحط، ولكن على صعيد متقدّم بشكل مغاير ووفق كيفية مختلفة” (غولدمان، 1993، ص 14، و Goldmann, 1975, p. 1).[3]وذلك يعني أنّ لجوء الإنسان إلى الكتابة، وإلى كتابة الرواية تحديدا، يُعطي فرصة للروائيين، ليحقّقوا على الورق ما عجزوا عن تحقيقه في الواقع. وهذا ما فعلته رواية بربارة، فقد خاضت، وبكل جرأة، في ذلك المستنقع، الذي تحكمه الأنانية والطائفية والعنصرية وغيرها من النزعات القاتلة، إلى جانب القهر السياسي، لتبحث عن القيم الأصيلة وتبني عليها عالمها الخاص الذي تحلم به، ذلك العالم الذي تحكمه القيم والمشاعر الإنسانية، بما فيها الاحترام المتبادل مع الآخر واحترام حقّه في الحياة والحرية دون المساس بخصوصيته. وهذا هو ما قصده غولدمان (Goldmann) بالصعيد المتقدّم بشكل مغاير ووفق كيفية مختلفة، أي الشكل والكيفية اللذين يختارهما الكاتب، وهذا ما فعلته راوية بربارة لبناء عالمها الخاص في روايتها.
طرحت الكاتبة بجرأة مثيرة، قضايا شائكة، أولا في مجتمعين مختلفين، وثانيا في مجتمع واحد له فسيفساؤه وخصوصيته. ولكن رغم حساسية تلك القضايا، وربما أولويّتها، لم تستطع الكاتبة التخلّص كليّا من إطار الأدب النسوي الذي يهتم بعلاقة المراة بالرجل، أو بنفسها أيضا، بغض النظر عن أنّ تلك العلاقة في هذه الرواية لها حساسيتها الخاصة، إذ تقوم بين امرأة يهودية ورجل عربي، ولكنّها، إذا استبعدنا تلك الحساسية، لا تختلف عن أيّة علاقة بين الرجل والمرأة، تكون فيها المرأة ضحيّة مظلومة، تُعاني من سيطرة الرجل ومفاهيم المجتمع الذكوري الذي يُهمّش المرأة ويهضم حقوقها. فإبراهيم الذي تمرّد أول الأمر، عاد في النهاية وخضع لمفاهيم المجتمع الذكوري وما فيه من عصبيات قبلية ودينية. وفي هذا السياق بالذات، أظهرت الكاتبة ذكاء ملحوظا باختيارها لوالدي سارة من مجتمع شرقي: العراقي والمغربي، فقد ضربت بذلك عصفورين كبيرين. الأول، لأنّهما من مجتمع لا يبتعد كثيرا عن مجتمعنا في عقليته وسلطته الذكورية، وبذلك عبّرت عن معاناة المرأة، عربية كانت أو غيرها، من ظلم الرجل والمجتمع الذكوري. وقد تمثّل ذلك، في علاقة “سارة”، بإبراهيم و”أفنر” ومحاولتهما فرض سيطرتهما عليها؛ والثاني، عبّرت بذلك أيضا عن تطرّف المجتمع اليهودي نحو سياسة الحرب والاحتلال والعداء للعرب، الفلسطينيين بشكل خاص، إذ أنّ المجتمع اليهودي الشرقي هو الأكثر ميلا نحو تلك السياسة، ودعما لسياسة اليمين في إسرائيل.
تعاني سارة بشكل مزدوج من كونها امرأة ومن كونها يهودية، وتحمّل المجتمعين: العربي واليهودي مسؤولية معاناتها. المجتمع العربي يتمثّل بإبراهيم وأمّه وغيرهما، والمجتمع اليهودي يتمثّل كذلك بوالدي “سارة” وغيرهما. والكاتبة لا تُغفل دور السياسة، حيث تُحمّل “سارة” مسؤولية معاناتها للسلطة السياسية أيضا، متمثّلة بالضابط “أفنر”، ابن خالتها. وتظهر بذلك أنّ القضية هي قضية اجماعية وسياسية في آن معا. ويُعاني إبراهيم من المجتمعين أيضا، ولكنّ السلطة هي في الحقيقة من يقلب حياته وحياة “سارة” جحيما، وذلك باعتراف “سارة” أنّ فشل إبراهيم في أيجاد عمل، وراءه السلطة المتمثلة بـ “أفنر”. وليت الأمر يتوقّف عند هذا الحدّ، إذ أنّ “أفنر” يعتبر إبراهيم، كما جاء على لسانه في الرواية، “إنّه ضدي ونقيضي، يريد أن يأخذ بلادي بعد أن أخذ منّي … منّا سارة.
وإذا كانت هذه هي أفكار “أفنر” الذي يُمثل السلطة، فإنّ القضايا الشائكة الأخرى في الرواية، لن يكون من الصعب على المتلقّي أن يُحيل أسباب وجودها إلى السلطة. وبذلك تصبح أسباب المعاناة الحقيقية لكل شخصيات الرواية، هي السلطة وسياستها التي لا تؤمن إلّا بالحرب ودوام الفرقة بين أبناء المجتمع الواحد، ولا يسلم منها حتى أبناء المجتمع اليهودي. ذلك لا يعني أنّ الظروف الاجتماعية بما فيها من ظلم لا دور لها. ولكنّ دور السياسة يطغى عليه، فهو الذي يُكرّس الظلم الاجتماعي والتخلّف، خاصة في المجتمع العربي، ويعمل على دوامه. وفي كل الحالات، يظهر ذلك جليا في الدور الذي يلعبه “أفنر” في عدائه لأبراهيم ومحاولاته تخليص “سارة” منه. فهو لا يختلف عن دور السلطة وعدائها للجماهير العربية. فهي تُحاول أن تُجنّد الجميع لخدمة سياستها، كما حاول “أفنر” أن يّجنّد “سارة”، التي “باتت تعرف أنّها فقدَتْ وطنها، وفقدَتْ ملجأها … فهي تعيش في دولةٍ تريدها عينًا وفمًا وأذنًا على زوجها وأهل قريته، الدولةُ جازتها على إنسانيّتها والمجتمع جازاها على حبّها!” (ص 126).
ولا أدري إذا كانت الكاتبة قد انتبهت إلى أنّها بكل ذلك تُحيل، وبشكل غير مباشر وإن كان واضحا، إلى سياسة الفصل العنصري التي تنتهجها السلطة بين العرب واليهود، تُبعد بينهم قدر استطاعتها، خاصة في مجال السياسة، وكذلك إلى سياسة التخويف “في هذه الدولة التي تعيش على رعبٍ كأنّ النار تحتها” (ص 92)، تنشر الخوف بين اليهود وتوهمهم بأنّ بُعدهم عن العرب فيه خلاصهم وخلاص دولتهم. وهي دعوة صريحة من الحكومة اليوم إلى ما تُسمّيه “يهودية الدولة”. وهذا أيضا ما يُفهم من طلب “أفنر” المتكرّر من “سارة”، أن يُخلّصها من أبراهيم، حين “أمسكها من يدها … وهمسَ في أذنها: هذا ما نابكِ من العربيّ؟ أتريدين أن أنجيكِ منه؟” (ص 150) وحين قال لها أيضا: “ما بك؟ أنا ابن خالتك، لحمك ودمك، دعيني أساعدك في النجاة من هذا العربيّ” (ص 151)، وفي موضع آخر، “كفاكِ عنادًا، هي أيّام وسأراك بالجلباب والحجاب، تعالي أنقذكِ، ألم تسمعي عن الحركة اليهوديّة الّتي قامت لتخليص اليهوديّات المتزوّجات من غير اليهوديّ، يوفّرون لكِ بيتًا وعملًا، هل ستنتظرين أكثر ممّا انتظرتِ؟” (ص 164-165). وفي خضم تلك السياسة، تريد السلطة من العربي أن يُذعن لها ويتقبلها بهدوء ويتعايش معه بسلام، كما جاء على لسان أمّ “سارة”: “فليعيشوا بسلامٍ وبهدوء، ولمَ يضربون الجند بالحجارة؟” (ص 10).
ما يُثير الجدل في رواية راوية بربارة، هو من جهة جرأتها في طرح القضايا الشائكة بشكل غير مسبوق، ومن جهة أخرى، أنّها لم تأخذ موقفا واضحا من السلطة التي تقف وراء تلك المعاناة، بالتأكيد ليس خوفا، فهي تطرح الأمور الاجتماعية والسياسية بجرأة كبيرة، وتعترف بدور السلطة الهدّام من خلال شخصية “أفنر”، ما يشي بأنّها تترك لكل متلقي أن يُحدّد هو موقفه بالشكل الذي يريد. ومن جهة ثالثة، لا أدري أيضا، إذا انتبهت الكاتبة إلى أنّها بجرأتها وبحساسية القضايا التي طرحتها، خاصة السياسية منها، وبتصويرها المؤثّر لقسوة الألم الذي ينزف من تلك القضايا، قد أيقظت حساسية المتلقّي التي ستتأثر وتنشغل كثيرا بتلك القضايا، وبذلك تكون قد سحقت بشكل ما، أفكارها الرومانسية أحيانا، المثالية أحيانا أخرى، أو شغلت المتلقّي عنها على الأقلّ. فقد احسست أثناء قراءتي للرواية، أنّني أمرّ بتلك الجمل التي تُعبّر عن تلك الأفكار، مرّ الكرام، لأنّ سياسة العنصرية والحرب والاحتلال و”فرّق تسد”، وغيرها من السياسات البشعة التي تنتهجها السلطة في هذه البلاد، قد طغت بحيث جعلت الإنسان فيها يكفر بوجود مثل تلك الأفكار أو بوجود من يؤمن بها. تردّدت تلك الأفكار على امتداد الرواية، أذكر منها: “نحن أمميّان، وأنتِ دولتي، أريد أن أصبحَ فيكِ مواطنًا لا يحتاج إلى جواز سفر ليدخل دولته الحبيبة!عيونُكِ هوّيتي وانتمائي وعبادتي” (ص 38)، لستِ امرأة … ولستِ يهوديّة … أنتِ كياني الضائع، لستِ نزوة عابرة، بل أبدي الدائم، أنتِ كلّ نساء الأرض بكلّ هُويّاتهم” (ص 39)، “علاقتنا لم تعترف لا بالحدود ولا بالسياسة، لا بطاولة المفاوضات المستديرة ولا المستطيلة، لا بالعِرق ولا بالدين، لا بالحرب ولا بالسلام، لا بالعدوّ ولا بالصديق…علاقتنا رسمتْ لها خريطة أخرى وحدودًا مفتوحة، لم نعترف إلاّ بأحاسيسنا وبمبادئنا!” (ص 59)، “أنا لست ملكا لأحد. أنا مسؤولة عن روحي وعن جسدي وعن كياني ووجودي! والبلاد ليست ملكا للبشر، إنّها هبة الربّ لنا لنسكن ونحيا، لا لنتقاتل ونموت!” (ص 98)، “وطنك هو المكان الذي يمنحك الحريّة؛ حريّة التفكير والتعبير والاختيار والحبّ؟” (ص 124). وغير ذلك الكثير. فهي تُنهي روايتها بعبارة لا تختلف عن هذا السياق، اقتبسها من درويش، تقول: “وقليل من الأرض يكفي لكي نلتقي، ويحل السلام” (ص 177)، ما يؤكّد أنها مصرة على بناء عالمها المثالي الخاص، أو مدينتها الفاضلة.
في الرواية دفق إنساني مثير وصادق، ولكن، أعتقد أنّه من الصعب طرح قصة حبّ من النوع الذي تطرحه الرواية، وبالتالي النظر إليها وكأنّها قضية إنسانية فحسب، أو حتى إنسانية اجتماعية، في مجتمع تتحكّم فيه السياسة بكل شيء، وتُدمّر كل جميل. صحيح أنّ راوية بربارة دفقت كل ما في وعيها ولاوعيها في رواية تستحقّ القراءة واستراحت، فالكتابة خلاص، ولكنّها ستظلّ تحلم طويلا بعالمها المثالي ومدينتها الفاضلة.


[1] . نبيه القاسم. طرح القضايا الساخنة بذكاء وجمالية، حيفا: الاتحاد، ملحق الجمعة، 17.4.2015. ص 14-15.
[2] . راوية بربارة. على شواطئ الترحال، حيفا: مكتبة كل شيء، 2015.
[3]. لوسيان غولدمان. مقدمات في سوسيولوجية الرواية، ترجمة بدر الدين عرودكي، اللاذقية: دار الحوار للنشر والتوزيع، 1993. أو في:
Goldmann, L. Tawards a sociology of the novel. 1964. Trans. Alan Sheridan. New York: Tavistock Publications, 1975.

By د. محمد هيبي

أستاذ اللغة العربية، كاتب وناقد أدبي. ولد في 5/3/1952 في قرية كابول، في الجليل الغربي، القريبة من "ميعار" المهجرة، مسقط رأس والده الشاعر الشعبي الفلسطيني، أحمد محمد هيبي (المعروف بالكشّوع أو أبو عصام الميعاري). هُدِمت ميعار وشُرّد أهلها في النكبة الفلسطينية عام 1948.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *