قراءة في شعر يحيى عطاالله

news-details

د. محمد هيبي

يحيى عطاالله، فارس يعشق صهوة الخيل وشاعر فارس يعشق صهوة القصيدة. صدر له حتى الآن ثلاث مجموعات شعرية تستحقّ القراءة والاهتمام: “صهيل” (2009)، “أغنية لأمّي” (2016) و”بساط الروح” (2021).

يحيى عطاالله يُجيد نظم الشعر بأشكاله المختلفة، من القديم إلى الحديث، إلّا أنّه يعشق الشعر العربي القديم وعمود القصيدة حدّ التعصّب أحيانا، ويُنكر أن يكون هناك شكل شعريّ عربيّ أجمل منه. وأنا إذ أتّفق معه أنّ للقصيدة العمودية جمالها الذي لا يستطيع أن يُنكره أحد، إلّا أنّني لا أنكر أيضا أنّ للشعر الحديث جماله وحضوره ودوره في التأثير على المتلقّي. وأقصد بالشعر الحديث: الشعر الحرّ من شعر التفعيلة حتى قصيدة النثر بما قد تتضمّنه من صور شعريّة جميلة تترك أثرها في نفس القارئ وفكره.

ليس قصور الشعراء عن عمود الشعر هو ما دفعهم إلى الأشكال الشعريّة الجديدة، بل هو التطوّر الحاصل في الحياة والعالم، ونزوع الإنسان إلى الحرية والانطلاق. وقد انعكس ذلك على الشعراء وشعرهم، وعليهم فرضت نفسها الحداثة وضرورات التغيير. وإذا قصّر الشعر العربي الحديث هنا وهناك، فذلك لأنّ الحداثة العربية قصّرت، أو بكلمات أخرى، معظم المثقّفين والشعراء العرب، لم يستوعبوا الحداثة بعمق، وإنّما تسطّحوها غالبا نقلا عن الغرب للتّزيّن بها فقط، ولم يكلّفوا أنفسهم خلق حداثة تلائم مجتمعنا العربيّ وحياتنا العربيّة. ولكن في الوقت نفسه، الحداثة الغربيّة قصّرت هي أيضا، ودليل ذلك سرعة ظهور عصر ما بعد الحداثة وتفكيكه لها وكشفه لعجزها وفشلها. لذلك لا غرابة في أنّ قلّة قليلة من الشعراء العرب المعاصرين استطاعوا أن يستوعبوا الحداثة وأن يكتبوا شعرا عربيا حداثيّا بالمعنى العميق لها. من تلك القلّة مثلا، شعراء استطاعوا أن يوظّفوا التراث العربي الغنيّ، لا ليزيّنوا به أشعارهم، بل ليُوظّفوه في خدمة الحاضر والمستقبل وخدمة الناس وهمومهم، وليسقطوه على الواقع العربي الراهن بكلّ أزماته، وبكلّ التشويه والتشوّه اللذين اجتاحاه. هذا ما فعله شعراء كبار مثل الشاعر الفلسطيني محمود درويش والشاعر المصري أمل دنقل وقليل غيرهما في العالم العربي.

ما يدعو للاطمئنان في تعصّب يحيى عطاالله للشعر القديم، هو أنّ تعصّبه ليس نابعا من رفضه للحديث، ولذلك فهو ليس تعصّبا بالمعنى الدقيق للكلمة، بل يُمكن اعتباره حالة من العشق للأمّة ولغتها رغم كلّ ما تمرّان به من أوضاع سيّئة. إنّه عشقه للغته العربية التي يهيم بجمالها ويعشق كلّ ما تتمتّع به من ثراء لفظي وموسيقيّ. وهذا ما يدفعه للتفكير بأنّ هذا الثراء لا بدّ له من إيقاع داخليّ ضابط يجعل للوزن والقافية أهميّة قصوى، لا يستغني عنها يحيى عطاالله إلّا نادرا.

من جهة أخرى، تشفع ليحيى عطاالله في تعصّبه للغة العربية وعمود الشعر، مضامينُ شعره. فهو إمّا يستفزّ الأمّة ويستنهضها لتقف من جديد، وإمّا يتغنّى بالوطن وجمال معالمه على اختلافها، يدافع عنه ويُقاوم أعداءه، وإمّا يتغنى بالمرأة وجمالها، جسدا وروحا، ويدافع عنها كما يُدافع عن الوطن، لأنّه يرى أنّ حرية المرأة وانطلاقها، هما مقياس تقدّم المجتمع وضرورة ملحّة لتحرّره. فإن لم تتحرّر المرأة لن يتحرّر المجتمع، وإن لم يتحرّر المجتمع فكيف يتحرّر الوطن من قبضة مُستعمِريه؟!

وعليه فأنّ تعصّب يحيى إنّما هو لعمود القصيدة وللشعر العربيّ القديم وليس لكل قديم. ودليل ذلك أنّ التزام يحيى عطاالله بالشعر القديم، لم يمنعه من حمل فكر تقدّميّ نيّر، يبرز بشكل واضح في شعره خاصة عندما يمزج بين الهمّ الذاتي الخاصّ، وبين الهمّ الوطنيّ الجمعي والهمّ الإنساني عامّة. ولذلك نراه يجمع بين القديم والحديث في أكثر من قصيدة، وتحليقه في هذا المجال يبدو واضحا في قصيدة “دعني كما أحبّ أغنّي” في ديوانه الأخير (بساط الروح، ص 57-62)، رغم أنّي قد اختلف معه في بعض الدلالات التي أذهب إليها في فهمي للبيت:

عند بتهوفنٍ أعبّئ روحي

ولدقِّ المهباج تطرب أذْني

تتنوّع أغراض شعر يحيى عطاالله بين الهمّ الشخصي، والهمّ الجمعي، همّ المجتمع والوطن. فقد كتب الشعر الوطني وشعر الغزل والخمرة وشعر المناسبات، الوطنيّة والاجتماعيّة والشخصيّة. وقصائده تمتح أفكارها غالبا من واقعنا المعيش محليّا وفلسطينيّا وعربيّا وإنسانيّا، يُبدع فيها يحيى عطاالله واقعنا بما فيه من أحلام قليلة وانكسارات كثيرة. ولذلك، فهو يمزج بين شعر المناسبات وبين نصوص ترتبط بحالات وجدانية ذاتيه، ولكنّها لا تنفصل عن الذات الجمعيّة والحالة الوطنيّة والإنسانيّة، بل يُوظّفها جميعا لتُساهم في تشكِّل وعيه الجمعيّ، الوطنيّ والإنسانيّ. ورغم تعبيره غالبا بضمير “الأنا”، إلّا أنّ ذلك لا يتنافى من كون شعره يُشكّل جزءا هامّا في النسيج الثقافيّ الجمعيّ الفلسطينيّ والعربيّ عامة. وربّما يعود ذلك إلى أنّ العوامل التي تُؤثّر في شعر يحيى عطاالله كثيرة، أهمّها الظروف السياسية والاجتماعية والجغرافية. ولا يقلّ عنها تأثيرا، موقفه السلبيّ من الدين، فهو يرى أنّه يلعب دورا سلبيا في حياة الفرد والمجتمع والأمّة. ويحيى عطاالله يطرح موقفه في هذا الأمر وغيره، بجرأة وبلا تأتأة.

عندما تقرأ شعر يحيى عطاالله، أو تسمع إلقاءه، تشعر أنّك تمتطي صهوة جواد عربيّ أصيل جامح له أجنحة أبدعها الشاعر وحلّق بها في سماء الواقع والخيال، وأجاد العوم في بحور الخليل رغم الجفاف وقفر المجال. وهذا ما يراه في قصيدته، “صهيل” (ص 71) التي يحمل ديوانه الأول عنوانها:

مــــن أبْحُرٍ جــلا عذوبتها الخلـــيل وفسّرا

آتيكَ يـــا زمـــن الجفاف ويـــا مجالا مقفرا

آتيك ملتهب الشراع ومـلءَ وجـدي مبحرا

بالوزن واللــهب المقـفّى والمــجاز مُعـبّرا

وبما أنّني أعرف أنّ يحيى عطاالله فارس يعشق الفروسية وصهوة الخيل، أرى أنّ ذلك العشق ينعكس في شعره ويُساهم في إبداعه. فهو يستمدّ أصالته في الشعر من أصالة حصانه العربيّ الجامح، ومنه كذلك يستمدّ هيبته العربيّة الممتوحة من التاريخ العربيّ العتيق والعريق. حين يُخاطب حصانه في قصيدة بعنوان “حصاني” (صهيل، ص 44)، أراه مبدعا يمتطي صهوة الحصان يُحلّق بها إلى صهوة الشعر:

يا ابن العتاق

ويا حفيد الريح

يا عشق المدى

خذني لعزّةِ صهوة

أشْعِلْ دمي

أنا فوق ظهرك هيبة عربيّة

أهوى الشموخ

وفوق أعمدة اختيالك أزدهي.

في هذه القصيدة يبرز أيضا حبّ يحيى عطاالله للحياة، ولكنّ عشقه لها ولطيّباتها، يظهر أكثر في شعر الغزل والخمرة، ولهما في شعره نصيب وافر.

الخمرة لدى يحيى عطاالله قد لا تكون “صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها”، ولكنّها ليست بعيدة عن ذلك. فهي أنيس ليله الذي يرتبط ارتباطا وثيقا بالشعر والفروسية والحبيبة. يقول مخاطبا كأسه، في قصيدة بعنوان “كأسي” (صهيل، ص 84):

“يا سيّد ليلي

يا لجّة خمر أعمقَ من عمقْ

في قعرك

في غليان الخمرة يسبح عِفريت العشق”

وبما أنّ الشعر والفروسية والمرأة هي عشق الشاعر وهاجسه، نجده يتابع وصف حاله مع كأسه:

ينتصب أمامي

يركب متن لساني لأغنّي

لكنّي أحتاج لأوتار الدنيا كي أصقل أغنيتي

أحتاج لصهوة مهرٍ

ولوجه حبيبة قلبي

يا سيّد ليلي أين هي؟

يجمع شاعرنا بين الشعر والخمر والحبيبة وصهوة حصانه في مقطع واحد. وجميل هذا السؤال الذي أنهى به المقطع مخاطبا كأسه. ذلك يعني أنّ الشاعر يُدرك أنّ جمال الأدب في أن يطرح أسئلة لا في أن يُقدّم أجوبة. وهذه الأسئلة تبدو لي فلسفية ووجودية. لأنّ السؤال هنا، يبدو كبيرا وعظيما، أكبر من أن يُعبّر عن همّ الشاعر الذاتي فقط.

أمّا غزل يحيى عطاالله فيأتي أحيانا خفيفا لطيفا، كما يقول في قصيدة “سمراء” (أغنية لأمّي، ص 47):

سمراء يا ظلّا لطيف الظلِّ

لِفّيني بظلّك حين تحتدّ الأشعة

اطردي حمّي بحمِّك

مثلما قال المثل

هذه القصيدة تتناصّ بشكل ما مع قصيدة “سمراء” لسعيد عقل التي غنّاها عبد الحليم حافظ. ولكن إذا نظرنا إلى الطريقة التي وظّف بها التراث، تبدو لنا بسيطة، ولكنّها في الحقيقة أبعد ما تكون عن البساطة. فيها ذكاء شديد وخداع للقارئ إن صحّ التعبير. فهو بعبارة “مثلما قال المثل” التي استوحاها من التراث، يُحاول إخراج القارئ بسرعة من جوّ العبارة التي سبقتها، أو إمالة نظره على الأقلّ، عن فعلة الشاعر الحسّيّة الكامنة في جرأة عبارة “اطردي حمّي بحمِّك”، المستوحاة هي أيضا من التراث.

غزل يحيى عطالله، رغم ما فيه من عاطفة وحبّ للمرأة التي يعشقها جسدا وروحا، إلّا أنّه ليس عاطفيّا دائما، فهو يمزج بين العاطفة والعقل في كثير من غزليّاته، لأنّ المرأة لديه ليست بمظهرها وجمالها الجسدي فقط، وإنّما عليها لتكون كاملة، أن تحمي مظهرها وجمالها الجسدي، بجمال روحها وقوّة عقلها وسعة اطّلاعها ومعرفتها. ورد ذلك المعنى واضحا في قصيدة بعنوان “تعلّمي” (أغنية لأمّي، ص 45)، التي يُخاطب بها المرأة ويكشف فيها عن موقفه الجريء والواضح منها، جسدا وروحا:

نعـم أريــــدك حســناءً مشعـشِعة

من صحوة النهد حتى لمعة الظُّفر

لكـنّما هـل كـفـاك الحسن منطلقا

لخـوض مــعركة الأيام والبشــر

إنّ الجــمال بـــلا عــلم يحصّنه

يغـدو عـدوّك يـا سوقـيّة الغـرر

إنــي أريــدك حســناء مـثـقـفة

تحظى بنورين، نور الوجه والفـكَر

التناصّ في البيتين الأخيرين مع قول علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه:

“ليس الجــمـال بأثـواب تزيننا

إنّ الجمال جمال العلم والأدبِ”،

يُؤكّد ما جاء في القصيدة من معنى واضح جعل الغزل حسيّا يكاد يكون فاضحا. وسواء نبع ذلك من وعي الشاعر أو من لاوعيه، فقد جاء ليُؤكّد حزمه في موقفه الفكريّ من أنّ جمال المرأة، الروحي والعقلي، هو ما يجب أن يلعب الدور الأساس في حياتها وحياة مجتمعها. وقد يُشير إلى ذلك الحزم، في الغزل وغيره من شعر يحيى عطاالله، كثرة ممارسته لحقّه في أنّه “يحقّ للشاعر ما لا يحقّ لغيره”. مثلا، كثيرا ما نجده يصرف الممنوع من الصرف، كما فعل مع “حسناء” الممنوعة من الصرف كاسم علم مؤنّث أو كصفة على وزن فعلاء. ولكن للحقيقة، لا يُمارس يحيى عطالله هذا الحقّ في غير موضعه أو حيث لا يحقّ له ذلك.

* * * * *

للأمّ بشكل خاصّ في شعر يحيى عطاالله، حيّز لافت ودور لا ينحصر بفضلها كأمّ تلد وتُرضع وتحضن وتُربّي فقط، وإنّما هي إنسانة مكافحة ومدرسة تبني أجيالا قادرة على حمل الهمّ الذاتيّ والجمعيّ، الشخصيّ والوطنيّ. ومن خلال قصيدتين كتبهما لأمّه، سنرى كيف تطوّرت نظرته إلى الأمّ وإلى الحياة وكيف تطوّر شعره أيضا؟ في قصيدة “أمّي” في ديوانه الأول، (صهيل، ص 54)، ينعكس الهمّ الذاتي الخاصّ فقط حيث يقول في مطلع القصيدة:

عندما كنت صغيرا

وأنا حفنة طين آدميٍّ

كان لي أمّ تُغذّيني حياةً

تسكب النهرين سكبا

واحدا دفَق الرحيقَ البكرْ

والآخرَ ترنيما وحُبّا

منبع الطّيبات كانت

وأنا كنت المصبّا

أرتوي من غير أن أدري بأنّي

كدتّ أن أشرب قلبا

وهكذا يسترسل في القصيدة، فلا يخرج عن الهمّ الذاتي الخاصّ به، ولا عن فضل الأمّ كوالدة وحاضنة ومرضعة ومضحّية في سبيل بنائه الشخصيّ. وقد انعكس ذلك على اختياره لعنوان القصيدة، “أمّي”، الذي يحمل بعدا عاطفيا فطريّا يكاد يكون خاليا من أي توجّه فكريّ. بينما إذا انتقلنا إلى ديوانه الثاني، سنجد أنّ الأمور تغيّرت، فالعنوان قد تطوّر وصار “أغنية لأمّي”. وهذا يحيل إلى تطوّر ملموس في شخصيّة الشاعر وفكره، فالعنوان يحمل بعدا فكريّا قبل بعده العاطفيّ. فلفظة “أغنية”، رغم ما فيها من حُمولة عاطفية، إلّا أنّ فيها أيضا، حُمولة فكريّة سبقت الحُمولة العاطفيّة في لفظة “أمّي”. وهذا يُبيّن التطوّر الحاصل في شخصيّة يحيى عطاالله وفكره كإنسان وشاعر. فقد صار ينظر إلى أمّه كامرأة بَنَت رجلا يحمل همّا أكبر بكثير من همّه الذاتيّ الخاصّ. ولذلك نجده بعد اعترافه بفضل الأمّ في بداية القصيدة حين تساءل:

“أينّ أمّي أعاود التقبيلا 

ليديها وأنحني تبجيلا؟”

لا يتوقّف عند هذا الحدّ، بل يُتابع معبّرا عن إدراكه لأبعاد فضلها المتشعّبة، ما يشي بأنّ المضمون تطوّر مع تطوّر علاقة الشاعر بأمّه حين قال:

“أرضعتني مع الحليب كرامة

ومع الخبز أطعمتني شهامةْ”

في ذكره للكرامة والشهامة، نشهد ذلك التطوّر، فقد صار يعرف أن “ليس بالحليب والخبز وحدهما يحيا الإنسان”، فهما غذاء للجسد فقط، بينما الكرامة والشهامة هما غذاء للروح والفكر. ولذا فإنّ الأمّ لم تعد في شعر يحيى عطاالله والدة ومرضعة فقط، بل مربّية ومعلّمة تساهم في بناء الشخصيّة الوطنيّة لطفلها الذي تُعدّه ليس لمستقبله فقط بل لمستقبل مجتمعه وشعبه وأمّته. ولهذا يتابع شاعرنا مدركا أنّ لا حاجة للإنسان بالكرامة والشهامة إذا كان يعيش وحيدا:

زوّجـتـنـي لـكـي تــرى أولادي

وتهنّت بنعـمة الأحفاد”

“واستراحت من بعدما زرعتني

بيديها على تراب بلادي

وكيف لا تهنّأ الأمّ وقد ضمنت استمراريتها واستمرارية أبنائها وأحفادها في الوطن الذي زرعت أولادها فيه؟ وكأنّي بالشاعر يُريد أن يقول: ما دمنا قد أصبحنا مجموعة من الأمّهات والآباء والأولاد والأحفاد، إذن فنحن شعب، والشعب لا بدّ له من لغة وأدب يعشقهما ويعتزّ بهما. لذلك ليس عبثا قوله:

“نظمتني قصيدة عـربـية

بالقوافي وبالبحور الزكية”.

وهنا يأتي دور الهُوية، فالشعب الذي له وطنه ولغته وتاريخه وتراثه، لا بدّ له من هُويّة تجمع كلّ تلك المكوّنات فيها. ويحيى عطاالله يُدرك جيّدا دور الفرد في بناء هُويّته الشخصيّة وهُويّته القوميّة. لذلك يُؤكّد:

“إنّ أمّي تخيّلتني جــديــرا

باعتناق الأنا وحمل الهُوية”.

واعتناق الأنا هنا، ليس تعصّبا للذّات، وإنّما هو تعبير عن فهمه لدور الفرد في بناء المجموعة. وعليه تُصبح قصيدة “أغنية لأمّي”، ليست أغنية للأمّ التي أنجبت وأرضعت فقط، وإنّما هي أغنية للأمّ الكبرى، الأمّة العربية التي يعشقها الشاعر ويعشق لغتها، وأغنية للوطن، فلسطين. وبذلك ينعكس تطوّر الشاعر فكريّا وشعريّا، ويتجسّد الهمّ الخاصّ ويتّحد مع الهمّ القوميّ والوطنيّ العامّ.

ما تقدّم، يأخذنا إلى الغوص أكثر في عروبة الشاعر وفي شعره القوميّ والوطنيّ. ورغما عنّا إلى الأوضاع السياسية السائدة. يحيى عطاالله يعشق اللغة العربية كتعبير عن انتمائه للأمّة العربية وإلى جذوره التي تعود إلى “وادي عبقر” في الجزيرة العربية حيث يعيش شياطين الشعراء ودهاقنة اللغة. في قصيدته “وادي عبقر” (أغنية لأمّي، ص 5)، يقول:

يا وادي عـبقـر أيـنه شيطاني

ارفعْه مـنك إلى سماء لساني

من خلال العودة إلى تلك الجذور، يرى الشاعر أنّ للغة مكانة رفيعة تجعلها جديرة بأن تُحلّق في السماء. ولهذا يختتم القصيدة نفسها، مفاخرا بخلود الأمّة بلغتها وخلود شعرائها في شعرهم:

إنّ الأُلى ركِبَـتْهـمُ الجـنُّ الـتي

من عبقرٍ ركبوا على الأزمانِ

أفواههم تحت الثرى لكنَّ وقع

صهيلهم يجري بكلّ مكانِ

والشاعر هنا لا يفاخر فقط، وإنّما يختزل تاريخ أمّة ما زال زاهرا في واقع راهن كثرت نكباته وهزائمه. وعليه فإنّه يدرك أوجاع الراهن وما تعيشه أمّتنا العربية المنكوبة بحكّامها وزعمائها، فيُخاطبها ليُنصفها ويفضحهم كاشفا عن فكره السياسيّ التقدّمي، بشكل مباشر وجريء لا تأتأة فيه:

لا تبحثي في الغيب عن سبب الهوان … أمــامـكِ الحـكّام، إنّهــمُ السبـبْ

لـم يـبـقَ إلّا أنـتِ فـي الأمـم العـريـــ  م ـــــقة ليس يحكمها نظام منتخبْ

ولكي يفضح الشاعر أولئك الحكّام، يلجأ إلى توظيف السخرية. فبالسخرية السوداء التي يُوظّفها يمسخهم ليُعبّر عن ألمه. وكأنّي به في قصيدته “قفا نبكِ” (صهيل، ص 14)، يتحرّر بشكل لاواعٍ من عمود الشعر ويلتزم إيقاعا داخليا يتلاءم مع مضمون القصيدة ومع ما يجيش في صدره من ألم وغضب بل ومن حقد ثوريّ على أولئك الحكّام ذوي العروبة المزيّفة، والذين يراهم مسوخا أحقر من أن يحظوا منه بمكرمة أصالة عمود الشعر. يقول فيهم:

حكامنا عرب بقدر عروبة نيويورك

عرب بحجم شعارهم

عرب بوزن نعالهم

عرب بعرض عباءة

وبطول عُشر لسانهم

أسماؤهم عربية

لكنّما دمُهم غريب

وكما غنّى يحيى عطاالله وتغنّي بالأمّة وأمجادها، كذلك يُغنّي لأقطارها ومدائنها. فقد غنّى لمصر والقاهرة، وتغنّى بارتباطهما بالعروبة وفلسطين. جاء في قصيدته “يا مصر” (ص 10):

وإذا فلسطين اكتوت بغليلها

في مصر تلقى موردا وشرابا

وإذا العروبة بالفتور تفتّرت

ستظلّ مصر أوارَهـا اللـــهّابا

ولم ينسَ بغداد ومحنة فراتها حين يُخاطبه (“يا فرات”، صهيل، ص 18):

مــن يـا فرات إذا عطشتُ سقاني

وشهيُّ عذبك ليس في الغدرانِ

أظمأتني يا ابن العِذاب وكنتَ مَن

يشـفي غلــيل الـوارد الظـــمآنِ

يـا نهـر مـا هـذي مـياهـك! هـذه

حِـمم أتت مــن منـبع الشيـطانِ

وكذلك لم ينسَ دمشق ولا بيروت وغيرهما. وبالطبع هو لا ينسى تلك المدائن بسبب الرابط القويّ الذي يربطها بفلسطين وشعبها اللذين نجدهما بشكل مباشر أو غير مباشر في كل قصيدة من قصائده الوطنية.

ورغم كلّ هذا التألّق في الشكل والمضمون، فيحيى عطاالله كغيره من الشعراء قد يتسرّع أحيانا ويُخطئ، وهذا من عيوب الشعر والشعراء عامّة. فالشعر، بعكس النثر الذي يُخاطب العقل، هو وليد اللحظة ويُخاطب العاطفة غالبا، ولذلك يأتي متسرّعا أحيانا لا يمنح الحدث مساحة زمنية تُمكّنه من استيعابه وهضمه ثم توظيفه وتحميله برسائل تنفع الحاضر والمستقبل. كتب يحيى عطالله قصيدة خاطب بها فؤاد السنيورة، رئيس حكومة لبنان، وقد رأه يبكى في اجتماع وزراء الخارجية العرب المنعقد في بيروت يوم 8/8/2006، بسبب مجزرة قانا (صهيل، ص 26). القصيدة جميلة جدّا وإنسانية جدّا، ولكنّه على غير عادته منحها لمن لا يستحقّها، فقد انخدع بالدموع وبلا قصد منه خدع القارئ الذي لا يعرف السنيورة، وشوّش عقل القارئ الذي يعرفه. بدأ القصيدة ببيت يُكْبِر فيه ويُجلّ دمع السنيورة:

أنا يا فؤادُ أمام عينك أنحني

وأُجِلُّ دمعك من صميم فؤادي

وفي بيت لاحق يسأله:

هل كان دمعك في الحوادث غاليا

لِتُهِلَّه فــي حـضرة الأوغـــادِ؟

وقد قصد بالأوغاد وزراء الخارجيّة العرب المشاركين في الاجتماع، وكذلك زعماءهم الذين دفعوا بهم إلى ذلك الاجتماع، ولكنّ الدموع المخادعة، خدعته وأنْستْه أنّ السنيورة واحد من أولئك الأوغاد. وظنّي لو أنّ يحيى عطاالله تريّث بعض الوقت وأعطى للحدث مساحة زمنيّة كافية، لكان تراجع عن كتابة القصيدة أو عن بعض مضمونها لأنّ فؤاد السنيورة لا يختلف عن مجموعة الأوغاد الذين يُحمّلهم مسؤوليّة ما تمرّ به الأمّة، ودموعه لم تزد عن كونها “دموع التماسيح” اعتاد هؤلاء على ذرفها لإخفاء عوراتهم التي يطيب للشاعر فضحها. وهكذا يكون الشاعر قد ساهم بحسن نيته واندفاعه العاطفي وبدون قصد، في تزييف الحقيقة. 

news-details

للشعر القديم وعمود القصيدة سطوتهما على الشاعر يحيى عطاالله. فهما مصدر جنونه وهيامه وإلهامه. وعلى ما يبدو، سيظلّ هائما بهما يستجدي شيطانه بحثا عن ليلاه، كما هام مجنون بني عامر في وادي عبقر. وليلى يحيى عطاالله هي القصيدة التي يهيم بها ويسعى وراءها، ولكنّه لا يلهث بل يتمكّن منها بسهولة ويُمسك بقرونها التي لا تلبث أن ترفّ عليه بسهولة ولطافة أيضا. ويظهر ذلك جليّا في قصيدة “أهيم ملءَ جنوني” (صهيل، ص 68):

أهيمُ مِلئَ جنونـي في هـوى سَفَرٍ

مَرُّ المسافة، بين الروح والحبرِ

إني مضيتُ، شراعُ الشعر يحملني

عـبر الهواجـس من بحر إلى بحرِ

وقد فتحت على الأوزان خاصرتي

وسِلْتُ من مهجتي في العجز والصدرِ

وكم سهرتُ على عـنّات قافيتي

والنظم شاغلني عن طلعة الفجرِ

يسري الخيال فيأتيني بما رسمت

يداه في عالم الأوهام والسحْرِ

أُمسي وأُصبِحُ مأسورا بهاجسه

ولستُ أطلَقُ مــن دوامة الأسرِ

حـتى أصُفَّ خيالاتي عـلى ورقٍ

وأفرش الوهم في سطر ورا سطرِ

ذلك وغيره يُؤكّد أنّ الله لن يتوب على مجنون وادينا كما تاب على مجنون بني عامر. سيظلّ يحيى عطاالله يهيم في وادي عبقر يبحث عن خيمة الخليل ليرفع عمودها. ويتجسّد ذلك أيضا وبكل عنفوانه، في “بساط الروح”، ديوانه الجديد الذي صدر مؤخّرا.

* * * * *

عَلى قَلَقٍ كَأَنَّ الريحَ تَحتي

أُوَجِّهُها جَنوباً أَو شَمالا (?!)

بغضّ النظر عمّا إذا كانت مفردة “قلق” في بيت المتنبّي أعلاه، تُقرأ بفتح اللام أو كسرها، فإنّ قلق البعير أو الحصان الذي يمتطيه المتنبّي هو تعبير عن قلقه هو أيضا. وما دام قلق الشاعر هو المهيمن على صدر البيت فإنّ عجزه يكون تساؤلا يُؤكّد قلقه في صدر البيت، وليس جوابا. فالمتنبّي الحائر القلق يتساءل إلى أين يوجّه ريحه، أي بعيره أو حصانه الذي يُشبّهه بالريح لسرعته، أيُوجّهه جنوبا أو شمالا؟ ويأتي الجواب الذي يُنهي قلق المتنبّي وحيرته في البيت التالي مباشرة:

إِلى البَدرِ بنِ عَمّارِ الَّذي لَم

يَكُن في غُرَّةِ الشَهرِ الهِلالا

الجواب هو بدر بن عمار الذي يُشبّهه بالبدر الذي أنار طريقه وبدّد قلقه وحيرته كما يُبدّد نور البدر الظلام. وقد قال “إلى البدر” ليُشبّه بدر الأرض ببدر السماء، وقد قصده ليبحث في شموخه عن شموخه.

ويحيى عطاالله، هو أيضا شاعر الشموخ والقلق الذي يجد في المتنبّي بدره الذي يُنير طريقه ويُبدّد قلقه وحيرته ويُرسّخ شموخه. وهل سيجد عطاالله شاعرا وعَلَما أفضل من المتنبّي في شموخه وقلقه، ليُوجّه إليه ريحه. شموخ عطاالله وقلقه في ديوانيه السابقين لا يخفيان على القارئ، أمّا في ديوانه الأخير فهما امتداد أكثر بروزا، خاصّة وأنّه خصّ المتنبّي بقصيدة رائعة أراها جوهرة دواوينه الثلاثة.

شعره في نظري يُماثل بشكل ما شعر المتنبّي في شموخه وقلقه، وإن اختلفت الأسباب والظروف، أنّ قلقهما، الذاتيّ والجمعيّ، كلّه أو بعضه على الأقلّ، صادر من المنبع ذاته. فعمّا بحث المتنبّي عندما يمّم وجهه شطر طبرية قاصدا بدر بن عمار الذي أولاه برائعتين من شعره: “ورد إذا ورد البحيرة شاربا …” و”على قلق كأنّ الريح تحتي …”. ألم تكن أوضاع أمّته التي قال فيها: “يا أمّةً ضحكتْ من جهلها الأممُ“، هي ذاتها مصدر قلقه الذي دفعه إلى بدر بن عمار باحثا عن شموخ تلك الأمّة في شموخ أبطالها؟

أليست تلك الأوضاع كذلك هي ذاتها مصدر قلق يحيى عطاالله على لغته وأمّته؟ تلك الأوضاع السيّئة هي ما دفعه نحو المتنبّي باحثا في شعره وشموخه عن تاريخ تلك الأمّة وشموخها الذي كان؟ بتاريخ المتنبّي وشموخه يُعزّز يحيى عطاالله شموخه بالانتماء إلى أمّته في واقع راهن أفقدها الكثير الكثير من أعمدة شموخها؟ وهذا الشموخ وذلك القلق، أليْسا هما مصدر تلك الإشراقة الفكريّة التي ذكرها بروفيسور إبراهيم طه في تقديمه للديوان الأخير (بساط الروح، ص 5-15) حين قال: “قرأت المجموعة الشعريّة الأخيرة ليحيى عطاالله بيتًا بيتًا، قصيدة قصيدة، ولم تكن بينها قصيدة واحدة لم تترك فيّ أثرًا طيّبًا. بعض الأثر مردود إلى إشراقة فكرية مبتكرة، وبعضه إلى صورة شعرية فاتنة تتبعها فتنة، وبعض ذاك الأثر يتّكئ على تعبير عربيّ قحّ أصيل”؟

وإذا نظرنا إلى واقعنا الراهن، الفلسطينيّ خاصّة والعربيّ عامّة، سنفهم ونتفهّم ذلك القلق الذي يجعل يحيى عطاالله يدخل في شعره، كما يقول بروفيسور إبراهيم طه أيضا: “من الأبواب المشرعة نفسها التي يدخل منها أدباؤنا في الحلّ والمرتحل. وليست هذه خطيئة ولا خطأ. وهل يحيى عطاالله مقطوع من شجرة حتى ينتبذ؟ وما هي هذه الموضوعات أو الثيمات التي يستنفر قلمه لأجلها؟ بعضها موضعيّ آني تاريخيّ كالقضية السوريّة، ومسألة المهجّرين الفلسطينيّين. وبعضها موضعيّ آنيّ فرديّ كتكريم الشاعر الراحل مفيد قويقس ورثائه رحمه الله. وبعض المعاني امتداديّ كقضيّة العروبة والانتماء إليها، والموقف العدائي من الدين، ومناصرة المرأة وحقّها، والاحتكام إلى قيم التآخي الإنسانية، واللحاق بركب الزمان والحضارة. وبعض مواضيعها غزل عفيف بالمرأة، وغزل جغرافيّ إن جاز هذا التعبير على نحو ما يفعله في وصفه لحيفا والجليل وجبال الكرمل ويركا (قرية الشاعر). وبعض المعاني موصول بالدعوة القديمة إلى تجديد اللغة العربية”.

* * * * *

سبق لي أن تحدّثت عن غزل يحيى عطاالله وموقفه من المرأة، وعن تعصّبه لعمود الشعر رغم أنّه لا يرفض الجديد والتجديد. لكن سأتوقّف هنا عند قلق الشاعر وغضبه لأستجلي أثرهما في بعض القصائد، على الشاعر وعلى موقفه الاجتماعي والسياسي الذي قد لا أتفق معه فيه أحيانا، ولكنّني أتفهّم قلقه وغضبه في كثير من جوانبهما.

في كثير من قصائد الديوان يصبّ يحيى عطاالله غضبه على أمّته العربية، ولكن في اعتقادي من منطلق حبّه لها وشوقا لعودتها إلى غابر أمجادها وحرصا على لغتها الجميلة التي يفتتن بها ويراها تستحقّ منّا اهتماما أكبر بكثير ممّا يراها تناله اليوم من أبنائها “البررة”. تلك الأمّة وما بلغته في الماضي من مجد ورفعة، وخلّفته لنا من تراث وأدب رفيعين، وعلى رأسهما عمود الشعر، تسودها اليوم أوضاع سياسية واجتماعية مزرية ومحزنة تُثير قلق الشاعر وغضبه.

في قصيدته “مرايايَ الاثنتا عشرة”، وهي أشبه بديوان قصير مؤثّث باثنتي عشرة قصيدة، يبرز في بعضها شموخ الشاعر وطموحه، وفي بعضها الآخر يبرز قلقه وغضبه. وسأكتفي منها ببعض النماذج.

في قصيدة “فتاتي”، القطعة الأولى من “مراياي الاثنا عشر” (بساط الروح، ص 63)، تتجلّى نفس يحيى عطاالله الشامخة وروحه الطامحة إذ يقول:

وإنّي بعيدُ الشأوِ استشرف المدى

ولـكـنْ بقـلــبي لا بعيْنَيّ أبـصِرُ

وإنّي أرى دُنيا الرجـالِ مفازةً

توغّل فـيها طـامـحٌ مُتشمِّـر

أمّا في القطعة الثانية بعنوان “أمّتي” (ص 68)، فيبرز قلق يحيى عطاالله متمثّلا بغضبه الذي يصبّه على أمته العربية لأنّها تخلّفت عن ركب الحضارة وتركت الغرب يُسيطر على أقدارها. ويتمثّل قلقه أيضا بموقفه من الدين الذي يراه يلعب دورا سلبيا في حياة الأمّة. وربّما في البيتين التاليين يبلغ غضبه حدّ الحقد على أمّته لهبوطها إلى ذلك الحضيض. ولكنّي لا أرى حقده رجعيّا قاتلا، بل هو حقد ثوريّ يستفزّ ويستنهض به أمّته لتبحث عن طريق خلاصها ولتسطع شمسها من جديد. يقول:

وللعُـرْب لا حــولٌ ولا قوّةٌ سوى

على حمل عبءِ الخزي وهو مقَنطِرُ

مُثلّث قهر العُرْب: جهلٌ مهيمنٌ

وفـقـرٌ مُـذِلٌّ ثــمّ ديــنٌ مُـخــدِّرُ

من حقّ يحيى عطاالله علينا أن نتفهّم غضبه، لأنّه من جهة، لكلّ إنسان فكره ومواقفه، ومن جهة أخرى لأنّ تلك الأوضاع البائسة للأمّة، أفقدت الشاعر وطنه، فلسطين التي لم تعد هزيمتنا الأولى، وبسبب سوء حال الأمّة،  لا يراها الشاعر الهزيمة الأخيرة. ستستمرّ الهزائم إذا تمادت الأمّة في جهلها واستمرّت في خنوعها لتلك الأوضاع ومسبِّبيها. في القطعة الثالثة بعنوان “هزيمتي” (ص 69)، يقول:

فلسطين ما أولى هـزائمنا ولا

أخيرتها والسّوس في العـظمِ ينخرُ

فهذي عيون القدس ترنو لواحةٍ

وما غير وجه الرّملِ في البيدِ تُبصرُ

وتلك الأوضاع وإن دفعت الشاعر للتّنكّر لأمّته وأحوالها، إلّا أنّها لم تُعْمِه عن موروثها المتمثّل بلغتها التي تكفي ليشكرها عليها ويضحّي من أجل دفع الجفاف والتّصحّر عنها. يقول في قطعة “لغتي” (ص 73):

فمـا نلت من قومي سوى لغتي وما

على غيرها أبناءَ قومي أشكرُ

حريص عليها مثل حرصي على دمي

وفي قلب قلبي جذرُها يتجذّرُ

وحرص الشاعر على لغته ليس إلّا صورة عن حرصه على أمّته التي يكاد يُهينها ليستفزّها. ولكنّ أقوال الشاعر التي تبدو في منتهى القسوة، ليس فيها بحال من الأحوال دعوة لليأس والتشاؤم، بل فيها استفزاز واستنهاض للهمم كما أسلفت، يتّفقان مع ما يُظهره من شموخ وقلق في شعره بشكل عامّ، وبشكل خاص في تمسّكه واعتزازه بعمود الشعر وفي تدبّره لقصائده كما جاء في قطعة “شراعي” (ص 75):

أقيم عمود الشعر من عظم أصابعي

وأنسجُ من روحي بيوتا وأضفّرُ

ولا تُـفهـم الأشــعار بالـفــكـر إنّـمـا

تُـدبّـر بـالإحسـاس حـيـن تُـدبّـرُ

أمّا في قطعة “بُعدي” (ص 83)، فتتجلّى دعوة الشاعر لأمّته لتتوحّد آخذة العبرة من وحدة مجتمعه العربي الفلسطيني في الداخل، والذي لم يتمكّن الكيان الصهيوني من تمزيقه رغم كلّ محاولاته. يقول:

هنا في بلادي حيثُ شعبي روافدٌ

تصبُّ مصبًّا واحــدًا حين تنهرُ

وفي قطعة “كفاحي” (ص 85)، يتجلّى شموخه بكفاحه من أجل الحفاظ على كرامته وحياته الكريمة في وطنه. يقول:

نُكافـح من أجل الحياة كريمة

لنحيا كراما لا أقلُّ وأكثرُ

على أرضنا نبني، نضيء تُرابنا

ونغرس أشجار الحياة فتثمرُ

وأكثر ما يتجلّى شموخ يحيى عطاالله وعظمته، وكذلك قلقه وغضبه بشكل صارخ، ففي قصيدته للمتنبّي، “المتنبّي قمّة القمم” (ص 40). تلك القصيدة، رائعة شعره، خاطب بها “المتنبّي” ورفعه فيها نبيًّا. فأيّ شموخ إذًا سيطغى على شموخ يحيى عطاالله حين يرى المتنبّي يتربّع على قمّة قمم الشعر والشعراء، ويُضيء تلك البقعة التي سطعت بشعره في تاريخ الأمّة وتراثها؟ وما دام الحديث يدور عن المتنبّي وشموخه وعظمة شعره، فلا أقلّ من المركب العسير، البحر الطويل الذي يخشى كبار الشعراء الخوضّ فيه، ليركبه يحيى عطاالله بشموخ ويُوجّه ريحه نحو تلك القامة الشامخة:

خرقتَ جدارَ الصوتِ والكلُّ زاحِمُ

ولكنْ بذاك الزّخمِ وحدَكَ قادمُ

أبـا الطيّبِ استـوهَجتَ أيَّ قريـحةٍ

وأنـتَ بمـا فوق القريحة ناظمُ

معانيكَ مـن وهجِ النبوءة والرّؤى

وما الشِّعرُ إلّا بالرّؤى يتعاظم

ويستمرّ يحيى عطاالله في مديح المتنبّي وتعظيمه، إلى أن يرى في شعره كتابا مقدّسا ينفع لكلّ العصور، ماضيها وحاضرها ومستقبلها:

وأنتَ مـنَ الأزمانِ آتٍ وحـاضر

جـديـدٌ عتـيـقٌ محـدثٌ متـقـادمُ

أبا الطيّبِ افخر فالمعالي مفاخرٌ

لقد حُمْتَ فيما لا تحومُ القشاعِمُ

فخارُكَ عندي لا غرورًا عددتُه

ولكن إباء الضّيم إذ جـار ضائمُ

وبهذا الفخر الذي يُسَوِّغه الشاعر للمتنبّي، فهو في عُرفه ليس عيبا ولا حراما ولا غرورا عند أولئك الذين يستحقّونه والمتنبّي أحقّهم، بهذا الفخر أرى يحيى عطاالله يُمهد الطريق لنفسه بنفسه، لنفهمه ونتفهّمه ونتفهّم فخره واعتزازه بها. وما دام المتنبّي كما يراه ويفهمه يحيى عطاالله في الأبيات التالية، يرى نفسه في مدائحه قبل ممدوحيه وأعظم منهم:

مــلأتَ الدّنى مثلَ الهواء فما بها

مـكـان خـلـيٌّ مـنكَ أو عـنـكَ صائـمُ

فوالله مــا ذاك الزئير الذي عـلا

سوى صيتِك العالي وليس الضراغم

ووالله أنـتَ الوردُ والواردُ الذي

شــرابُـكَ مـن قـلـبِ البحـيـرةِ ساجـمُ

إذًا ما الذي يمنعنا، نحن قرّاء يحيى عطالله، من أن نراه على تلك الشاكلة؟ فهو حين يمدح المتنبّي ويُفاخر به، والفخر في عرفه ليس غرورا بل هو المعالي التي تستحقّ أن يفاخر بها كلّ من يصل إليها، إذًا فالممدوح في قصيدة يحيى عطاالله ليس المتنبّي وحده، بل هو يحيى عطاالله نفسه أيضا. والشموخ الذي يتجلّى في القصيدة في مواجهة الظلم، هو ليس شموخ المتنبّي فقط، بل هو شموخ يحيى عطاالله أيضا:

أبا الطيّب واجهتَ ظُلمَكَ شامخا

وقد كنتَ بالفخرِ الجريحِ تُقاوِمُ

هكذا هو يحيى عطاالله أيضا، يقلق لكنّه يُواجه الظلم بشموخ. فهو ما أن يُذكَر الظلم حتى يبدأ قلقه من جهة، وتبدأ حمم غضبه تنصبّ من جهة أخرى، على الأمّة الساكتة على ظلمها وظالميها. ويصبّها بشكل خاصّ على الأوغاد الظَّلَمَة، قادة الأمّة. ولكن “واحسرتاه” كما قال يحيى عطاالله نفسه، الفرق بينه وبين المتنبّي، أو بين عصريهما، هو أن المتنبّي رغم سوء الحال في عصره، فقد وجد بعضا من قادة العرب يلوذ بهم ويمنحهم شرف مدحه لهم، بينما يحيى عطاالله في عصره، عصرنا هذا وواقعنا الراهن، لا يجد من بين أولئك القادة، وغدا واحدا يستحقّ أن يرفعه هذه المرتبة ويمنحه شرف مدحه له. وهذا ما يقوله صراحة للمتنبّي وكأنّه يقوله لنفسه ولنا:

وجدتَ لمن تُجزي المديح وتأتوي

إلى ظلّه إن أحرقَتْك السَّـمائِمُ

ولـكـن أنـا يـا حـسـرتـاه فـلـم أجِـدْ

جديرا بما تنشقّ عنه المباسِمُ

فـما قـائد مـن قادة العُـرْب ليس لا

تجـوز علـيه اليوم إلّا الشّتائِمُ

غضبُ يحيى عطاالله على أمّته عظيم بقدر سوء حالها ودوام خنوعها وتركها للآخرين ليتحكّموا باقدارها. لهذا فهو يراها في قصيدة “زلزال” (ص 99)، بلغت من سوء الحال مبلغا لا يُصلح إلّا بزلزال يمحو جمودها، جمودنا، و”يغسل العقلَ من إرث وذاكرةٍ” و”يخلقنا من جديد”:

لن يَصلح الحال إن لم يأتِ زلزالُ

يهدم حالًا ليُبنَى بعـدَه حالُ

… … …

يُفني الجمود فلا يُبقي على جمدٍ

غطاؤه الله والميراثُ والآلُ

الزلزال الذي يرمي إليه يحيى عطاالله هنا، هو رمز  يُحيل إلى الثورة التي تحتاجها الأمّة العربية، الثورة على ما لم يعد يُلائم العصر من موروثها، وعلى أصنامها الجدد الذين لا همّ لهم إلّا منع قيام تلك الثورة، لأنّ الثورة هي ما سيقضي عليهم ويصنع من أمّتهم خلقا جديدا.

كان الشاعر مدركا أنّ الزلزال الحقيقي يهدم ويمحو ولا يَبني، لذلك حين قال “يخلقنا من جديد”، قصد به الثورة. ولذلك وظّف الفعل المبني للمجهول “ليُبنَى”، لأنّ الزلزال الحقيقي كما أسلفت، يهدم ولا يبني، بينما الثورة تبني أمّة قادرة على البناء. ولكنّ المشكلة التي تؤرّق يحيى عطاالله هي أنّ ثورة الأمّة العربية ما زالت في علم الغيب. يحيى عطاالله بفكره ونظرته الثاقبة، يُدرك حاجة الأمّة إلى الثورة، لكنّه بسبب أوضاعها المزرية، لا يُدرك متى ستأتي تلك الثورة، أو إن كانت ستأتي أصلا؟!

* * * * *

لا يُمكن في هذا المقال رغم طوله، أن نقول كلّ ما يُمكن أن يُقال حول يحيى عطاالله وشعره، ولكن ما لا شكّ فيه، هو أنّه في دواوينه الثلاثة، ورغم أنّه ما زال في بداية عطائه، فقد استطاع أن يبني صرحا أدبيّا وشعريّا، قويّا وشامخا، يعكس مدى توهّج إحساسه ومدى تمكّنه من تدبير قصائده، شكلا ومضمونا، كما سبق وقال عنها، رغم أنّ المعنى يصلُح على حدٍّ سواء، كتعبير ذاتيّ يُوجّهه الشاعر لنفسه، ويصلح كتعبير عن تجربة الشاعر الحكيم، يُوجّهه للشعراء الآخرين وللقرّاء عامّة:

ولا تُـفهـم الأشـعار بالـفكر إنّـما

تُـدبّـر بـالإحسـاس حـيـن تُـدبّـرُ

By د. محمد هيبي

أستاذ اللغة العربية، كاتب وناقد أدبي. ولد في 5/3/1952 في قرية كابول، في الجليل الغربي، القريبة من "ميعار" المهجرة، مسقط رأس والده الشاعر الشعبي الفلسطيني، أحمد محمد هيبي (المعروف بالكشّوع أو أبو عصام الميعاري). هُدِمت ميعار وشُرّد أهلها في النكبة الفلسطينية عام 1948.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *