من مسرحية “الزمن الموازي”، تمثل تحديًا يجب تصعيده

على الحركات التي تمثل الأقلية العربية، تمثيلا سياسيا وغير سياسي، والمؤسسات العربية على اختلاف توجّهاتها، السياسية وغير السياسية، وعلى اختلاف مستويات تمثيلها، أن تعلم أنّ الهجمة العنصرية التي تطال مسرح الميدان اليوم، إنما تُهدّد كل مؤسسة عربية تُمثل الإنسان العربي في هذه البلاد بصدق وأمانة. ولذلك، عليها ألّا تنتظر حتى يأتي دورها، إذ عندها لا لوم لها على أحد إذا لم يسمع استغاثاتها.

 
 
السلطة والرقابة في أيّ زمان ومكان توأمان. والسلطة المستبد ة هي عدو الحقيقة. ذلك لأنّها تلتزم بمصالحها فقط. ومهما تقنّعت بالديمقراطيّة لتجميل صورتها، ومهما حاولت إخفاء وجوهها البشعة، ورقابتها كوجه من تلك الوجوه، فلن يُغيّر ذلك شيئا من وجود رقابتها وقرفها، ومن كون تلك الرقابة تعمل لمصلحة السلطة وليس لمصلحة الفرد والمجتمع اللذين تدّعي السلطة كذبا الحفاظ عليهما، بينما هي في الحقيقة تحافظ على نفسها ومصالحها. أمّا الإبداع الصادق، فتاريخه هو تاريخ الصراع ضد الاستبداد، وتاريخ الصدام مع السلطة المستبدّة، لأنّ هدفه هو البحث عن الحقيقة، وفضح السلطة واستبدادها. وهذا ما يجعل للمبدع وإبداعه سلطتهما في المجتمع. لأنّ سلطة الإبداع والمبدعين بعكس السلطة المستبدّة، فهي تستمدّ قوتها وتأثيرها من مصداقيتها وليس من قدرتها على القمع. هؤلاء المبدعون، الذين يبحثون عن الحقيقة ويلتزمون بها، يلتزمون أيضا بقضايا مجتمعهم وشعبهم والإنسانية عامة، ولذلك فإنّ إبداعهم لا يصبّ في مصلحة السلطة، ولا يتّفق مع أيديولوجيتها، بل يسعى إلى تعريتها وفضح ممارساتها البشعة. وبهذا يصبح المبدعون وإبداعهم مصدر قلق وخوف للسلطة المستبدّة، فتعمل هذه الأخيرة على قطع العلاقة بينهما، وذلك للتخلّص من الإبداع وتأثيره وخطره عليها، وكذلك للتخلّص من المبدع شخصيا إذا اقتضت مصلحة السلطة المستبدّة ذلك. لأنّ السلطة المستبدّة لا مصداقية لها، لذلك لا سلاح لها إلّا القمع.
هذا الكلام ينطبق على أيّة سلطة مستبدّة، حتى لو لم يكن لرقابتها دوافع أخرى غير السياسة والعداء للحقيقة. وهو ينطبق أكثر على السلطة في إسرائيل، لأنّ لها، غير دوافعها السياسية، دوافع أخرى أبرزها العنصرية. فهي سياسيا، تكيل لليمين بمكيال يختلف عن مكيالها لليسار. وعنصريا، تكيل لليهود بمكيال يختلف عن مكيالها للعرب.
من يتتبّع الحركة الإبداعية عامة في إسرائيل، وبشكل خاص الحراك الثقافي الآخذ في الاتساع في الفترة الأخيرة في الوسط العربي، خاصة في مجال الكتابة والنشر، يعتقد لأول وهلة أنّه لا توجد رقابة في إسرائيل على حرية الإبداع والنشر والتوزيع. ولكنّ ما حدث مؤخّرا يُؤكّد العكس تماما، يُؤكّد سقوط ورقة التوت لمن لم يكن قد رآها قد سقط منذ زمن بعيد. ويؤكّد أنّ دوافع السلطة ورقابتها في إسرائيل، هي دوافع سياسية رجعية، وكذلك دوافع عنصرية قذرة في آن معا. وإلّا، كيف يُمكننا أن نفهم تصرّف وزيرة الثقافة في وقف تمويل مسرح الميدان بسبب عرضه لمسرحية “الزمن الموازي”، مهما كان موضوعها؟ وكيف يُمكن أن نفهم مجرّد تفكير الوزيرة باستمرار الدعم المادي لمهرجان السينما في القدس لنيته عرض فيلما وثائقيا عن “يجئال عمير”، قاتل رئيس وزراء سابق في إسرائيل مع سبق الإصرار؟ أليس في ذلك دعم للقتل السياسي والقتل عامة، على أسس سياسية وعنصرية وغيرها؟
من هنا يبدو واضحا، ليس توجّه الوزيرة التي لا حاجة لذكر اسمها لأنّه لا يعني شيئا، وإنّما توجّه السلطة التي تُمثلها، والتي كان نهجها دائما نهجا عنصريا بشعا، ولكنّه تفاقم بلا حدود في العهد البيباوي الدموي، ليس ضد الإبداع فقط، وليس ضد العرب فقط، وإنّما ضد كل ما هو إنساني. ومن المؤسف حقّا، أنّ الحركات الإبداعية في إسرائيل، والتي قال عنها المحامي دان ياكير، المستشار القضائي لجمعية حقوق المواطن، حسب ما ورد في صحيفة “الاتحاد” يوم 17/6/2015، ص 4: “إن جمهور الفنّانين في إسرائيل يشعر بالتهديد في الأسابيع الأخيرة بعد الهجمة المستمرة على حرية الانتاج وحرية التعبير. على الرغم من وجودهم في الواجهة في هذه اللحظة، إلا أن هذا التهديد يطال الديمقراطية الإسرائيلية”. وأضاف “إنّ حرية التعبير عن الرأي هي حقّ أساسيّ مكفول لكافة الجمهور: يحقّ للفنانين حرية ثقافية للإنتاج الفني، ويحق للجمهور العام الانكشاف على الأعمال الفنية بكافة أشكالها ومضامينها”. هذا صحيح وحقّ ولكن، من المؤسف أنّ تلك الحركات الإبداعية، لا تأخذ دورها الحقيقي في التصدّي للسلطة وعسفها السياسي والعنصري، الأمر الذي يُثير الشكوك حول مصداقية تلك الحركات وصدق إبداعها. فما حدث مؤخرا هو امتحان لها، وما إذا كانت تخدم الفكر الإنساني، أو تخدم فكر السلطة، التي لا تنفع معها إلّا المواجهة الشجاعة، لكشف نواياها السيئة وممارساتها البشعة، ربما ضد كل ما هو عربي بشكل خاص، ولكن ليس ضده فقط. وأنا على ثقة أنّ هناك الكثيرين من المبدعين اليهود، يُدركون ذلك، سواء واجهوا السلطة أو تقوقعوا في خوفهم منها، أو تقوقعوا تحت عباءتها.
ومن هنا أيضا، لا بدّ من التوجّه إلى الحركات التي تمثل الأقلية العربية، تمثيلا سياسيا وغير سياسي، وإلى المؤسسات العربية على اختلاف توجّهاتها أيضا، السياسية وغير السياسية، وعلى اختلاف مستويات تمثيلها للجمهور العربي وخدمة مصالحه، أن تقوم هذه الحركات والمؤسسات بدورها الفاعل في حماية المواطن العربي، وحماية حقوقه ومصالحه في هذه البلاد، وأن توسّع اهتمامها بالإبداع والمبدعين، وأن توفّر لهم سبل الدعم، المادي والمعنوي، لأنّ المبدعين في كل أمّة، هم ضميرها الحيّ الذي يُعبّر عن آمالها وطموحاتها. وعلى هذه المؤسسات أن تعلم أنّ الهجمة العنصرية التي تطال مسرح الميدان اليوم، إنما تُهدّد كل مؤسسة عربية تُمثل الإنسان العربي في هذه البلاد بصدق وأمانة. ولذلك، عليها ألّا تنتظر حتى يأتي دورها، إذ عندها لا لوم لها على أحد إذا لم يسمع استغاثاتها.
 
السبت 27/6/2015

By د. محمد هيبي

أستاذ اللغة العربية، كاتب وناقد أدبي. ولد في 5/3/1952 في قرية كابول، في الجليل الغربي، القريبة من "ميعار" المهجرة، مسقط رأس والده الشاعر الشعبي الفلسطيني، أحمد محمد هيبي (المعروف بالكشّوع أو أبو عصام الميعاري). هُدِمت ميعار وشُرّد أهلها في النكبة الفلسطينية عام 1948.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *