قراءة في مجموعتها القصصية، “مأذون من الليكود”!

أن يلجأ الإنسان إلى الذاكرة، هذا يعني أنّ لدى صاحبها، دافعا نفسيّا يدفعه ليستحضر منها ما يُسعده أو ما يُؤلمه ويُشقيه. لأنّ الذاكرة في مرحلة ما من العمر، تُصبح كالكتابة، تُشكّل ملاذا أو حافزا لها. والكتابة بحدّ ذاتها، شكل من أشكال الذاكرة. وقد يُشرق الألم في نفس هذا الكائن الغريب، الإنسان، فيُنتج عن هذا الإشراق، سعادة قد لا يشعر بها إلّا هو. ولكن عندما يكتب، سوف يستشفّ القارئ تلك السعادة من نصوصه، وقد يسعد بها هو أيضا.

 شوقية عروق، في كتاباتها عامة، تطرح قضايا تمتحها من واقعها الذي يتعالق فيه الشخصي أو الذاتي بالجمعي. ولكنّ ما يُميّز شوقية عروق وتلك القضايا التي تطرحها في مجموعتها القصصية، “مأذون من الليكود”، هو كونها، شكلا ومضمونا، محكومة بالذاكرة والألم والسخرية!

الذاكرة

الذاكرة عند شوقية عروق، هي ذاكرة يتعالق بها الشخصي بالجمعي، فهي ذاكرة شخصية لارتباطها بأحاسيسها وانفعالاتها النفسية وبسيرتها الذاتية، حيث ترويها لنا، أحيانا بالتلميح وأحيانا بالتصريح، فتذكر اسمها، شوقيّة، وتكون هي بطلة قصّتها وراويتها. وهي تمتح من هذه الذاكرة، أحداثا عاشتها أو عايشتها، وتضعها في سياقها الزماني والمكاني، فتُقرّبها بذلك من السيرة الذاتية والتجربة الجمعية. فالإنسان لا يعيش في بيئته وحيدا، ولذلك، ذاكرة شوقيّة هي أيضا ذاكرة جمعية ترتبط بزمانها ومكانها وحضورهما الطاغي فيها، ترتبط أحيانا بالمجتمع العربي عامة، وأحيانا بالمجتمع الفلسطيني عامة، وأحيانا أخرى بالمجتمع الفلسطيني المحلّي الخاصّ الذي عاشت وما زالت تعيش فيه وتتفاعل معه، حيث تُسلّط الضوء بشكل خاصّ على النكبة، وعلى مدينة الناصرة، وعلى السلطة الصهيونية التي تُسيطر عليهما. في الناصرة كان فرح الطفولة وآلامها، وكانت بداية الوعي والتّفتّح على مجتمع ظالم ومظلوم، مجتمع تظلمه السلطة وتقهره، ولا تكفّ عن محاولات إخضاعه وتدجينه وتشكيل شخصيته بما يتّفق مع مصالحها. وهو بدوره يظلم نفسه بظلمه لأبنائه، وبشكل خاصّ ظلمه للمرأة.

ولم يكن غريبا أن تختار شوقيّة عروق قصّة “مأذون من الليكود”، عنوانا لمجموعتها، فهي قصّة موقف مبدئيّ وسياسيّ، تقفه الكاتبة من السلطة الصهيونية وعملائها، أولئك الذين أرغموها على العودة بذاكرتها إلى ذلك المخزون الكبير من الألم الذي سبّبه الأشخاص والأحداث. ولكن، رغم كل ذلك الألم، لم يتمكّن المجتمع من كسر “راسها اليابس”، وثنيها عن موقفها متمثّلا بموقف بطلة القصّة.

وذاكرة شوقيّة هي ذاكرة واقعية أيضا، إذ تعتمد الاتجاه الواقعي بأبعاده الاجتماعية والسياسية. فهي تمتح أحداثها وشخصياتها من واقعها الذي يتقاطع ويتداخل فيه الذاتي بالجمعي. وهي لا تكتفي بالتسجيل والتوثيق، بل تلجأ أحيانا إلى التخييل، إذ ليس المهمّ عندها هو استرجاع الماضي فقط، بل الأهمّ هو أعادة صياغته ليصبح جزءا من عالمها الحاضر. وهي تفعل ذلك إمّا رغبة بالتغيير وإمّا إمعانا في الوهم. وهنا تكمن أهمّيّة توظيف للذاكرة التي قد يتحوّل إبداعها إلى ثورة تتحدّى المجتمع والسلطة وما فيهما من زيف وفساد. وهنا أيضا، تكمن القيمة الجمالية للذاكرة ونصوصها، وهذه القيمة هي ما يعصف بذهن القارئ، يجذبه ويُمتعه ويستفزّه.

في قصة “لم تخرج ذاكرتي للتقاعد”، لا تترهّل ذاكرة الراوية/الكاتبة رغم خروجها هي للتّقاعد، ولا تفقد قدرتها على استرجاع أحداث يوم استقلالهم، يوم نكبتنا. ورغم ما مرّ عليه من سنين، ما زالت صوره طازجة في ذاكرتها، مفعمة بالحزن والأسى، ليس على من شُرِّدوا فقط، بل وعلى الباقين كذلك، ما يشي بأنّ الألم مستمرّ جيلا بعد جيل، حيث نرى الراوية تُعايش أحداث النكبة في قصص أبيها الذي روى لها قصّة قرية “المجيدل” المهجّرة، وقصة عمّها “جمال” الذي استشهد عندما رجع متسلّلا على الحاكورة فكان الرصاص بانتظاره (ص 19). هذا الألم الذي تنضح به قصص النكبة، لا يقلّ عنه الألمُ الذي عاشته الراوية كل عام في ذكرى يوم الاستقلال، وفي محاولات السلطة لطمس النكبة وأهوالها. ويظهر ذلك جليّا في تصرّف المعلمة التي تُمثل السلطة طوعا أو قسرا، حين تمنع الراوية من ذكر أنّها من “المجيدل”، قريتها التي هُدمت وشُرِّد أهلها منها، لتصبح الناصرة الباقية عنوانها. ولا يقتصر المحو على الراوية وقريتها، بل هو برنامج سياسي متكامل تُعدّه السلطة الصهيونية لطمس المعالم والشخصيات، ورسمها بشكل جديد يتلاءم مع مصالح الدولة الجديدة. هذا ما تُحيل إليه الصور وأعلام الدولة التي زيّنوا بها منصّة الاحتفال، والجوقة المدرسيّة التي تتمرّن على إنشاد “بعيد استقلال بلادي … غرّد الطير الشادي”.  صور كثيرة تزخر بها الذاكرة، وكلّها تنضح بألم مستمرّ لا ينتهي، لأنّ ذاكرة الراوية تفيض به كلّ عام في ذلك اليوم بالذات، يوم استقلالهم، يوم نكبتنا. والأسوأ من الذي يستقطب الألم كلّه، هو ذلك القلق الذي يتراكم كل عام، لأنّ تلك الذكرى تحلّ كلّ عام، “والانتظار ما زال في حالة انتظار، تلوكنا السنوات، وتبصقنا على رحيل يخرج من رَحِم رحيل” (23).

الألم

شوقية عروق تُعاني في قصصها، حالة نفسيّة مشبعة بالألم. وهو ما يدفعها نحو مخزون ذاكرتها ليتجلّى ألمها فيما تمتحه منها، من شخصيات وأحداث. وهذا يُعبّر عن صدقها وصدق معاناتها الشخصية والجمعية على المستوى الفلسطيني والعربي والإنساني.

منذ اختزنت ذاكرة شوقيّة ألم النكبة، يتواصل الألم في معظم قصصها. كلّ الأحداث التي تمرّ بها لها علاقة، مباشرة أو غير مباشرة بالنكبة وما جلبته عليها وعلى مجتمعها وشعبها. وبذلك أصبحت حياتها وذاكرتها محكومتين بالألم. وكذلك قصصها، سواء متحتها من الذاكرة أو من الواقع الراهن، أو من كليهما معا، حيث يتعالق في ذاكرتها، الحاضر بالماضي. وهذا الألم المتواصل يدفع الكاتبة أكثر فأكثر نحو التشاؤم. يبدو ذلك واضحا في النصوص وفي نهاياتها، حيث لا نكاد نجد نهاية تدعو للتفاؤل، أو تفتح بابا للأمل. في نصوص هذه المجموعة نجد عند شوقيّة عروق، تحوّلا ملموسا نحو التشاؤم، إذ في قصص مجموعتها السابقة، “سرير يوسف هيكل”، كانت على الأقلّ، تمنح بعض نهايات قصصها، بعض الأمل، حتّى وإن كانت لا تُخفي تشاؤمها وشعورها بالإحباط، بينما في قصص هذه المجموعة لا نجد إلّا التشاؤم المتحدّر من الألم والشعور بالإحباط اللذين يملآن نصوصها، وكذلك من النهايات التي لا تفتح كما أسلفت، بابا للأمل، ويُضاف إلى كلّ ذلك، توظيفها للسخرية التي تقطر غضبا وحزنا وألما. فأيّ أمل ينتظر ذلك الفلسطيني الذي يعدّ مربعات بوّابة الحاجز الأمني، انتظارا لجثّة أخيه الذي كان يعمل في إسرائيل ومات مشرّدا فيها؟

في قصة “الموت في إسرائيل”، وهي ممتوحة من الهمّ الفلسطيني وواقعه الرازح تحت الاحتلال، والاحتلال استمرار للنكبة، واستمرار لتدفّق الألم بصوره وأشكاله، في هذه القصّة، ألم الموت وحده يكفي، فما بالك حين ينقضّ في ظروف مأساوية مثل موت عامل فلسطيني في إسرائيل، وهو مشرّد يبحث عن لقمة العيش في ظروف لاإنسانية؟ ويصحب هذا الألم، ألم الأهل، وقسوة انتظارهم على الحاجز لاستلام جثمان فقيدهم، انتظار ساعات تصير أيّاما، لا لسبب إلّا لامبالاة الآخر وضلوعه في تعذيبهم وقهرهم. والآخر هو الاحتلال وجنوده الذين يدّعون أنّه يجب تفتيش الجثة التي ترقد في مخزن الجثث الكثيرة التي تنتظر. وهم يتعاملون مع الحالة بأعصاب باردة، لا بل بدم بارد، ووقوع جندية في أحضان جندي بين كل سيارة وسيارة تعبر الحاجز (29). إنّه ألم من نوع آخر يعيشه الفلسطيني المنتظر على الحاجز وهو محبط عاجز عن فعل شيء إلّا الجلوس على حجر، والانتظار وعدّ مربعات بوابة الحاجز (33). شوقيّة عروق تختزن في قلبها وذاكرتها كل هذا الألم، فهو ألم الفرد الذي يرى نفسه جزءا لا يتجزّأ من الجماعة. وفي هذه الحالة، كيف لا تتألّم شوقية ولا تتشاءم وهي لا ترى نهاية، لا للهمّ الفلسطيني، ولا للاحتلال وجرائمه وموبقاته؟

في قصة “استقالة ورقة التوت”، يتّسع الألم ليصبح عربيا. تفضح شوقيّة العملاء على مستوى الوطن العربي. تفضح الزعماء العرب وعُريَهم التاريخي، بعد سقوط ورقة التوت التي “فتّشوا عنها في كتب التاريخ، وفي معاهدات السلام، وبين أقبية اللقاءات الدوليّة السريّة، واللقاءات الدوليّة العلنيّة التي لم تعد تخجل من إعلانها” (50). استقالة ورقة التوت تعني أنّ الخجل نفسه أصبح يخجل مما كانوا يفعلونه سرّا، وأصبحوا اليوم يُتاجرون بالقضية والوطن علنا. وكلّ ما يهمّهم هو انتفاخ أرصدتهم. والأكثر من ذلك ألما وقسوة، هو أن المواطن ليس عاجزا عن ردعهم فحسب، بل هو مرغم على التصفيق لهم.

وفي قصّة “أنا في دار الصيّاد”، تتألّم الكاتبة لإغلاق “دار الصيّاد” التي زارت فرعها في القاهرة، ولكنّها تتألم أكثر لإغلاق مكتبة “البشارة” التي كانت منذ عام 1973، مكتبة عامّة لأهالي الناصرة (52). وكانت شوقيّة تزورها يوميا لدرجة أنّه أصبح لها فيها مقعد معروف باسمها (53). من تلك المكتبة استقت شوقيّة معرفتها، وفيها أسّست ثقافتها.

إغلاق “دار الصيّاد” ومكتبة “البشارة”، والوضع المثير للحزن والألم، الذي آلت إليه الثقافة العربية بذريعة الأوضاع الاقتصادية، هما أمر لا ينفصل عن مضمون قصّة “استقالة ورقة التوت” السابق ذكرها، فعُري القادة والزعماء هو السبب الحقيقي لاستقالة الثقافة العربية وعجزها عن خدمة أبنائها. فالأموال لا تجد طريقها إلى المؤسّسات الثقافية، بل إلى أرصدة تُجار الوطن. والمضحك المبكي هو السؤال الذي يطرح نفسه ساخرا: ما حاجة المواطن بالثقافة ما دام زعماء الوطن يبيعونه علنا؟! هذه الحالة تُثير الحزن والألم والحسرة، وأقسى ما فيها أنّها أصبحت روتينية، أو شيئا عاديا، إذ لم يعد غريبا إهمال عمل بطوليّ مثل ذلك الذي قامت به الممثلة المصريّة المعروفة، “نادية لطفي”، التي زارت بيروت أيّام الحصار عام 1982، “وسجّلت عشرات الأشرطة، والتقطت مئات الصور من داخل الحصار، حيث عاشت مع المقاتلين والناس في تلك الفترة العصيبة”. وكانت شوقية قد استقت هذه المعلومات من مجلات مكتبة “البشارة” في الناصرة (54)، قبل أن تلتقي لاحقا بنادية لطفي شخصيا في القاهرة. وبعد أن التقتها وسمعت منها كل القصّة، يتفجّر ألم شوقية عروق لأنّ نادية لطفي “لم تجد أيّة جهة، تتبنّى مشروع الفيلم الوثائقي عن حصار بيروت … وأمّا الصور والأشرطة التي سجّلتها كوثائق تاريخية، فهي مرميّة في المخزن أسفل بيتها، ولا تعرف ماذا سيكون مصيرها بعد موتها (56). فكيف لا تتشاءم شوقيّة ومصير هذه الوثائق، لا يُمثّل مصير الثقافة العربية فحسب، بل مصير الحالة العربية كلّها؟

في القاهرة أيضا، تعرّفت شوقيّة على الصحفي الفلسطيني “سليم أبو الخير”، رئيس تحرير مجلة “الشبكة” في القاهرة. والمفاجأة التي لم تحسب شوقيّة لها حسابا، هي أنّ جارتها التي رافقتها في زيارتها للقاهرة، عرفت “سليم أبو الخير” منذ اللحظة الأولى التي رأته فيها، إذ قالت له تُؤكّد معرفتها له: “ولك سليم … ولك سليم!!”، فقد “كانت جارتهم في مدينة “جنين” قبل عام 1948″ (55). وهنا نجد أنّ الكاتبة قد وُفّقت في توظيف التراث للتعبير عن المشهد الذي رأته، بتوظيفها للمثل الشعبي الممتوح من صميم تراثنا وواقعنا، “جبل على جبل ما بلتقي، بني آدم على بني آدم بلتقي”. وهكذا في قاعة الفندق القاهريّ، أصبح اللقاء فلسطينيا، و”كانت ليلة فلسطينية بامتياز، ليلة دموع وقهر، وأسماء غابت وذابت في ليالي الغربة” (56). أليس هذا ما يُقلق شوقيّة وما تحلُم به، أن يجتمع شمل الفلسطينيين الذين شتّتتهم يد الغدر وتواطؤ الأنظمة العربيّة الرجعيّة العميلة التي سقطت عنها ورقة التوت.

ما حدث لـ “دار الصيّاد”، ولمكتبة البشارة، ولمشروع نادية لطفي، يُشير بوضوح إلى الأوضاع البائسة التي آلت إليها حال العرب عامة، وحال الثقافة العربية بشكل خاصّ. وهو بكل تأكيد، يُحيل أيضا إلى حالة شوقيّة عروق النفسية وإلى قسوة ذاكرتها وعمق الألم الذي تختزنه.

السخرية

تولد السخرية التي تُعبّر عن الحزن والألم، في لحظة حرجة ينفطر فيها القلب، حين يتفجّر فيه الحزن والألم. في تلك اللحظة تتداخل مشاعر المُصاب، فلا يدري هل يضحك أم يبكي، فشرّ البليّة ما يُضحك؟ وهي لحظة تشبه تلك اللحظة التي يتحوّل فيها البكاء في مآتمنا، إلى غناء حين يكون المتوفّى شابّا، حيث تبدأ أقرب النساء إليه بالغناء الذي يختلط بالنواح والدموع. واجده نوعا من إشراق الحزن حين يصل إلى أقصى درجاته. ذلك هو ألم شوقيّة عروق التي ينفطر قلبها للحالة التي آل إليها واقعنا المحلّي خاصّة، والفلسطيني والعربي عامة. ولذلك نجدها في كتابتها بشكل عام، كما في هذه المجموعة، تسخر من هذا الواقع، وتوجّه سخريتها المباشرة أحيانا والمبطّنة أحيانا أخرى، نحو السلطة والمجتمع اللذين يعملان معا وكلٌّ على حده، لتكريس هذا الواقع بما فيه من ظلم وقهر. وهي بسخريتها، تضرب عصفورين بحجر، تُعبّر عن غضبها وحزنها وألمها، وتفضح السلطة والمجتمع وتُعرّيهما.

كل قصّة من قصصّ المجموعة، هي بحدّ ذاتها تعبير ساخر عن جانب من جوانب الواقع بما فيه من مواقف مخزية نقف أمامها حائرين: هل نضحك أم نبكي؟ إذ لا يُمكننا فهم قصّة “المرأة الرجل”، إلّا في هذا الإطار، حيث لا تجد المرأة في المجتمع الذكوريّ، وسيلة أفضل من أن تتحوّل إلى رجل، لكي تتمكّن من انتزاع حقوقها؟ وكذلك الأمر في قصّة “مأذون من الليكود”، هل هناك ما يُثير السخرية أكثر من أن يُصبح عملاء السلطة الصهيونية، هم من سيعطي الشرعية لحياتنا وعلاقاتنا وارتباطانا المتمثّلة بالزواج؟

وللسخرية في قصّة “الموت في إسرائيل” طعم آخر، هو طعم الحسرة والمرارة في أوج اضطرامهما. النموذجان أو المقطعان التاليان يتحدّثان عن نفسيهما، ولا يحتاجان للشرح والتفسير، لأنّ كل كلمة عن كونهما قمة الحزن والألم والقهر، ستكون زائدة.

في المقطع الأول، يتذكّر الراوي أثناء انتظاره جثّة أخيه، “أنّه في إحدى الجنازات، تذكّر زوجته وهي بملابس النوم، لكن سرعان ما خجل وغرق في الاحمرار، خوفا من اكتشاف تفكيره الجنسيّ، فقام وصرخ بصوت عالٍ: يا شهيد ارتاح ارتاح/ إحنا بنكمّل كفاح” (28).

وفي الثاني، تدور الأحداث ساعة انتظار الفلسطيني لجثّة أخيه على حاجز التفتيش الأمني: “الجثمان لم يصل بعد، والجنديّة الواقفة أمام بوابة الحاجز، تُطلّ من بين القضبان، تضحك مع جنديّ يُحاول مغازلتها، ويُمسك خصلة من شعرها، يشدّها فتتأوّه وتقع بين أحضانه، تقوم من بين أحضانه عندما تقف سيارة أمام الحاجز، تدلّي رأسها داخل نافذة السيارة، تنظر داخلها بعيون يقظة، تطلب بطاقات الهويّة، وعندما تعرف أنّهم يهود من المستوطنات، تبتسم وتعتذر بسرعة، وتفتح الحاجز للانطلاق” (29).

بمثل هذه السخرية التي تنضح ألما، تُحرّر شوقية عروق، مخزون ذاكرتها، لتضعه بين أيدينا. ولكنّ نزعتها البارزة إلى التشاؤم في هذه المجموعة، تجعلني حائرا بين أمرين: هل تريد الكاتبة أن تستفزّنا بسخريتها، أم تريد أن تقول لنا إنّ الأوان قد فات، ولم تعد هناك فرصة للإصلاح؟ وبين هذا وذاك، يظهر أنّه لا بدّ لنا أن ننتظر معها، إلى أن يشرق الحزن.

By د. محمد هيبي

أستاذ اللغة العربية، كاتب وناقد أدبي. ولد في 5/3/1952 في قرية كابول، في الجليل الغربي، القريبة من "ميعار" المهجرة، مسقط رأس والده الشاعر الشعبي الفلسطيني، أحمد محمد هيبي (المعروف بالكشّوع أو أبو عصام الميعاري). هُدِمت ميعار وشُرّد أهلها في النكبة الفلسطينية عام 1948.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *