لا يحتاج الموضوع الذي سأخوض فيه في هذه العجالة، إلى معرفة عميقة بأسرار السياسة أو الحرب، وربما تكفي نظرة موضوعية فاحصة إلى ما يجري، ليقف الناظر على بعض الأمور التي يراها البعض بشكل مختلف. وهذا وحده سبب كاف لطرح وجهات نظرنا في مواضيع مختلفة، في السياسة والحرب وغيرهما، لنقاشها وتقريبها، أو لكشف صحّة زاوية الرؤية أو خطئها. وعليه سأطرح هنا وجهة نظري حول الحروب السياسية والعسكرية الدائرة في منطقة الشرق الأوسط، وكونها كما أراها، ليست أكثر من حروب بالوكالة. ولا يُخطئ من يرى أنّ ما يُميّز الحروب في العقود الأخيرة، هو كونها حروبا بالوكالة. فهي تُخفّف الكثير عن كاهل القوى الدافعة لها، وخاصة في المجال السياسي والموقف أمام الرأي المحلّي والعام.

ولشرح المصطلح باختصار، فالحرب بالوكالة تعني تلك الحرب التي تستخدم فيها القوى الكبرى العسكرية والسياسية التي تتنافس على النفوذ في العالم أو في منطقة ما منه، سواء كانت القوى الكبرى إقليمية أو دوليه، تستخدم فيها قوى أصغر منها، لتخوض الحرب بدلا عنها، وقد تكون تلك القوى الصغرى، حكومات أو أنظمة أو أحزابا سياسية أو جماعات إرهابية، تستأجرها القوى الكبرى أو تُسخّرها لتقوم بضرب طرف آخر، دون أن تنجرّ هي إلى حرب شاملة أو حرب مباشرة معه.

العالم كما أراه، على مستوى الدّول والحركات السياسية والعصابات العسكرية وغير العسكرية، مليء بالحروب العسكرية والسياسية والاقتصادية وغيرها. ولكن، فيما يتعلّق بالحروب السياسية والعسكرية، نكاد لا نسمع في أيّ جزء من العالم عدا الشرق الأوسط، أي العالم العربي وبعض العالم الإسلامي، عن حرب تدور فيه رحاها وتستمرّ كما تدور وتستمرّ في هذه المنطقة. والناظر إلى هذه الحروب بعين “مَن هو المستفيد؟”، سيجد أنّ كلّ هذه الحروب هي حروب بالوكالة، تفرضها على الطغم العسكرية الفاسدة، الطغم السياسية الأكثر فسادا، فتُنفّذها الأولى باسم شعوبها إعلانا فقط، في حين ليس لتلك الشعوب في هذه الحروب مصلحة أو فائدة تُذكر، وإنّما هي حروب بالوكالة عن جسم ثالث، هو في الحقيقة الجسم الأوّل والآخر من حيث الفائدة والحسابات السياسية، وسنأتي على ذكره لاحقا.

في منطقة الشرق الأوسط، الشعوب العربية، وإلى حدّ ما الشعبان الإيراني والتركي، هي وقود هذه الحروب السياسية والعسكرية، فمن دمها ودم أبنائها، ومن قوت يومها ومساحة حريّتها، تدفع ثمن هذه الحروب. وأتحدّى أن يُشير أحد إلى حرب سياسية أو عسكرية في المنطقة، جنت منها الشعوب المشاركة فيها قسرا، أيّة فائدة عسكرية أو سياسية أو اقتصادية، كما أتحدّى، والتحدّي هنا ليس هدفه التناطح بل النقاش الموضوعي، أتحدّى أن يُشير أحد في هذه الفترة، إلى حرب عسكرية جديّة من حيث الأهمّية والحجم، تدور في أيّ زاوية من زوايا العالم سوى الشرق الأوسط بمركّبيْه: العربي والإسلامي. هنا مركز العالم ومركز الصراع لأسباب كثيرة، أهمّها الهيمنة السياسية والاقتصادية التي تسعى إليها الدول الكبرى، وعلى رأسها زعيمة العالم الإمبريالي وحلفاؤها. وهي كلّها حروب بالوكالة.

ولماذا هي حروب بالوكالة، وبالوكالة عن مَن؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بدّ من الرجوع إلى الحرب نفسها، وكونها حرب عسكرية-سياسية، أو سياسية فقط، وإلى الأطراف العسكرية والسياسية المتصارعة فيها، والأهمّ من ذلك كلّه، الرجوع إلى من هو المستفيد الأوّل من هذه الحرب أو تلك؟

حرب اليمن مع السعودية مثلا، أو الأصحّ، حرب السعودية وحلفائها على اليمن، منذ بضع سنين ورحاها تدور على الشعب اليمني الفقير. ورغم صموده المدهش حتى الآن، لم يجنِ منها غير الويلات بكل المعايير الإنسانية والاقتصادية والسياسية والعسكرية. فهل هناك من هو قادر على الإشارة إلى فائدة واحدة مباشرة أو غير مباشرة، جناها الشعب اليمني، أو حتى الشعب السعودي من هذه الحرب؟ إذن من المستفيد الذي يجني فوائد هذه الحرب؟

الحرب في سوريا أو على سوريا، وتدور رحاها منذ عشر سنوات تقريبا، بين النظام وبين العصابات التي تعتبر نفسها وحربها ثورة على النظام ترمي إلى تحرير الشعب السوري من استبداده. ورغم أنّنا لا ننكر استبداد النظام السوري منذ أن نشأ بعد الاستقلال عام 1946، وخاصة في الفترة الأخيرة، فترة الأسدين، لكن يحقّ لنا أن نسأل ونتساءل: أين اختفى المعارضون الحقيقيون الذين بدأوا الثورة؟ ومن الذي حوّلهم إلى عصابات أو استبدلهم بالعصابات؟ وهل استطاعت هذه العصابات أن تُحقّق للشعب السوري شيئا من حريّته، أم أنّها جنت عليه وجلبت له نكبة تكاد تُعادل نكبة الشعب الفلسطيني؟ الحقيقة أنّها لم تُحقّق له شيئا غير القتل والخراب والدمار والتّشريد، هذا بالإضافة إلى فتحها الطريق أمام التدخّل الأجنبي، مع النظام أو مع العصابات ضدّ النظام. وهذا التدخّل الأجنبي لا نرى له نهاية تلوح في الأفق القريب أو البعيد. والحرب كلّها حتى الآن، لم تهيّئ أيّة فرصة لتحرّر الشعب السوري الذي كان قبل الحرب يتمتّع بوضع اقتصاديّ أكاد أقول ممتازا، ويتمتّع ولو بشكل نسبيّ، بنزر يسير من الحريّة رغم دكتاتورية نظامه، وقد فقد هذا النزر اليسير الآن، ولا ندري متى سيقف على رجليه ويتمكّن من استعادته. هذا بالإضافة إلى أنّ حجم الويلات التي حلّت به على كافّة الأصعدة، سيحتاج أيضا إلى عشرات السنين، بعد انتهاء الحرب إذا انتهت، كي يتخلّص منها ويستعيد وضعه الذي كان ينعم فيه قبل الحرب، فعلى صعوبته كان أفضل ممّا هو عليه الآن.

الحرب في ليبيا. كان القذّافي دكتاتورا بكلّ المقاييس، ولكن، هل هذه الدكتاتورية تستدعي أحدا غير الشعب الليبي ليكون وصيّا على حريّته؟ وكما أن الطبخة تفسد عندما يكثر الطبّاخون، تضمحلّ مساحة الحريّة عندما يكثر الأوصياء عليها من داخل الشعب، فما بالك من خارجه؟ لذلك هنا أيضا من حقّنا أن نسأل ونتساءل: مَن الأفضل بمقياس حريّة الشعوب، دكتاتور يُحافظ على سيادة البلد وموارده، وإن ظلم شعبه قليلا أو كثيرا بتوزيعها، أم نظام “ديمقراطيّ” يُمزّق الشعب والبلد بين القوى الخارجية التي تتصارع على مصالحها، وتنهب ثروات البلد وتُبدّدها ولا يستفيد منها الشعب شيئا، بينما ميدان الصراع هو جسده، وثمن الصراع دماؤه وحريّته وموارده وسيادته، ولا يبقى له إلّا أن يلعق جراحه في ظلّ الموت أو القهر والجوع والمرض والتّشرّد! وهل كانت ليبيا هي الدّولة الأولى أو الوحيدة، أو ستكون الأخيرة في العالم العربي، التي ارتكبت وتُرتكب فيها المجازر باسم الحريّة، في حرب بالوكالة، ليست حريّة الشعب بحال من الأحوال هدفا من أهدافها؟

الحرب بين مصر وتركيّا في ليبيا. سبحان الله! بهذه السرعة المشبوهة تتحرّك حساسية الأنظمة في العالم العربي والإسلامي، إذا كان الخصم عربيا أو مسلما، ولمصالح غير مصالحها، وما أسرع ما تلتقي جيوش الشعوب الإخوة! أمّا العدو الحقيقي، وهو أجنبيّ غالبا، فتستقبله أنظمتنا، أو ترغمنا على استقباله بالورود. فعن أيّ مصالح نتحدّث، ومن هو المستفيد منها؟ وهنا يُطرح الوجه الآخر للسؤال: ما هي مصلحة الشعب التركي، أو المصري، أو الليبي، في أن تسيل دماء أبنائهم وأبناء الشعب الليبي في ليبيا؟ وهل من مصلحة اقتصادية أو سياسية أو سيادية، تجنيها تلك الشعوب من الاقتتال بين جيوشها؟ وهل يُعقل أن يرضى شعب بشقاء شعب شقيق في العرق أو العقيدة إلّا في ديار العروبة والإسلام؟ المطالب بالإجابة عن هذا السؤال، هي أنظمة العار وزعماؤها الخونة الذين يُقرّرون لشعوبهم ما ترضى وما ترفض، طالما كانت تلك الأنظمة قادرة على ترسيخ جهل شعوبها وسباتها! ولكن تظلّ الإجابة الحقيقية والقول الفصل بيد الشعب نفسه مهما ترسّخ جهله وطال سباته؟

حرب مصر وإثيوبيا. إثيوبيّاً، ما حاجة إثيوبيا لسدّ (النهضة) يُقام على نهاية النهر ضمن حدودها مع حدود دولة مجاورة، وكلّ فوائده الاقتصادية مشكوك بها، وأعظم “فائدة” منه لا تتحقّق إلّا إذا انهار بعد امتلائه؟ وأعظم “فوائد” انهياره إغراق مصر والسودان ومسحهما عن الوجود؟ فمن له مصلحة بهذا المصير لكلتا الدولتين؟ وبالمقابل، مصرياً: لماذا سكتت مصر أثناء كلّ مراحل بناء السدّ، وهي تعرف خطورة بنائه وخطورة انهياره بعد امتلائه، لماذا سكتت من لحظة البدء بتخطيطه حتى البدء بملئه؟ ولماذا لوّحت بضرب السدّ بعد إتمام بنائه وعند البدء بملئه ولمّا تفعل، رغم قدرتها على ذلك ومعرفتها بما سيجلبه عليها هذا السدّ إذا انهار؟ ولا نُريد أن نتحدّث هنا عن خطر بنائه بالنسبة لمصر والسودان، حتى لو لم نأخذ بالحسبان إمكانية انهياره بعد ملئه، وهذا الخطر موجود فعلا!

هل حماس النظام الإثيوبي لبناء هذا السدّ المشكوك بأمر فائدة الشعب الإثيوبي منه باعتراف معارضي النظام، وكذلك التقاعس المصريّ في الردّ المناسب في الوقت المناسب عليه، هو لأنّ العقل المدبّر والمخطِّط والمستفيد بالنسبة للطرفين: الإثيوبي والمصري، هو عدو الأمس حليف اليوم الذي أصبح الشقيق المهيمن على مقدّرات المنطقة كلّها؟ أم أنّ التقاعس المصري نابع عن معرفة بأنّ فرعون وطغمته الفاسدة الحاكمة، سيكونون في الجوّ وقت الفيضان والذي سيغرق هو الشعب المصري فقط؟ وإلى أين سيتّجه الفرعون وطغمته عند ذلك؟ إلى نيويورك البعيدة أم إلى نيويورك القريبة؟ لا شكّ أنّه كرجل عسكري يعرف حساب المسافات، ويعرف أنّ المسافة بين القاهرة وبين نيويورك القريبة، هي 4.5% تقريبا من المسافة بين القاهرة ونيويورك البعيدة، ولكن، هل حساب الجغرافيا هو المقرّر؟؟

الحرب داخل لبنان. بغضّ النظر عن الجهة التي تقف وراء تفجير ميناء بيروت، وبغض النظر عن الجهات الداخلية والخارجية التي تقف وراء مآسي لبنان كلّها، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، سننظر مرة أخرى إلى من هو المستفيد. ولمَ لا يكون المستفيد هو الفاعل، حتى وإن لم يكن هو الفاعل بشكل مباشر، بل هناك من فعلها بالوكالة عنه؟

المضحك المبكي، أنّ هناك جهات عربية كثيرة، في حرب سياسية بالوكالة قد تجرّ إلى حرب عسكرية بالوكالة أيضا، تفعل كلّ ما بوسعها لإبعاد الشبهات عن المستفيد الأوّل، وإلصاق التّهمة بجهات لبنانية معروفة بوطنيّتها ولا يقبل العقل والمنطق ضلوعها في مثل هذه المأساة؟ وتلك الجهات العربية، بإلصاقها التهمة بتلك الجهة اللبنانية الوطنيّة، تنفي التهمة عن جهات خارجية في المنطقة، وعن جهات داخلية لبنانية ضالعة في عمالتها، وفي المذابح بالمبدأ وبالوكالة؟ اسألوا المخيّمين الفلسطينيّين: صبرا وشاتيلا!  

الحرب بين السّلطة الفلسطينية وحركة حماس. حرب سياسية أخرى بالوكالة، كانت قد مرّت بصدامات عسكرية هنا وهناك، ولا نستبعد أن تتكرّر تلك الصدامات أو تتفجّر في أيّ وقت، طالما أن مصلحة فلسطين والشعب الفلسطيني، ليست هي التي تحكم علاقات الفصائل الفلسطينية المختلفة، وعلى رأسها العلاقة بين السّلطة الفلسطينية وحركة حماس.

وعلى جدول أعمال الشرق الأوسط الآن، اتفاق تل أبيب-الإمارات. بغضّ النظر عن كونه هو أيضا حرب سياسية بالوكالة، وبغض النظر عن كلّ ملابساته ومدى خطورته، ومدى المسافة الزمنية التي قطعها حتى ولد هذه الولادة غير الشرعية، وقد يكون جنينه بدأ بالتّشكّل منذ اغتيال المبحوح، وربّما قبل ذلك بكثير، فبغضّ النظر عن كلّ ذلك أو بسببه، هذا الاتّفاق يجب أن يُشكّل ناقوس خطر أمام السّلطة الفلسطينية وحركة حماس، ويدفعهما لإنهاء الانقسام فورا، هذا لو كانت فلسطين مطروحة على جدول أعمالهما أصلا، ولو كانت قضيتها هي المقياس والموجّه! ولكنّنا نستبعد أن يُلبّيا ذلك المطلب الشعبي والوطني، لأنّ ما يحدث بينهما هو ليس أكثر من مراحل أو معارك في حرب بالوكالة، ليس بيدهما أمر إشعالها ولا إخمادها. وهنا تدفعنا هذه الظروف للعودة إلى السؤال: ما الفائدة التي يجنيها الشعب الفلسطيني من الانقسام وهذه الحرب الدائرة بسببه؟ هل من عاقل يُمكنه أن يُشير إلى غير الأضرار الجسيمة لهذا الانقسام، والتي تقع على رأس الشعب الفلسطيني وقضيته؟ أم أنّه يكفينا أن يتشدّق قادة حماس بسيادتهم الموهومة على غزّة الجائعة المقهورة التي تتعرّض لقصف أعدائها، داخلها وخارجها، ليل نهار؟ والسؤال الأهمّ من ذلك: من هو المستفيد الحقيقي من هذا الانقسام، أو هذه الحرب السياسية بالوكالة؟ أليس هو نفسه الطرف الذي يُلوّح بالحرب إذا التأم الجرح وزال الانقسام، والذي أكتب هذه السطور وهو يقصف فقراء غزّة ويُجنّب أغنياءها نيرانه. فهل كلّنا نعرف من هم فقراؤها واغنياؤها؟

إنّ النظر إلى كلّ تلك الحروب، من أيّة زاوية يُريدها الناظر، لن يكون موضوعيا إذا لم يبدأ، أو يمرّ على الأقلّ، بزاوية “من هو المستفيد؟”، وليس خافيا على أحد أنّ المستفيدين من تلك الحروب كثر، ولكن على أيّ صعيد؟ فاللاعبون السياسيون أو العسكريون في الحروب بالوكالة، لا يستفيدون على كلّ الأصعدة! والفائدة التي يجنونها هي فائدة جزئية ومحدودة جدّا. وقد لا تكون أكثر من فُتات، أو أكثر من طعام الأيتام على موائد اللئام، أو لا تكون أكثر من امرأة مغلوبة على أمرها يغتصبها مؤقّتا، مسافر في طريقه إلى مستودع الرحمة والحور العين. وقد لا يكون هذا ولا ذاك ولا تلك، فقد تكون فائدة المتحاربين بالوكالة ولذّتهم، تنحصران بوفائهم لأسيادهم وتحقيقا للذّتهم.

وعليه، فإنّ أيّة نظرة واقعيّة وموضوعية، إلى تلك الحروب، يجب أن تكون ثاقبة بقدرتها على رؤية وتحديد من هو المستفيد الأوّل على كافّة الأصعدة. ومثل هذه النظرة الثاقبة لا أراها ستبتعد قيد أنملة، عن واشنطن وتل أبيب، إلّا إذا أخطأتِ الهدف، قصدا أو عن غير قصد. فإذا اخطأته عن قصد، لن تكون المسافة الجغرافية بينهما هي السبب، ولا أعتقد أنّ هناك مسافة غير الجغرافية تفصل بينهما.

وإذا كان المستفيد الأوّل من كلّ تلك الحروب بالوكالة، هو واشنطن وتل أبيب، باعتبارهما جسما سياسيا عسكريا واحدا، يتشكّل من جسمين غريبين، كلّ في منطقته الجغرافية، وإذا كان وجودهما العسكري، المرئيّ على الأقلّ، نادرا في كل تلك الحروب، فإنّ وجودهما السياسي كثيف حتى وإن كان غير مرئيّ. وعليه، فإنّ تلك الحروب، هي حروب واشنطن وتل أبيب على شعوب المنطقة، حريّتها وسيادتها ومواردها. وبعدهما فقط يُمكننا أن نشير إلى دور حلفائهما في النظام الإمبريالي المستبدّ. فالناس في السياسة والاقتصاد كما في الاجتماع، درجات.

كل الحروب السابق ذكرها، وغيرها، هي حروب بالوكالة، تقوم بها الأنظمة العميلة التي تحكم بلادها وشعوبها في الظاهر فقط، بينما في الحقيقة، هي تُنفّذ سياسة المستفيد الأوّل، الحاكم الفعليّ المستغلّ لهذه الشعوب، والذي لا يُرعبه شيء مثل صحوتها، ولذلك لا همّ له إلّا ترسيخ جهلها واستمرار سباتها، فذلك هو الضامن الوحيد لأمنه وأمن عملائه والذين يُحاربون عنه بالوكالة. فإلى متى أيّتها الشعوب؟ ذلك هو السؤال!

وملاحظة أخيرة فرضتها الأخبار التي بلغتني الآن، وأنا أقوم بالمراجعة الأخيرة لهذا المقال، عن حوادث إطلاق نار جرت اليوم في قريتي، كابول، خلّفت قتيلا وعددا من الإصابات المتفاوتة في خطورتها. أطرح هذه الملاحظة هنا، كمادّة للتفكير.

ما جرى في قريتي اليوم، لم يعد نادر الحدوث، لا فيها ولا في غيرها من مدننا وقرانا العربية. ومن غير أن أقلّل من مسؤوليتنا الإنسانية والأخلاقية والاجتماعية والثقافية، عمّا يحدث لدينا من عنف، سواء كان بالأسلحة النارية أو بغيرها، أعتقد أنّ معظم الأطراف المسبّبة أو المشاركة في هذا العنف، هي أطراف في حرب بالوكالة، سواء كان ذلك عن جهل وطيش، أو عن “وعي” وقصد. إذن فمشكلة العنف كما أراها في وسطنا العربي، هي حرب بالوكالة، لا بدّ لنا أن نعرف من هو المستفيد الأوّل منها، لكي نتمكّن من حصارها والبدء في إيجاد علاج لها، وإلّا، سبق لي أن ذكرت في مقالة سابقة لي حول الإرهاب والعنف، أنّنا لا نملك إلّا أن ننتظر الضحيّة القادمة.

By د. محمد هيبي

أستاذ اللغة العربية، كاتب وناقد أدبي. ولد في 5/3/1952 في قرية كابول، في الجليل الغربي، القريبة من "ميعار" المهجرة، مسقط رأس والده الشاعر الشعبي الفلسطيني، أحمد محمد هيبي (المعروف بالكشّوع أو أبو عصام الميعاري). هُدِمت ميعار وشُرّد أهلها في النكبة الفلسطينية عام 1948.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *