(الرسالة السابعة من ملف جولات في رواية “رسائل زهراء حمدان” للكاتبة وفاء حزان).
 
هذه الرسالة نُشرت في ملحق الاتحاد يوم الجمعة 15/12/2006
 
لماذا أنا؟!
لا أدري. سؤال عبقريّ، لا جواب لديّ لهذا النوع من الأسئلة. إبحثي عن الجواب في كلّ ما هو لديك. لأنّي أبحث، في كلّ ما هو لديّ، عن جواب لذات السؤال. لماذا انتِ؟
ربما لأنّك أنثى، وربما لأنّك مراهقة، وربما لأنّك أنثى مراهقة. ربما لأنّك بنت الجليل ورائحة الزعتر عطرك الأصيل. ربما لانّك بنت مدينة الليل والضباب، مدينة الأشاوس الغضاب، بنت غزّة التي لا تهاب. ربما لأنّك تعمّدتِ في كنيسة القيامة وصلّيت الفجر في الركن المهجور بين الصخرة والأقصى. ربما لأنّك تحمّمتِ بعطر الأردن وتنشفتِ بشمس السـاحل. ربما لأنّ شمس النقب، المتعانقة مع شمس سيناء، المتعانقة مع شمس أفريقيا، ماسة على صدركِ. صدرُكِ يا رائعة الجراح، يصرخ: حيَّ على الفلاح والمجد للشيطان معبود الرياح. ربما … وربما وربما … لا أعرف … ربما لأنّك في كلّ ما هو لديّ، أو أنّك، أنتِ، كلّ ما لديّ.
وعلى ذكر الشيطان، عندما نتواعد، أنتِ وأنا، يزمجر الشيطان. يرسل رياحه في كلّ اتجاه. عندما نلتقي، لا مكان لثالثٍ بيننا.
الحب موجود، والإنسان موجود. الإنسان الدولار موجود بكثرة. أنا أدري أنني ألطّخ وجه الأدب بالأخضر المزيّف. والإنسان الإنسان عملة نادرة، ولكنّه موجود. عندما ينتزع الإنسان الإنسان حقّه من أنياب الإنسان الدولار ستتدفّق كلّ الجداول وسيعود الأخضر إلى أصالته، وتتفتح كلّ الأزاهير التي تحنّ إلى خضرته. سأصنع منك إلهين من تمر، واحدا لكِ وواحدا لي، سآكل إلهي إذا جعتُ وأنتِ بعيدة، وسآكل إلهكِ إذا جعتُ وأنتِ معي.
تشتاقك تمرة روحي، تشتاقُ لآلئَ ثغرك القرمزي. أجمعيني، انثريني، وإذا شئت خبّئي النوى للنوى.
لا أدري لماذا بدأتُ من هناك؟! لا أدري لماذا لم أبدأ من هنا ؟! أما زلتِ حيرى من أين تبدئين؟ من الطفولة أم من المراهقة؟ جدلاً يراودني السؤال!
كنت أتحدث إلى كتاب. وكان يحدّثني الكتاب. كان الحديث ذا شجون وكان ذا نكهة. لا أدري كيف قفزت إليَّ من صفحة ما، من بين السطور، مع الكلمات والحروف والحركات. تسربتِ إليَّ مع الأصوات والألوان، روحا وجسدا، صوتا دافئا وشفتين عبوّة حارقة، أنتِ مراهقة … لا أسأل عن دبابيس الشَّعر بل عن مزامير الشِّعر، عـن القيثارة، لماذا خبَّأتْ لحنها؟ وعن اللون القرمزي، لماذا فرَّ من ذاته؟ أو ربما، لماذا فرّتْ ذاته منه؟
هكذا تسربتِ إليَّ، وتسربتِ فيَّ. لا تحاولي أن تخدعي نفسَكِ!
أروع ما فيك أنك لم تتسربي فيَّ لأنّك تشتاقين إليَّ، وإن كنت تشتاقين إليّ! أروع ما فيك أنّك تسربتِ إليّ، فيَّ، لأنّك، بالحدس وأشياء أخرى، عرفتِ كم أنا مشتاق إليكِ، وكم تطلبك روحي.
لا تطلبي الشفقة وأنت ظالمة الحسن، ظالمة الإنسياب في مسامات الروح أكثر مما في أطلال الجسد.
أنا كذلك لا أنام، وإن كنت أستلقي، ذات لحظة، أفرش جسدي، أتركه للشمس، وأترك روحي للبحر والأفق، تتسرب فيها أطياف الشفق.
هكـذا تسربتِ إليّ، فيّ.
كيف تطلبين الإقتراب وأنت لا تجيدين شيئا كما التغلغل في مسامات الروح والجسد؟  
بذذتِ الشمس التي تركت لها جسدي والبحر والأفق اللذيْن تركت لهما روحي.
أين منك قرون ليلى وأقحوانات الهيام؟
أينَ منكِ خمرة الروح وتراتيل الغرام؟
كيف أدعو من معي أن يكون معي؟
حبيبتي؟ لا! كيف أقول الكلمات التي لا تتسع لما أعاني؟
لا تضعيني أمام الاختيار الصعب فقد تمّ الاختيار.
لقد نصّبك العشق إلهاً
تهيم في معابده روحي،
ويحترق في مباخره جسدي.
لا تقولي “نعم”، … من حقّكِ أن تقولي ما تشائين ولكن، دعيني أراها في شفافية عينكِ اليمنى، وطهارة عينكِ اليسرى، ورصانة عينكِ الأخرى، دعيني أسمعها في أغنيات الربيع من شفتك العليا، تتقطّرُ لوزاً على جـداول شفتك السفلى.
لا تجعلي بريـق المصطلحات المستوردة يخطف بصرك، بصيرتك: نعم، لا، لا، نعم. حيث لا الـ”لا” لا، ولا الـ”نعم” نعم. أنا أفهمك من غير كلام. كما تتسرّبين إليّ من غير كلام. كالنغم، كحمّى ترتجف لها روحي وينتفض لها جسدي.
لا تقلقي، سنلتقي، فقد تهيّأت للقاء. وضعت القهوة التي تحبينها على النار. هيّلتها. تركتها تغلي. تركـت رائحتها تعبث في جسدي، وتنسج خيوط العطر في روحي، وتنفذ إلى قلبي وفكري.
كانت لديّ، وأنتِ تتسرّبين، في قلبي وفي فكري، ثلاث غرف. اطمئنّي! تمكنت من إقفال اثنتين: غرفة استقبال الأرواح، كتبت على بابها: بعذر وبغير عذر، لستُ ملكوت السماء، لا استقبال للأرواح المفردة. وغرفة استقبال الأجساد، كذلك كتبت على بابها: بعذر وبغير عذر، لست غرفة استقبال الموتى فلا استقبال للأجساد المفردة.
وأمّا الثالثة، أنت شرّعْتِ أبوابها، أيّا كان الترتيب لديكِ، فالطفولة هي الطفولة، لذيذة، قبل المراهقَة وألذّ بعد المراهقَة، وهي صفوة الروح التي في المراهقَة.
الثالثـة، غرفة استقبال الروح والجسد، متعانقيْن، متشابكيْن، متلاحميْن، متآلفيْن.
هكذا قفزتِ إليَّ، مع الأصوات والألوان ورقصة الظلال الحالمة، مراهقة، جسدا وروحا روحا وجسدْ. كنت أتحدث إلى كتاب، رواية، “رسائل زهراء حمدان”، وكان، كانت تحدّثني، وكان الحديث ذا شجون، وكان الحديث ذا نكهة، إلى أن قفزت إليّ، مع الصوت واللون والحركة. طرحتُ الكتاب عن يمين، والرواية عن يسار، لينتظر أهـل اليمين وأهـل اليسار، وصرنا، أنتِ وأنا، نتحدّث، لا، صرنا نتجاذب أطراف الحديث، وأطراف أشياء أخرى. لم يعد الحديث ذا شجون. لم يعد الحديث ذا نكهة. معكَ، صار الحديث هو الشجون، وصار الحديث هو النكهة.
منطق الأشياء، التحوّل، من إلى، من “ذا شجون” إلى الشجون ذاتها، ومن “ذا نكهة” إلى النكهة ذاتها. هكذا تحوّلنا، أنتِ وأنا، عندما قفزتِ إليّ من السطور، من الكلمات، من الحروف، مما هو أبعـد، بل مما هو أقرب من السطور والكلمات والحروف. أصبحنا، أنتِ وأنا، التشابك والتلاحم والتآلف، بين الصـوت واللـون والحركـة، بين السطور والكلـمات والحروف.
قولي للصديقة، التي سألتْكِ يوما، أنني أكتب لكِ. تريّثي، لم أقل سأرسل الرسالة. لا تتهالكي عليها كمراهقة أغواها الليل وأذبل عينيها الجمرتيْن. لا تتهالكي كفراشة على فانوس روحي، فتحترقي ويصبح التوهّج الذي في عينيّ وقلبي عبثا. فقط قولي لها أنني أكتب لك، ليس فقط لأنّك تكتبين لي، بل لأنّني رأيت الروح التي في نظرة العينين وفي إشراقة الجسد.
بوابتي شفافية الروح والعينين والجسد.
قولي لها: تحوّلنا، أنتِ وأنا، من إلى، من محبّيْن إلى حبّ. أنتِ تفهمينني. لا أعني الحبّ للحبّ، بل من ذرة ذرة، إلى ذرتَيْ ذرة، تكاملنا في رحمٍ هو الحبّ. لا قيمة لنا خارجه، ولا قيمة له خارجنا. نحن بدونه فراغ، وهو بدوننا فراغ، والجزء من الفراغ كالفراغ، ولا قيمة للفراغ. أنتِ وأنا في رحمٍ هو الحبّ، لا مكان للفـراغ. أنتِ وأنا، الحبوب في الغلاف، ومعا نكون السنبلة. تنتثر الحبّات منها لتجتمع، وإذا نثرونا، في أيّ زمان، وفي أيّ مكان، سنتوق أبدا، للقاء، ستتوق الذرة للذرة، ستتوق الحبّة للحبّة، وستتوق الحبات للغلاف، وسنلتقي، ونصبح من جديد، سنبلة.
مهما رقص مصّاصو النفط والدماء، مهما رفعوا الجدار، وقطّعوا أوصال الديار، ستواصل الروح فيضها، وستكسر القُبلة قيدها، وسنلتقي … في كابول سنلتقي … وفي قندهار … في أبو سنان وفي ميعار.
سنلتقي.
بأيدينا، لا بأيديهم، حتمية القرار.
لا بدّ لهذا الليل من نهار.
لنا القرار،
ولنا النهار،
وإن طال بالأنجم ذاك المدار.
سنلتقي، حيث تتعانق، في الجليل، الزهور وتتحوّل الآهات، في غزة، إلى طيور، فيغنّي الجدول، في المخيم، من تحت الصخور!
سنلتقي … سنلتقي …
في أيّ زمان وفي وأيّ مكان، يا رفيقة دربي زهراء حمدان.
 (كابول)

By د. محمد هيبي

أستاذ اللغة العربية، كاتب وناقد أدبي. ولد في 5/3/1952 في قرية كابول، في الجليل الغربي، القريبة من "ميعار" المهجرة، مسقط رأس والده الشاعر الشعبي الفلسطيني، أحمد محمد هيبي (المعروف بالكشّوع أو أبو عصام الميعاري). هُدِمت ميعار وشُرّد أهلها في النكبة الفلسطينية عام 1948.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *