د. محمد هيبي

(مداخلتي في أمسية تكريم الرفاق: توفيق كناعنة، عادل أبو الهيجا وعمر السعدي، في نادي حيفا الثقافي، الجمعة، 16/8/2019)

 

الرفاق، توفيق كناعنة (أبو إبراهيم)، عادل أبو الهيجا (أبو سلام) وعمر السعدي (أبو محمد)، رفاق دربي الذين أعتزّ بهم، وآبائي في الحزب والجبهة. ثلاثة فرسان يستحقّون منّا التكريم وهذه اللفتة الإنسانية الكريمة. حين نُكرّمهم، نحن نُكرّم مسيرتنا النضالية الحافلة، ممثّلة بثلاث مسيرات متوازية ومتقاطعة، متداخلة ومتشابكة، لا مجال لفضّ تشابكها. ثلاث مسيرات لثلاثة رفاق أفنوا أعمارهم في النضال من أجل كرامة شعبهم ومجتمعهم، وكرامة الإنسان أنّى كان. وبكل تأكيد، لا غضاضة في أنّهم ركّزوا نضالهم من أجل قضايا شعبهم، وقضايا أقلّيتهم الباقية في وطنها، فقد أرادوا لهما الصمود بعد كل نكبة من سلسلة النكبات المتعاقبة والمتلاحقة، أو هي نكبة واحدة قاسية، كبيرة ومستمرّة. ولكن، رغم عنفها وقسوتها، فهي بسبب وجودهم ووجود أمثالهم من المناضلين الشرفاء، لم تستطع أن تكسر هذا الشعب، أو أن تجعله يركع، ذلك لأنّ أبناءه الأوفياء، لم يركعوا ولم ينحنوا أمام عنفها ووحشية صانعيها.

هنالك أكثر من سبب يدفع المرء لتدوين ذكرياته. وقد يكون أهمّ هذه الأسباب، إدراكه بأنّها تحمل قصصا وحكايات تستحقّ أن تُدوَّن لتبقى خالدة في ذاكرتنا الجمعية. ومكرّمونا الثلاثة، قاموا اليوم بتوثيق   ذكرياتهم، ليُثروا بها ذاكرتنا ويحفظوها من النسيان.

ليس هناك أسلوب محدّد لكتابة الذكريات، فالكاتب يُعبّر عمّا يخّصّه ويعتمل بداخله، بالأسلوب الذي يريد، فهو يُدوّن أفكاره ومواقفه وتوقّعاته وأحلامه، ما أرضاه منها وما صدمه وأغضبه، ما أسعده وما أشقاه. ولأنّها تستحقّ أن تُروى وتُحفظ، أرادوا لها أن تُصبح جزءا من ذاكرتنا الجمعية.

في الأعمال الثلاثة التي بين أيدينا، لا مجال للحديث عن اللغة أو الأسلوب، فلا أحد من مكرّمينا الثلاثة يدّعي أنّه كاتب أو أنّه حاذق بفنون السرد وأسراره. وبكل تواضع، لم يخفِ أحدهم أنّه استعان بغيره في مجال اللغة والتدوين وغيرهما، لترى ذكرياته النور. فقد كان جلّ همّه أن يوصل بشكل ما، عصارة تجربته ومخزون ذاكرته، للقرّاء وللأجيال. ذلك لأنّه يتوخّى منها العبرة والفائدة، ويأمل أن تكون درسا وشعلة تُضيء طريق الأجيال، ليستمرّوا في حمل راية شعبهم والدفاع عن حقوقه وقضاياه.

الرفاق الثلاثة يخافون أن تضيع الحقيقة، أو أن تُحرّف وتُشوّه، ولذلك تُقلقهم الذاكرة الجمعية وضرورة صدق مركّباتها. ومن هذا المنطلق دوّن كلٌّ منهم ذكرياته لينقلها إلينا بكل صدق وتواضع.

عندما نتحدّث عن مُكرَمينا الثلاثة، فنحن نتحدّث عن ثلاث شخصيات عربية فلسطينية شيوعية، من جيل ما قبل النكبة، ظلّت صامدة أمام الريح، تناضل لتصنع تاريخا مغايرا للتاريخ الذي حاول صانعو النكبة وعملاؤهم أن يفرضوه على شعبنا.

كل واحد من هذه الشخصيات القيادية، توّج نضاله بتدوين ذاكرته الشخصية، ليس خوفا من الموت، بل خوفا على الذاكرة أن تموت، أو أن تُحرّف، وخوفا على أجيالنا من النسيان، أو من أن تجرف بعضَهم أمواج التضليل والتشويه والتحريف التي تتعرّض لها روايتنا وذاكرتنا. وأقولها بكلّ صدق وأسف: إنّ بعض كتّابنا يُشاركون، قصدا أو عن غير قصد، في عملية التشويه والتزوير.

تكفي إطلالة واحدة على عناوين الأعمال الثلاثة، لنشعر أنّها بُنيت بإصرار، على التواضع في العمل، والصدق في الرواية، وذلك لإدراك الرفاق أن الذاكرة الجمعية، يجب أن تكون صادقة بما فيها من خير أو شرّ، وما فيها من نجاحات وإخفاقات، لأنّ الحقيقة يجب أن تكون زاد أجيالنا القادمة، وأيّ تزوير أو تحريف فيها، سوف يضلّل أجيالنا، ويوقع بأبنائنا في متاهات، نحن وهم، في غنى عنها.

الصدق هو الأساس والمرتكز في الأعمال الثلاثة، إلّا أنّ عنوان كتاب توفيق كناعنة، “ذكريات ختيار لم تمت أجياله”، يبدو لي الأكثر إصرارا، لما فيه من توظيف وتحوير للمثل الشعبي الممتوح من تراثنا وذاكرتنا الجمعية، “لا تصدّق شبّ تغرّب ولا ختيار ماتت اجياله” أو بصيغة أخرى، “ما أكذب من شبّ تغرّب إلّا ختيار ماتت اجياله”. هذا المثل نعرفه جميعا، كجزء من تراثنا وذاكرتنا. وظنّي أنّ توفيق كناعنة اختار هذا العنوان ليقول للقارئ: أنا أروي الحقيقة، وشهودي عليها أحياء يُرزقون، يشهدون بصدق مسيرتي وروايتي. فهل اعتبر كتّابنا الذين قرأوه؟ المتواضعون منهم، نعم اعتبروا، ولنا في عادل أبو الهيجا وعمر السعدي اللذين كتبا بعده، نموذجان شاهدان.

يتحدّث مُكرّمونا عن النكبة، أسبابها ومراحلها ودروسها، وعن نضالهم الفردي بعدها، كجزء من نضالنا الجمعي. ثلاثتهم عاشوا النكبة وشهدوا تشريد شعبهم واغتصاب أرضه ووطنه. وهم، وإن شُرّدوا في وطنهم وظلّوا صامدين فيه، ظلّت صور الهدم والتهجير والتشريد، والظلم الذي لحق بهم وبشعبهم، عالقة في أذهانهم، راسخة في ذاكرتهم. وظلّت تُلاحقهم، إذ كيف لمن عاش المنفى والتشريد داخل وطنه، أن ينسى هذه المحنة التي صنعت من كل واحد منهم مناضلا بالفطرة، يكره الظلم والقهر، ويصبو إلى إحقاق الحقّ، ويُؤمن بحقّ شعبه بالعودة وتقرير المصير، وحقّه بالحياة الكريمة في وطنه وعلى أرضه.

ومع إيمانه هذا، كان لا بدّ لكل واحد منهم، أن يلتقي بغيره من المناضلين الشرفاء، وفي طليعتهم الرفاق الشيوعيون.

في كتابه، لم يُخفِ توفيق كناعنة دور الرفاق في مواجهة الصراعات الداخلية في الحزب، خاصة تلك التي أدّت لانقسامه عام 1965، لذلك خصّص فصلا كاملا للمؤتمر الخامس عشر الذي حدث فيه الانقسام، حيث انحرف بعض الرفاق اليهود وغيّروا مسارهم الأممي حين خرجوا بمقولة “الوزن النوعي”، أي أنّ قيمة الرفيق اليهودي أكثر من قيمة الرفيق العربي” (توفيق كناعنة، ص 119). فهل يكون أمميا من يملك مثل هذه الرؤية؟!

واختار عادل أبو الهيجا أن يُلقي الضوء على دور الحزب والجبهة في المعركة المحلّية في طمرة حيث استطاعت الجبهة أن تنتزع رئاسة السلطة المحلية عام 1980، مدعومة بالمدّ النضالي الجماهيري بعد يوم الأرض، وبنضالها الدؤوب بالناس، مع الناس وللناس.

أما عمر السعدي، وإضافة إلى الكثير من قصص النضال، فقد أبرز دور الرفاق في التحوّلات التي صنعت يوم الأرض، في مثلث يوم الأرض بشكل خاص، وعلى مستوى الجماهير العربية بشكل عام.

وهذه كلّها عيّنات فقط، من مسيرة نضالية حافلة بالمواجهات مع السلطة، في الميدان وفي السجن، حيث التقى مكرّمونا برفاقهم، ولم تمنعهم جدران السجن ولا قضبانه، من متابعة نضالهم وترتيب أمورهم التنظيمية.

من الملاحظ في الأعمال الثلاثة أيضا، أنّ كل واحد من مكرّمينا يُصرّ على أنّه عاش الأحداث التي يرويها، أو أنّه كان شاهدا عليها، ولكنّه يصرّ وبكل تواضع أيضا، أنّه ليس الوحيد الذي عاشها، وإنّما عاشها مع أبناء شعبه. ولذلك نلاحظ إصرارهم على ذكر أسماء الأشخاص والمواقع، أسماء الأشخاص الذين عاشوا الأحداث وساهموا في صنعها، سواء كانوا من الحزب أو من أصدقائه ومؤيّديه، وغيرهم من المناضلين الشرفاء. واليوم، يُساهم الجميع في نقل روايتنا وتدوينها وحفظها، لترسيخها في ذاكرتنا الفردية والجمعية، لتكون نبراسا نهتدي به.

لكل واحد من مُكرّمينا دوره في النضال ضد سياسة الظلم والقهر التي تمثّلت بالحكم العسكري، والاضطهاد القومي، والتمييز العنصري، ومصادرة الأراضي. وثلاثتهم يُمثّلون نضال الشيوعيين كلّهم، إلى جانب كل الوطنيين الشرفاء، النضال الذي صنع مناسبات وطنية عديدة، وعلى رأسها يوم الأرض الخالد، الذي كسرت فيه الجماهير العربية حاجز الصمت والخوف، وأعلنت تمرّدها على إرهاب السلطة وظلمها؛ السلطة الإسرائيلية العنصرية التي أُرْغِمَت قبل يوم الأرض بعشرة أعوام، على إنهاء الحكم العسكري.

قارئ الأعمال الثلاثة، يجد أنّ مكرّمينا يتميّزون بوعيهم السياسي والفكري، ويظهر ذلك جليّا من خلال التحاقهم في سنّ مبكرة، بصفوف الشبيبة الشيوعية والحزب الشيوعي، وساهموا لاحقا في إقامة الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة. كما يظهر وعيهم من خلال ثباتهم على مبادئهم إلى لحظة هذا التكريم الذي يستحقّونه بجدارة.

ومن أبرز ما يلاحظه القارئ في أعمالهم أيضا، ويُؤكّد على شجاعتهم ووعيهم المبكّر، هو صبّ الغضب على الثالوث الدنس، الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية، وكذلك جرأتهم على عدم إخفاء غضبهم على الرجعية المحلّية، لضلوعها في الدور المخزي الذي لعبته في تواطؤها محلّيا مع المشروع الصهيوني والقائمين عليه.

لا يفصل الكتّاب الثلاثة، بين ذاكرتهم الشخصية وذاكرة شعبهم الجمعية، وذلك لتواضعهم أولا، ولأنّهم يُدركون أنّ الذاكرة الجمعية، هي نتاج ذاكرات شخصية تجتمع وتتآلف لتكوّن معا، ذاكرتنا الوطنية.

وخلاصة القول في مسيرة مُكرّمينا النضالية الحافلة، أنّهم يطرحون، بين أيدي القراء، في كتبهم الثلاثة، خلاصة تجربتهم الحياتية والنضالية، ليبيّنوا لنا وبكل تواضع، أنّ الطريق المرصوف الذي نسير عليه اليوم، هو نتاج نضال طويل ومرير، ونتاج تضحيات صعبة قدّمها أناس لم يبخلوا بجهودهم ودمائهم. ولذلك، على الأجيال القادمة أن تحفظ الذاكرة، وأن تتابع مسيرة النضال، لأنّ أهدافها تستحقّ أن نضحّي من أجلها. فهي ذاكرة الوطن، وحفظها يعني حفظ الوطن، ولو في الذاكرة. فمن لا ذاكرة له، لا مستقبل له، أو كما قال المرحوم، الكاتب سلمان ناطور: “إن فقدنا ذاكرتنا، أكلتنا الضباع”، وما أكثر ضباع هذه الأيام!

وختاما، أتمنى لمكرّمينا الثلاثة، العمر المديد والصحة الوافرة، ليستمرّوا في نضالهم الذي نشهد بصدق طريقه، وعطائهم الذي لا غنى لنا عنه.

By د. محمد هيبي

أستاذ اللغة العربية، كاتب وناقد أدبي. ولد في 5/3/1952 في قرية كابول، في الجليل الغربي، القريبة من "ميعار" المهجرة، مسقط رأس والده الشاعر الشعبي الفلسطيني، أحمد محمد هيبي (المعروف بالكشّوع أو أبو عصام الميعاري). هُدِمت ميعار وشُرّد أهلها في النكبة الفلسطينية عام 1948.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *