قراءة في كتاب “خطيئة الفلسطينيين”[1] لجورجي كنعان!

د. جورجي كنعان، كاتب لم أصطدم به وبمؤلّفاته قبل وقوع كتابه “خطيئة الفلسطينيين”، بين يديّ مصادفة قبل أيّام. بعد قراءة الكتاب حاولت التعرّف إليه أكثر، فلم أجد مصدرا سوى محرّك البحث، “غوغل”، وحتى هذا على سعة اطّلاعه، ورغم كثرة مؤلّفات جورجي كنعان المذكورة فيه، لم أجد عنه سوى أنّه كاتب لبناني شديد الاهتمام بالقضية الفلسطينية، ومعظم كتاباته تدور حولها. وقد أثارتني كلماته الواردة في مقدّمة كتابه: “في مثل هذا الشهر (أيّار) من عام 2000 أصدر المؤلّف كتاب “مملكة الصعاليك”. لم يقرأه أحد، أو لم يُثر انتباه أحد، وبالتالي لم يترك تأثيرا في أحد، فودّ المؤلّف أن يعرض الموضوع في شكل آخر، وأن يصوغه في قالب جديد، فلعلّله يستطيع أن يُوضّح، من وجهة نظر ملتزمٍ بالقضيّة الفلسطينية، مؤمنٍ بصدقها وعدالة انتصارها المحتّم، مؤيّدٍ للنضال الفلسطيني ضدّ المشروع الصهيوني – الإمبريالي، أن يُوضّح للجماهير المغفّلة المؤمنة بالكتاب المقدّس … أنّ “كتاب المسيحيين المقدّس” ليس “صكّ اليهود” المقدّس لملكية فلسطين، كما يزعم بن غوريون.[2] وتأخذ بزعمه جماهير مغفّلة تزيد على النصف من سكان هذا الكوكب، بل هو “صكّ الفلسطينيين” (11). وكذلك أثارني ما ورد عنه في موقع “أمازون” للكتب: “وُلدَ جورجي كنعان في النّصف الأوّل من القرن العشرين، مع ولادة قضيّة فلسطين. وعاشَ مأزوماً محاصَراً في أقبيةِ هذه القضيّة الّتي استأثرَتْ بجهدِهِ ووعيِهِ. تُقِلُّهُ عربةُ الأحداث الّتي أفرزَتْها القضيّة في مستنقعٍ مِنَ الوحلِ والدّمِ والنّار. وتجرُّهُ خيولٌ مطهَّمَة مِنَ التّدجيلِ والتّلفيقِ، في ميادينَ مِنَ العهرِ الفكريّ والاجتماعيّ والسّياسيّ، جاهدة في الرّكون إلى قرار، حيثُ لا قرار. وهذه القضيّة يصعُبُ أو يَندُرُ أو يستحيلُ أن تتكرّر في التّاريخ أو في الوجود، أو حتّى في الخيال: قضيّة اقتلاع قوم من أراضيهم، ومسخ وطنهم.”

ويظلّ المصدر الوحيد للتعرّف أكثر على جورجي كنعان، كتاباته التي توحي بجرأته وقدرته على البحث الموضوعي والإقناع، رغم أنّه مستفَزّ ومستفِزّ وليس محايدا، فالقضيّة الفلسطينية بالنسبة له مصدر قلق دائم، وما كابده الشعب الفلسطيني من ظلم وإجحاف باقتلاعه من أرضه، ومن تزييف لتاريخه لتبرير اقتلاعه، من قِبل الحركة الصهيونية والإمبريالية الغربية أوّلا، وثانيا من ذوي القربى، وحتّى من أبنائه أحيانا، كلّ ذلك يُشكّل أزمته الحقيقية التي ستُلاحقه إلى أن يظهر الحقّ ويعود لأصحابه.

مجرّد المرور على عناوين مؤلّفات جورجي كنعان، يُظهر لنا مدى جرأة الكاتب في مواجهة التاريخ والنصوص المقدّسة، خاصة “العهد القديم”، والتّحاور معها وبيان الحقيقة وما ترتّب على طمسها من ظلم لا بدّ من تفنيد مزاعم أصحابه. كتابه الأوّل صدر عام 1977، (ط2، 1982، ط3، 1985) بعنوان “الوثيقة الصهيونية في “العهد القديم”. وتلته سلسلة طويلة منها: “أمجاد إسرائيل في أرض إسرائيل” (1978)، سقوط الإمبراطورية الإسرائيلية” (1980)، “العنصرية اليهودية” (1983)، “الأصولية المسيحية في نصف الكرة الغربي” (1995)، “تاريخ يهوه (الرب)” (1994)، “محمد واليهودية” (1999)، “الله هو القضية” (1998)، “بثور في جلد التاريخ” (2000)، “مملكة الصعاليك” (2000)،  “والمسيح هو المشكلة” (2001)، “المسيح القادم” (2004)، “برابرة التاريخ” (2006)، “برابرة العصر” (2006)، “كوابيس الفلسطينيين” (2007)، “خطيئة الفلسطينيين” (2007)، “فضائح المؤرّخين العرب” (2009)، و”أورام خبيثة في العقل الفلسطيني” (2013).

كتاب “خطيئة الفلسطينيين” (2007) لجورجي كنعان، موضوع بحثنا، هو على ما يبدو امتداد لما سبقه من مؤلّفات تُدافع من خلال القراءة الصحيحة للتاريخ والكتاب المقدّس، “العهد القديم”، عن الحقّ الفلسطيني وتُعرّفنا بالتاريخ الفلسطيني الصحيح الذي غيّبته الرواية الصهيونية، وتُفنّد ما ذهب إليه المؤرّخون الغرب المنحازون للرواية الصهيونية المختلقة.

يقول الكاتب: “لم تستند حركة ما في العالم إلى الوثائق الباطلة والحجج الواهية والمزاعم الوقحة مثلما استندت الحركة الصهيونية. ولم تستفد حركة ما في التاريخ من جهل الناس، وغفول الذهن الجماهيري العام، مثلما استفادت الحركة الصهيونية” (ص 8).

وعلى ما تقدّم، يطرح الكاتب الكثير من التزييف، ويُقابله بالحقائق، في قضيتين أساسيتين تُؤرّقانه: الأولى، الرواية الصهيونية المستندة إلى الكتاب المقدّس، “العهد القديم”، يدحضها ويفضح مزاعم أصحابها مستندا إلى الكتاب نفسه. والثانية، جهل المؤرّخين العرب والفلسطينيين بالتاريخ الفلسطيني القديم، ووقوعهم في شرك الرواية الصهيونية المختلقة.

ما أرمي إليه في هذا المقال، هو التعريف بالكتاب وكاتبه، ولكنّ ذلك لا يُغني عن قراءته، بل أتوخى منه أن يكون دافعا لقراءة مؤلّفات جورجي كنعان الأخرى، لأنّها جديرة بالقراءة، خاصّة من قبل الفلسطينيين الذين يؤمنون بتاريخهم ولكنّهم لا يعرفونه. وقد يكون جهلنا بتاريخنا الممتدّ لآلاف السنين، هو أحد أسباب نكبتنا وما آلت إليه حالنا بعدها.

الرواية الصهيونية و”العهد القديم” كأساس لها ولدحضها في آن معا!

تعتمد الرواية الصهيونية لتثبيت حقّ اليهود المزعوم في فلسطين، على ما تدّعيه من “رابطة تاريخية” و”حقّ تاريخي”. يقول الكاتب: “إنّ أوّل ما عُني به اليهود من أسباب نشر دعاوتهم في تملّك أرض فلسطين، هو السعي في إحياء ما يزعمونه من “رابطة تاريخية” بما يتوهّمونه من مملكة قديمة كانت لهم في أرض فلسطين. وفي إشهار ما يُدجّلونه من “حقّ تاريخي” في ما يدّعونه من أرض قامت عليها مملكتهم الأولى في العصور القديمة” (174). وذكر الكاتب في فصل سابق: “لعلّ أكثر الذرائع التي توسّلوا بها، وما زالوا، اثنتان: ادّعاؤهم بأنّهم شعب الله المختار، وبأنّ فلسطين هي “أرض إسرائيل التاريخية والدّينية”، وبالتالي فهي ملك لليهود بحكم “النشأة التاريخية للأمّة اليهودية” (48). ولإثبات ذلك يعتمدون “العهد القديم” الذي لا يقرأه المؤرخون بل يكتفون بقراءة الرواية الصهيونية واعتمادها في الترويج لما استعمر به الصهاينة عقولهم. فالصهاينة منذ ذهب الغرب في حملاته الاستعمارية على الشرق، ذهبوا هم يستعمرون العقل الغربي بروايتهم الملفّقة. وقد تمكّنوا عن طريق التلقين والتكرار، أن يُقنعوا الكثيرين بأنّ المسيح يهوديّ، وبأنّ له عودة ثانية شرطها عودة اليهود إلى أرض إسرائيل وإقامة وطنهم فيها. وقد ساعدهم في ذلك، هيمنتهم على الإعلام ووسائله المختلفة التي “ظلّ الصهاينة يُبوّقون بها، في المنتديات والكنائس والجامعات، حتى صدّقها العالم وأخذ بها المفكّرون والمؤرّخون والإعلاميّون ورجال الدين والسياسة” (59). وهكذا استطاعوا أن يُرسّخوا روايتهم في العقل الغربي على كلّ مستوياته الاجتماعية والثقافية المختلفة، فآمن بها وراح يُروّج لها. ومن هنا نشأ في أوروبا ما عُرف فيما بعد بـ “المسيحية الصهيونية” أو “الصهيونية المسيحية” التي انتقلت من أوروبا إلى أمريكا وانتشرت فيها انتشارا واسعا بحيث بلغ الآخذين بها اليوم، حوالي 70-80 مليون “مؤمن”، كانت لهم أكبر المساهمة في قيام إسرائيل ونكبة الشعب الفلسطيني.

يقول الباحث كيث وايتلام، رئيس قسم الدراسات الدينية في جامعة ستيرلينج البريطانية، في كتابه “اختلاق إسرائيل القديمة، إسكات التاريخ الفلسطيني“،[3] الصادر بترجمته العربية عن سلسلة “عالم المعرفة” (1999): “إنّ الباحثين التوراتيّين وكذلك علماء الآثار قد بحثوا عن دولة كبرى في العصر الحديدي، قويّة وذات سيادة مستقلّة ومؤسّسها الملك داود وتصوّروا أنّ هذه الدولة قد وجدت بالفعل. وقد هيمنت تلك “الحقيقة” المزعومة على خطاب الدراسات التوراتية خلال معظم القرن الحالي (الماضي)، وأتاحت مجالا لتطوير كثير من فرضيّات التراث التوراتي، وهذه “الحقيقة المزعومة أسهمت أكثر من أيّ شيء آخر في إسكات التاريخ الفلسطيني وكانت عقبة في وجه أيّ روايات أخرى بديلة للماضي” (وايتلام، 180).

وجورجي كنعان، الذي يورد الكثير من مزاعم اليهود وتصريحات حاخاماتهم وزعاماتهم، روّاد الفكر الصهيوني، قديما وحديثا (انظر فصل “تراث من المزاعم”، 46-59)، مستندين إلى تاريخهم الذي استمدّوه ولفّقوه من كتابهم المقدّس، يذهب هو أيضا إلى “العهد القديم”، ليُفكّك الرواية التوراتية الصهيونية المزعومة ويدحضها مستندا إلى المصدر نفسه. ويفضح في كتابه كذلك، قافلة المؤرّخين المنحازين من اليهود والغرب، والمتخاذلين من العرب، ويُشيد بقلّة من المؤرّخين الذين قرأوا “العهد القديم” والتاريخ جيّدا، وكانت لديهم الجرأة في فضح الرواية الصهيونية، من أمثال الباحث كيث وايتلام المذكور أعلاه. وعلى نهجه يستعرض جورجي كنعان ادّعاءات الصهيونية ويُفنّدها الواحدة تلو الأخرى، معتبرا أنّها ليست أكثر من خزعبلات يتغنّون بأوهامها (انظر فصل “خزعبلات الغزو”، 76-89)، وكانوا قد لفّقوها حول وجودهم آنذاك، وخاصة حول مملكة داود التي تدّعي روايتهم بأنّها كانت مملكة كبرى تضاهي إمبراطوريّات ذلك العصر، امتدّت من سيناء جنوبا حتى سوريا شمالا وشرق الأردن شرقا. وبعد عرضها يكشف أنّ بني إسرائيل لا علاقة لهم بأرض فلسطين. فمن يقرأ كتابهم المقدّس بعمق، سيجد انّهم غرباء، اغتربوا فيها ولم يدخلوها فاتحين ولم يحتلّوها، بل دخلوها متسلّلين ورعاة مغتربين بحثا عن لقمة العيش في مكان آمن. يُؤكّد ذلك ما جاء في فصل “شواهد التسلّل” (90-104)، وهو أنّ “بعض الممالك في فلسطين، كآدوم، وعراد، وسيحون، وباشان، صدّهم عن تخومه. ربما لأنّه شعر بهم “شعبا لا ينام حتى يأكل فريسة ويشرب دم قتلى (سفر العدد: 23 : 24)، و”يلحس الأرض كما يلحس الثور خضرة الحقل”(عدد: 22 :4). وهناك “ممالك أخرى في أرض فلسطين، سمحت لهم بالمرور في أراضيها، وبتسريح مواشيهم في مراعيها. أو قل أنّهم تسلّلوا غفلة عنها. أو أنّها لم تأبه لتسلّلهم البطيء خلال مائتي عام” (90). ثم يُتابع الكاتب عرض الشواهد على تسلّلهم إلى أرض فلسطين وغربتهم فيها، يمتحها من كتابهم المقدّس الذي يستندون إليه في مزاعمهم، وليس من أيّ كتاب أو مصدر آخر. ثم يتساءل جورجي كنعان كيف يُمكن أن يكونوا قد احتلّوها وكانت هذه هي حالهم؟

يقول في فصل “التّغنّي بالأوهام”(171-173): “متى احتلّ قدماء الإسرائيليين هذه الأرض الواسعة ومن جملتها شمال شرق سيناء، ولبنان، وغربي سوريا، وهضبة الجولان، ومعظم عبر الأردن؟ هل احتلّوها يوم “حارب الفلسطينيون وانكسر إسرائيل، وهربوا كلّ إلى خيمته … وأخذ الفلسطينيون تابوت الله. سم1: 4 : 10″، “وناح كلّ بيت إسرائيل وراء الله. سم (صمويل)1: 7 : 2″؟ أم احتلوّها “يوم صعد ناحش العموني، ونزل على يابيش جلعاد، فقال جميع أهل يابيش جلعاد لناحش: اقطع لنا عهدا فنُستعبَد لك. فقال لهم ناحش العموني: أقطع لكم عهدا بتقوير كل عين يُمنى لكم، وجعل ذلك عارا على جميع إسرائيل. سم1: 11”. أم يوم “تجمّع الفلسطينيون لمحاربة إسرائيل … فاختبأ الشعب في المغاير والغياض والصخور والصروح والآبار” سم1: 13 : 6. أم “يوم لم يوجد سيف ولا رمح بيد جميع الشعب الذي مع شاؤول. س1: 13 : 22” … أم يوم “حارب الفلسطينيون إسرائيل، فهرب رجال إسرائيل من أمام الفلسطينيين، وسقطوا قتلى في جبل جلبوع … وقُتِل الملك شاؤول وأولاده الثلاثة، وسمّر الفلسطينيون جسده على سور بيت شان. سم1: 31 : 6”. أم احتلوها يوم “قال داود في قلبه: إنّي سأهلك يوما بيد شاؤول، فلا شيء خير لي من أن أفلت إلى أرض الفلسطينيين، فييأس منّي شاؤول فلا يُفتّش عليّ. سم1: 27 : 1″. (وتعابير داود كناية عن أن أرض الفلسطينيين كانت منيعة على شاؤول وأمثاله. يشعر اللاجئ إليها بالأمن والاطمئنان” (172). وهكذا يستمرّ الكاتب في استعراض كلّ ما في الكتاب المقدس من شواهد تدحض المزاعم الصهيونية بأنّهم هم أصحاب الأرض، والحقيقة أن لا رابط يربطهم بها إلّا التسلّل إليها وسماح بعض الممالك لهم بالاغتراب فيها، وقتالهم لهم حين كانوا يشعرون بما سبق وذكرناه من جشعهم وغدرهم، يُقاتلهم عند الحاجة ليأمن غدرهم.

معرفة الصهاينة بتاريخهم المختلق، وإصرارهم على حقّهم المزعوم، وميولهم الاستعمارية، كلّ ذلك مكّنهم من تحقيق غاياتهم في أرض فلسطين. في حين أنّ جهل الفلسطينيين بتاريخهم، أدّى إلى ما هم عليه الآن. وهذا ينقلنا إلى القضيّة الثانية التي يُعالجها الكتاب، خطيئة الفلسطينيين.

“خطيئة الفلسطينيين”، والوقوع في شرك الرواية الصهيونية المختلقة!

دأب الصهاينة في أوروبا على التلقين والتكرار في نشر روايتهم، حتى صارت “المقولات اليهودية مع الترداد والتكرار كمصطلحات أيديولوجية متجذّرة في الذهنية العامّة في الغرب والشرق … وصارت الجماهير في ما يزيد على النصف من سكان هذا الكوكب لا ترى قضية فلسطين إلا من خلال ما يرويه عنها الصهاينة، وما يحكيه عنها وعنهم الآخرون. بينما الجانب العربي صامت أو أبحّ الصوت، ينتظر أن يظهر الحقّ من نفسه وبنفسه أو بالآخرين (13). ولا يُبالغ الكاتب حين يرى أنّ المشكلة فينا، نحن أصحاب الحقّ والقضيّة. “المشكلة أنّ أصحاب القضيّة أنفسهم لا يعرفون التاريخ، ولا يقرأون التاريخ، مع أنّهم من أشدّ المؤمنين بالتاريخ، وأكثر الناس جهلا بالتاريخ” (14).

يحمّل جورجي كنعان كلّ الأطراف والمستويات الثقافية العربية والفلسطينية، مسؤولية ما حدث من اغتصاب للأرض والحقّ، لأنّ الحركة الصهيونية لم تستفد من “الوثائق الباطلة والحجج الواهية والمزاعم الوقحة” فقط، بل استفادت وربما أكثر، “من جهل الناس، وغفول الذهن الجماهيري العام” (8)، في حين كان يجدر بالفلسطيني أن يعرف تاريخه ولا يُؤمن به فقط لكي يُدافع عنه. وحتى بعض الأخطاء القاتلة التي ارتكبها المستوى السياسي العربي، يتحمّل الفلسطينيون بعض المسؤولية عن حدوثها، لأنّ بعضها نتج عن تصرّفاتهم الخاطئة.

هناك عدد من الكتّاب والباحثين والمؤرّخين الفلسطينيّين الذين اهتمّوا بكتابة التاريخ الفلسطيني، ولا يشكّ جورجي كنعان بوطنيّتهم وقدراتهم ونواياهم الحسنة وأهمّية ما كتبوه، ولكنّه ينتقد أخطاءهم، قلّت أم كثرت، لأنّها تُشير إلى جهلهم أحيانا، وتخاذلهم عن معرفة الحقيقة أحيانا أخرى، الأمر الذي أوقعهم في شرك الرواية الصهيونية، فظهروا كأنّهم يتبنونها ويُدافعون عنها.

يذكر كنعان بعض هؤلاء الباحثين والمؤرّخين بأسمائهم، ويُشير إلى الأخطاء التي وقعوا فيها سواء كان ذلك عن قصد أو بدون قصد، أو عن جهل بالحقائق. ولذلك يتساءل: “والسؤال الذي يفري في النفس أسى وأسفا: لماذا اختلق المؤرّخون العرب، ومن ضمنهم الفلسطينيون طبعا، مملكة أرض إسرائيل في أرض فلسطين، ولماذا صنّفوا لها تاريخا زاهيا، زيّنوه بآيات من الأمجاد ومواقف من البطولات، ما يجعل التواريخ التوراتية الغربية تنحني إجلالا وإكبارا أمام التواريخ العربية؟ هل غلبت على دوافع المؤرّخين العرب، كما على الغربيين، مضامين واتّجاهات وأبعاد سياسية وثقافية معيّنة؟ وما هي؟ أم أنّ في الأمر جهلا فاحشا وغباوة شنيعة وقصورا محزنا وتقصيرا معيبا؟” (177).

ولا يتعرّض الكاتب إلى ما لفّقه بعض المؤرّخين العرب من دجل ومغالطات، لأنّ ذلك يعتبره من المفهوم ضمنا الذي لا يستغربه عند المأجورين أمثالهم، ولكنّه يعرض للقارئ بعض النماذج لمؤرّخين يكن لهم القارئ العادي وغير العادي، الاحترام والتقدير لما بذلوه من جهد، ولكنّهم رغم ذلك وقعوا في أخطاء كان من الأجدر بهم ألّا يقعوا فيها.

يرصد الكاتب في فصل “قصور الفلسطينيين وتقصيرهم” (174-219)، بعض الأخطاء والمغالطات التي وقع فيها باحثون ومؤرّخون فلسطينيون معروفون. بعضها ورد في الموسوعة الفلسطينية حول احتلال داود للقدس واستيلائه عليها، ما يُثير لديه “السؤال الذي يطفر في الوجه غاضبا، محتجّا، مستنكرا ما لفّقه ابن نابلس والقدس (إشارة إلى اثنين من محرّري المواد التاريخية في الموسوعة الفلسطينية): متى استولى اليهود على القدس؟ ومتى هاجمها داود واحتلّها؟” (179). ويلجأ إلى “العهد القديم” والمصادر التاريخية ليدحض تلك المزاعم. “فالجماعة (بنو إسرائيل) لم يرد لهم ذكر في المصادر التاريخية المعروفة، وما كشف عنه التنقيب من آثار ونصوص ونقوش في مصر وسوريا الطبيعية لا يُشير إليهم … ويستشهد بشاهد من أهلها، بالأب دي فو، وهو عالم شديد الحرص على إنقاذ [تاريخية] التوراة، الذي يُقرّ بأن لا وجود في أيّ أثر، خارج التوراة، لأيّ إشارة للآباء العبريين أو إلى إقامتهم في مصر ثم خروجهم منها” (180). وبالطريقة نفسها والأسلوب نفسه يتعامل مع موسوعة المفكّر والباحث عبد الوهاب المسيري، ومع الدكتور شوفاني، ابن الأرض (فلسطين)، وهو باحث في تاريخ فلسطين وقضيّتها، وقد شغل منصب رئيس دائرة الأبحاث وقسم الدراسات الإسرائيلية في مؤسّسة الدراسات الفلسطينية (198). وكذلك مع كتاب “القضية الفلسطينية والخطر الصهيوني” الصادر في بيروت عام 1973 عن وزارة الدفاع اللبنانية ومؤسّسة الدراسات الفلسطينية، وهاتان المؤسّستان توحيان بشيء من الثقة بأنّ الكتاب على درجة عالية من رصانة البحث وجودة التدقيق وموضوعية التحرير … ولكنّ الكتاب يتكشّف عن سخافات وتفاهات مثقلة بأوزار الغلط والضلال. ومشحونة بكلّ ما يُحقّر المنطق ويُسفّه البصيرة” (212-213). وكذلك وليد الخالدي، المؤرّخ البارز والمرجع في القضية الفلسطينية، الذي أشرف على تحرير كتاب “كي لا ننسى”، أرّخ فيه واضعوه لنيّف وأربعمائة قرية فلسطينية دمّرتها القوّات الصهيونية … زلّ قلم المحرّر في مواضع قليلة ولكن على الرغم من قلّتها شوّهت الكتاب” (215-216). ويردّ كذلك على المؤرّخ المعروف مصطفى الدبّاغ، صاحب كتاب “بلادنا فلسطين” الذي أصبح مرجعا للباحثين والمؤرّخين، ويعتبر أنّه “جعل من (تاريخ فلسطين) مباءة للتخليط والعبث والجهل والتناقض والتلفيق والتشويه والتزوير والمسخ، خاصة فيما لفّقه في تاريخ فلسطين القديم” (217). وعليهم جميعا، بعد إيراد أخطائهم، يردّ بقسوة ولكن بالأدلّة الدامغة التي تُظهر الحقيقة كما يليق بأصحابها أن يُظهروها. ولقسوته في الردّ، يُنهي الفصل المذكور بالكلمات التالية: “إذا كان المؤلّف، جورجي كنعان، ينقد بقسوة، فلأنّه يُريد الأفضل، لا لأنّه يكره أو يحسد أو يُعادي، وإذا كان لسانه قد سَلُط، فلأنّه ينظر إلى المستقبل بارتجاف … ولأنّه يشعر بعد تحوّل فلسطين العربية إلى كيان صهيوني، بأنّ النقد للأغبياء، أو المتغابين، للجهل أو المتجاهلين، غدا واجبا، وغدا الصمت تنصّلا وهروبا” (219).

وتصديقا لما يطرحه كنعان، قد يكون من المؤسف والمحزن، أنّ الباحثين والمؤرّخين الفلسطينيين، يقعون في فخّ الرواية الصهيونية، في حين يُفلت منها باحثون وعلماء آثار إسرائيليون. وقد يكون أبرزهم، زئيف هرتسوغ، عالم الآثار الإسرائيلي المعروف، في مقال له نشرته هآرتس في 29 أكتوبر 1999،[4] بعنوان، “الكتاب المقدس، لا يوجد أدلّة في الحقل” (أو على الأرض)، يقول: “من الواضح للباحثين، أنّ شعب إسرائيل لم يحتلّ الأرض في حملة عسكرية، ولم يمرّرها إلى قبائل إسرائيل الاثني عشر. والأمر الأكثر صعوبة في الفهم هو حقيقة أن المملكة المتحدة لداود وسليمان، الموصوفة في الكتاب المقدس على أنّها قوّة إقليمية، كانت على الأكثر مملكة قبلية صغيرة. بالإضافة إلى ذلك، الربّ إله إسرائيل كان زوجًا، والديانة الإسرائيلية القديمة اعتمدت التوحيد فقط في نهاية الحكم الملكي وليس على جبل سيناء”. ورأيه هذا، الذي كان متطرفًا في ذلك الوقت … أصبح في السنوات الأخيرة أكثر مركزيّة في علم الآثار الحديث. ففي 19 أكتوبر / تشرين الأول 2017، نشر الصحفي نير حسون مقالة يُتابع فيها ما بدأه هرتسوغ، ويكرّر فيها حججه، ويخلُص في استنتاجاته منها إلى أنّ “ما قدّمه هرتسوغ في عام 1999، ليس بعيدًا عن الإجماع العلمي، وأنّ معظم علماء الآثار يتّفقون مع تأكيداته، بديلا للتصريحات التي أفادت بأنّ علم الآثار قد نجح في إثبات أنّ ما هو مكتوب في الكتاب المقدس هو حقيقة تاريخية”.[5]

ومن غير المعقول أن ننهي هذه القراءة، دون الإشارة إلى خطيئة الفلسطينيين والعرب الكبرى، والتي يعتبرها كنعان، كارثة الكوارث، الاعتراف بإسرائيل والتطبيع معها.

يُعالج الكاتب هذه القضية في الفصل الأول (19-45)، وقد عنونه بتصريح غولدا مئير: “من دون اعتراف وسلام لن يكون لنا وجود في هذا البلد” (هآرتس 17/12/1973). وتلك حقيقة فعلا، أنّ الكيان الصهيوني سعى منذ قيامه إلى سلام، ولكن السؤال هو: أيّ سلام؟ السلام كما يُريده هو طبعا، لا كما يُريده العرب والفلسطينيون. سعت إسرائيل إلى السلام الذي يتحقّق الآن على أرض الواقع، والذي يعني السلام الذي يُكرّس بقاء الدولة الصهيونية، ويفتح أمامها أبواب العالم العربي بثرواته وموارده الطبيعية والبشرية الهائلة (27)، والذي يؤدّي إلى محو كلّ خطوة تقدّمية حقّقها العرب خلال نضالهم الطويل، والقضاء على كلّ حركة قومية ثورية في المنطقة، وإلى تمزيق الأمة العربية وإبقائها تابعة للإمبريالية الغربية (32)، السلام الذي لا يكون في ظلّه “(مخربون) يبثّون الهلع والرعب في إسرائيل بأسرها” (34)، هآرتس 19/4/1974. وباختصار، السلام الذي “يعني تحقيق الصهيونية” (35). وهذا ما بدأ يحدث منذ زيارة السادات للقدس عام 1977، والتي كانت أول تعبير علني عن الاعتراف العربي بشرعية الدولة اليهودية (37). وبعدها جاء اتّفاق أوسلو واعتراف الفلسطينيين أنفسهم بإسرائيل كدولة ذات أرض وسيادة وسلطات تنفيذية وتشريعية وقضائية، ما يعني أنّ كل ما تفعله شرعيّ (39). ولم يكن اعترافا متبادلا، ولم يزد على أن فتح الباب أمام دول عربية أخرى للاعتراف والتطبيع مع إسرائيل، اللذين يعتبرهما كنعان كارثة الكوارث التي أغلقت ملف الصراع العربي الصهيوني على حساب الحقّ الفلسطيني، وتصفية القضية الفلسطينية (43). وكلّ ذلك يعني عجز العرب عن ترجمة تفوّقهم العددي ومواردهم الاقتصادية الضخمة، إلى انتصار عسكري (44). ويّنهي كنعان هذا الفصل بالكلمات التالية: “إنّ الاعتراف بالكيان الصهيوني يعني الإقرار بمسخ التاريخ، والتسليم بكيان استعماري، في وقت تحرّر العالم كلّه من الاستعمار (45).

وختاما، أرجو أن تُسهم هذه القراءة في معرفة جورجي كنعان ومؤلّفاته وما تسعى إليه من معرفتنا بتاريخنا وإظهار الحقيقة ودعم النضال الفلسطيني الذي يُؤمن كنعان بصدقه وعدالته وبنصره المحتّم ولو بعد حين.


[1] . جورجي كنعان، خطيئة الفلسطينيين، بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 2007.

[2] . David Ben Gurion, The rebirth and destiny of Israel, N.Y. 1954, P 100.     

[3] . وايتلام كيث، اختلاق إسرائيل القديمة، إسكات التاريخ الفلسطيني، ترجمة سحر الهنيدي، الكويت: عالم المعرفة، 1999.

Keith. W. Whitelam. The invention of ancient Israel, The silencing of Palestinian history. London, 1996. Routledge.

[4] . זאב הרצוג. התנ”ך. אין ממצאים בשטח. https://www.haaretz.co.il/.premium-1.4526531

[5] . زئيف هرتسوغ – ويكيبيديا العبرية – זאב הרצוג. ויקיפדיה. https://he.wikipedia.org/wiki/%D7%96%D7%90%D7%91_%D7%94%D7%A8%D7%A6%D7%95%D7%92

By د. محمد هيبي

أستاذ اللغة العربية، كاتب وناقد أدبي. ولد في 5/3/1952 في قرية كابول، في الجليل الغربي، القريبة من "ميعار" المهجرة، مسقط رأس والده الشاعر الشعبي الفلسطيني، أحمد محمد هيبي (المعروف بالكشّوع أو أبو عصام الميعاري). هُدِمت ميعار وشُرّد أهلها في النكبة الفلسطينية عام 1948.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *