“لا أريد بداية ولا نهاية، أريد فقط جملة واحدة تُقال لي حين أُنسى: “لقد مررتَ من هنا … وكان لذلك طعم”. المرحوم، د. خالد مصطفى خليل (أبو حسام)المرحوم د. خالد خليل

كُثر هم الذين مرّوا ولم أشعر بهم، وأنت في أشهر قليلة تشاركنا فيها طعم الصداقة والأخوّة الصادقة، وطعم العذاب والألم ممّا يحدث حولنا، تركت لي ما يجعلني لا أفقد الأمل، فقد طغى طعم مرورك الذي لا أجد له وصفا يُنصفه، على طعم علقم الفراق.

مرورك البهيّ يا خالد، كرّسك شعلة نور دائمة الحضور في عوالم الظلام.

يا خالد، أيّها الصديق الذي استعجل الرحيل، لا أدري، هل أرثيك أم أرثي نفسي بفقدك، وهل أُعزّي أهلك وأحبابك أم أعزّي نفسي بغيابك؟ ولكنّي لن أبكيك. أكره أن تكون الدموع تعويضا عن إنسان بقامتك ومزاياك، ولِمَ البكاء وأنا أثق أنّني ملاقيك ولو بعد حين؟

نعم لقد مررتَ من هنا يا خالد … نعم مررت، مررت ولم يكن مرورك أيّ مرور، ونعم، كان لمرورك طعم ولكن ليس أيّ طعم. كان حلوا بهيّا ومميّزا. ما زلتُ رغم ألم الفراق أتلمّظ حلاوة اللقاء وطعم المرور، أتلمّظ بهما رغم سكاكين الألم وقسوة رحيلك الذي باغتني بطعم جديد للعلقم، وكأنّي وإيّاك لم نكن نعرف هذا الطعم الذي عشناه وما زلنا نعيشه ويعيشه شعبنا كلّ يوم وكلّ ساعة، في هذه الأيام التي لا نعرف للحياة فيها طعما آخر. كيف لا ونحن نقف أمام كلّ ما يحدث عاجزين عجز الموت! وهكذا أنا بعد رحيلك، عاجز عجز الموت. ولكن، رغم كلّ المرارة التي عشناها وما زلنا، أسعدني تفاؤلك وأيمانك بأنّنا يجب ألّا نفقد الأمل حتى آخر لحظة في حياتنا؛ فلماذا استعجلت الرحيل يا خالد وكنّا قد تواعدنا على لقاء قريب؟

لماذا استعجلت الرحيل يا أخي وصديقي الذي تعرّفت إليه قبل أقلّ من عام، ولكن في لقاءاتنا القليلة تصرّفنا وكأنّ أحدنا يعرف الآخر منذ ألف عام. جمعَنا الاحترام المتبادل والمحبّة الأخويّة الصادقة. اتّفقنا في كثير من مواقفنا رغم اختلاف انتمائنا السياسيّ. ورغم اختلافه، اتّفقنا في يأسنا من كلّ تيّاراتنا السياسيّة الفاعلة في الساحة، ومن برامجها التي لم تُفضِ إلى شيء، ولم نستطع تحديد منظور قريب أو بعيد يُمكن فيه أن تُفضي إلى شيء.

بفقدك يا خالد، شعرت أنّي أفقد عالما كاملا، عالما اكتشفته صدفة، وفقدته فجأة، مرّ سريعا كالحلم ليُضيف انكسارا أليما إلى انكسارات روحي المعذّبة أصلا، فما الذي سيُعزّيني بعد رحيلك؟ ما الذي سيُرمّم انكسار روحي إن لم يكن حضورك البهيّ الباقي في بحر إنجازاتك الهادر.

صحيحٌ أنّها فترة قصيرة تلك التي قضيناها معا، ولكن هل تُقاس العلاقات بين الرجال، الأصدقاء المحترمين الأوفياء، بالساعات والأيام والسنين، أم بمتانة ذلك الرابط العظيم الذي يولد بينهم في لحظة ما، رابط الصداقة الصادقة المنزّهة عن المنافع والمصالح والميول. ذلك الرابط الذي يضع الإنسان على المحكّ، فإمّا أن يسمو به، وإمّا أن يسقط شرّ سقطة. سمونا يا خالد ولم نسقط يا صديقي.

بالرغم من إرثك العلميّ والأدبيّ الثريّ الذي تركته فجعلك عصيّا على الغياب، سأفتقدك كثيرا يا صديقي، وسيفتقدك اتّحادنا، “الاتّحاد القطريّ للأدباء الفلسطينيّين”، الذي لم أحتج لكبير عناء لإقناعك بالانضمام إليه، فزدتنا شرفا وقوّة بهذا الانضمام الذي أسعد كلّ طاقم الإدارة حين حدّثتهم عنك.

في لقاءاتنا القليلة بدأنا نرسم خطوطا قد نتلمّسها معا في طريقنا الجديد، ولكنّ القدر لم يُمهلنا يا أخي، فلماذا استعجلت الرحيل يا خالد؟!

حين يسألني أحد أعضاء الاتّحاد أو أحد الأصدقاء، عنك وعن سبب اهتمامي بك وبعلاقتي بك كأخ وصديق وعضو في اتّحادنا، تعجز الكلمات فأكتفي أحيانا بالإشارة إلى صفحتك في موقع “الحوار المتمدّن”، وهو ليس أيّ موقع، وليعرفوا من أنت؟ أحضّهم على قراءة ما فيها من علم وأدب يحملان بذور إبداعك ومكنونات فكرك التقدّميّ النيّر. تلك الصفحة الثريّة، أبهرتني وجعلتني اعترف أمامك ذات لقاء، بسوء حظّي الذي حال دون معرفتي بك منذ زمن بعيد. ولكن في رحلتنا القصيرة عرفت السبب، إنّه تواضعك يا صديقي. لم يكن حبّ الظهور من أخلاقك، ولا هدفا من أهدافك. كنت مثالا للتواضع يفتقده معظم كُتّابنا ومثقّفينا في هذه الأيام التي تَغرق وتُغرقنا معها في الظلام.

وأحيانا أيضا، عندما يسألني أحدهم، أكتفي بالإشارة إلى لقائنا الأول، اللقاء الذي تمّ مصادفة في بيتك العامر، يوم الجمعة، الرابع من تشرين الأول 2024، وكيف أنّني سُررت أيّما سرور بذلك اللقاء. أوّلا لأنّني نهلت الكثير من بحور معرفتك، وأهديتني “أغنية للضوء”، ديوان شعرك الوحيد الذي أصدرته رغم أنّ لديك الكثير من القصائد التي تستحقّ النشر. وثانيا لأنّني أهديتك روايتي الجديدة، “النهار بعد ألف ليل”، وهي رواية يفوق عدد صفحاتها الخمسمائة صفحة، وكيف أنّك قبل قدوم يوم الجمعة التالي، كنت قد قرأتها وكتبت مقالا حولها، مقالا قصيرا لكنّه شديد العمق والكثافة، ويتمتّع بموضوعيّة أسعدتني، فأنت لا تُحابي صاحب النصّ مهما كان قريبا.

وأكثر من ذلك، في لقاء تالٍ، وكانت صديقتي الفلسطينيّة النصراويّة المغتربة في كوبنهاغن، المترجمة سوسن كردوش قسّيس، بعدما حدّثتها عنك، قد حمّلتني أمانة، أن أهديك بعض أعمالها التي ترجمتْها عن الدنماركيّة إلى العربيّة؛ في ذلك اللقاء حملتُ إليك الأمانة مضطربا، يُراودني شعور بأنّني أُثقل أو أتطفّل عليك، ولكنّك تقبّلت الهديّة بكلّ رحابة صدر، وفاجأتَني مرّة أخرى. خلال بضعة أيّام فقط، أرسلت لي مقالا موضوعيّا آخر، كتبتَه حول ترجمات سوسن كردوش قسّيس، ودفعتني المفاجأة فسارعت في إرسال المقال إلى صاحبة الشأن فورا، فطارت فرحا به وبهذه الاستجابة السريعة، أسعدتها هذه المفاجأة الرائعة. وقد سَعِدت أيضا بموضوعيّة مقالك، فهي من هذا النوع من الكتّاب والمبدعين.

في لقائنا الأخير، الذي لم يخطر ببال أحدنا أنّه سيكون كذلك، حاولنا استكمال بعض الخطوط التي بدأنا برسمها معا، أخبرتك يومها بأنّني سأغيب شهرا خارج البلاد، ولكن فور عودتي سنتّفق على موعد تقدِّمُ فيه محاضرة لأعضاء اتّحادنا، تتحدّث فيها حول موضوع “الذكاء الاصطناعي”، هذه التكنولوجيا التي غزت عالمنا حديثا وما زال معظمنا يجهل التعامل معها، ويجهل ما تحمله من نوايا خبيثة وأهداف استعماريّة بوجه جديد ناعم أملس كجلد الثعابين، ولكنّك كنت تُدرك كلّ أسرارها، وكنت تفكّر بعمق: كيف يمكن لنا أن نجيّر استخدام هذا السلاح الموجّه ضدّنا، وتلك التكنولوجيا التي يُحاربوننا بها، بشكل يُفيد مجتمعنا وشعبنا بل والإنسانيّة جمعاء. وحاولتَ يومها أن تشرح لي كيف للإنسان إذا أحسن استخدام تلك التكنولوجيا وبرامجها، أن ينتصر عليها وعلى أربابها، وأن يتحرّر بدون حاجة إلى السلاح التقليديّ الذي يُستخدم في الحروب التقليديّة. قلت لي: يستطيع الإنسان أن ينتصر ويتحرّر وهو جالس أمام حاسوبه، عدوه الصديق، أو صديقه العدو، لأنّ حسن استخدامه لهذا السلاح، التكنولوجيا، سيقوده إلى استقلاله عن أربابها الذين قصدوا بها السيطرة على أقدارنا وفرض هيمنتهم علينا.

فهل لمثلك بعد كلّ هذا أن يغيب يا أخي؟! لا لن تغيب! ودعني أؤكّد لك ذلك في نهاية هذه الكلمات التي مهما طالت لن تفيك حقّك. دعني أؤكّد حضورك، بشكري العميق الذي تعجز كلّ الكلمات عن التعبير عنه، شكري لتلك الإنسانة المثقّفة التي كاد حضورك أن يُنسنيها،  تلك الأخت الرائعة التي كانت سببا في تعارفنا، عضو اتّحادنا الكاتبة والباحثة راوية شنطي، أخت زوجتك المصون، فهي التي وجّهتني إلى ذلك اللقاء الذي لم يكن في الحسبان، والذي كان مفروضا له أن يستمرّ دقائق معدودة على أكثر تقدير، أُسلّم فيها أمانة وأستلم أخرى، ولكنّك وزوجك المصون، فاجأتماني بما فاق كلّ توقّعاتي، وجوهكم الطيّبة البشوشة، واستقبالكم الحارّ، ودعوتكم الصادقة لي لدخول البيت واحتساء القهوة. هل هذا قليل؟ وكان اللقاء الأوّل، وتلته لقاءات، قليلة لكن كلّ واحد منها بحجم عالم كامل. فشكرا عزيزتي راوية. كلّ الكلمات عاجزة.

وكان اللقاء، وكان الحضور، واستمرّ بعد الرحيل والغياب. استعجلت الرحيل يا أخي يا خالد! غاب الجسد وبقيت الروح، وبقي خالد في الأثر الخالد، وبقيت أنت عصيّا على الغياب.

نعم، “لقد مررتَ من هنا … وكان لذلك طعم”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *