قراءة في رواية “جوبلين بحريّ” للكاتبة دعاء زعبي خطيب

مقدّمة

فاجأتنا صاحبة الـ “خلاخيل” (2018)، بروايتها الجديدة، “جوبلين بحري” (2021)، وهي باكورة أعمالها الروائية، حبكتها كتطريز فلسطينيّ منمنم، أو كقطعة فسيفساء مركّبة، تلاصقت فيها الأحداث والشخصيّات، بالأزمنة والأماكن، وربطتها بصراع داخلي فيه من البوح والذكريات ما يُغري، وصراع خارجي فيه من التحدّي والمواجهة والإصرار على كسب المعركة، ما يستفزّ القارئ ويُخرجه عن صمته. إنّها رواية التحدّي والمواجهة والصمود، وأهميّتها، كما جاء على لسان الروائي السوري الكبير، حيدر حيدر، في تظهيره للرواية، تكمن في “إنّها شهادة رائعة ومستقبلية للضوء والنور في مواجهة الظلام والوحش الأعمى”.

في الرواية “، تُحلّق دعاء زعبي خارج سرب الكاتبات المتشبّثات بما يُسمّيه بعض النقّاد “أدبا نسويا”. لا شكّ أنّ الكاتبة تهتمّ بالمرأة وقضايا علاقتها بالرجل، ويظهر ذلك بشكل أو بآخر في الرواية، ولكن، هناك ما يُقلقها أكثر. لذلك هي تكتب أدبا إنسانيا ينتصر للمرأة كإنسان، بانتصاره للإنسان عامّة، وانتصاره بشكل خاصّ للإنسان الفلسطيني الذي تشبّث بأرضه وكُتِب عليه أن يُواجه في حياته اليومية، تلك العنجهيّة الصهيونية التي عملت وما زالت تعمل على إحباطه وحشره في الزوايا المظلمة، خاضعا للفكر الرجعيّ والممارسات العنصرية. من هذه المواجهة اليومية، وُلِد لدى الكاتبة، ذلك الإصرار على التحدّي، ولدى شخصيّات روايتها، تلك القدرة على المقاومة والصمود.

في المضمون

“جوبلين بحري”، هي قصّة المرأة الفلسطينية المثقّفة الواعية التي تُغلّب العقل على العاطفة، وتعرف كيف تستخدم طاقاتها للصمود في المواجهة. إنّها قصّة التّحدي والصمود الفلسطيني، في مواجهة العنصرية الصهيونية المقيتة، والاستعلاء الفكري والقومي البغيض الذي يسعى لقتل روح الإنسان الفلسطيني وشخصيّته، ليُبقيه عاجزا عن المواجهة والمقاومة. في الرواية، يظهر الفكر الصهيوني الرجعي، على شكل عطف مصطنع كاذب، يُدَسّ فيه السمّ في الدسم، وينطلق كفحيح أفعى، في نصيحة عاقر من سيّدة صهيونيّة أفقدتها العنجهيّة الحربية سرّ أنوثتها وحنو أمومتها، فأرادت للأرض الفلسطينية أن تكون عاقرا هي الأخرى، لا تلد، وإن وَلدت، فليكن أولادها مجرّد عدد، عاجزين لا يصلحون إلّا أن يكونوا حطّابين وسُقاة ماء، وعبيدا لأسيادهم. ولكنّ لسوء حظّ تلك السيّدة وعنجهيّتها، “عسى أن تكرهوا شيئا …”، فالشرّ قد يلد الخير أحيانا، وتلك النصيحة الخبيثة الماكرة، ولدت رواية شائقة أثبتت عقم النصيحة وعقم صاحبتها. وكانت الولادة ما أرادت لها الكاتبة وميار، بطلة روايتها، لا ما أرادته سارة فنكلشتاين، التي تنظر إلى ميار، من عليائها المصطنعة، نظرة تفضح حقدها الصهيوني الدفين. تلك النصيحة الماكرة، وَلدت الرواية، والروايةُ وَلدت حياة ممهورة بالتحدّي والصبر والمثابرة، وبالحبّ والوفاء، يعيش في أتونها إنسان فلسطيني واعٍ وقادر، قَبِل التّحدّي، تحدّى الاستفزاز وصمد في المواجهة حتى كان له ما أراد.

ولد الصراع بين ميار، بطلة الرواية، وغريمتها، سارة فنكلشتاين، مع تلك النصيحة الخبيثة التي أرادت للحلم “أن يُجهض بمبضعٍ معادٍ وسامّ، رفضه رحمها (الفلسطيني) بعنادِ جنينٍ أصرّ على الحياة وعلى التشبث والبقاء رغم محاولات القتل المتعمّد” (جوبلين، 31). الحلم حلم ميار، المرأة الفلسطينية المثقّفة الواعية، والحكم عليها هو حكم سارة فنكلشتاين، “ويأتي حكمها الجائر ليبتر حلمها وهو لا يزال هلالا في مهده. سحابةٌ من دخانٍ أسود ارتفعت كسدٍّ منيعٍ في وجه طموحاتها حاجبةً عنها نور فجرٍ حلمت بلقائه. بإصرارٍ عنيد، رفضت الانصياع لهذا الدخان الذي طاول سواده سحب العنان” (41).

تحلم ميار بأن تعمل في مجال الصحافة والإعلام، “هناك يبدأ مشوارها وتزهر أحلامها” (42)، تنتسب لجامعة إسرائيلية وتُنهي سنتها الأولى بنجاح، ولكن لغرض في نفس غريمتها، يأتي قرار اللجنة المسؤولة، “ليست ملائمة للعمل الصحافي … ننصحها بتغيير الموضوع” (43)، وبعد هذا الحكم الجائر، تأتي النصيحة الخبيثة، “ليس من الخطأ أن تتزوّجي يا عزيزتي وتبني أسرة … الحياة الأسريّة مهمّة” (44).

تترك ميار الجامعة، وتغترب وتطول غربتها، تعيش المنفى وتتحدّاه إلى أن تُحقّق حلمها بالعلم وشهادة الدكتوراه، والعمل كمحاضرة في جامعة برلين التي لها مكانتها، لتعود بعد ذلك إلى الوطن تحمل إنجازاتها العلميّة، شهادة على حبّ الوطن والانتصار له. تعود بعدما ردّت كيد سارة فنكلشتاين إلى نحرها، إذ ساقها القدر للقائها بعد خمسة عشر عاما، ضيفة على مؤتمر دعت إليه الجامعة، سيجمع بين باحثين وضيوف من مختلف أقطار العالم. وهناك ستُفاجأ بالدكتورة ميار يوسف ونجاحها، وبمداخلتها في المؤتمر حول “دور الصحافة الغربية في فلسطين إبّان النكبة!” (167).

للتحدّي والصمود طريق آلام طويلة. ولذلك، وبموازاة تلك الطريق، تُعالج الرواية الهمّ الفلسطيني واغتراب الإنسان العربي والفلسطيني في منفاه، حتى لو كان طوعيّا اختاره بنفسه. فميار وحلا وغيرهما من الطلاب الفلسطينيين والعرب الذين اختاروا الدراسة في الخارج، اختاروها مُكرَهين، وهناك يعيشون الغربة والاغتراب في منفاهم الطوعي، آخذين بعين الاعتبار الظروف الذاتية والجمعية القاسية التي دفعتهم إليه دفعا. والمنفى يعني رفض الواقع الجديد مهما كان جميلا، لأنّه يأتي على حساب الواقع الذي غادره المنفيّ، فبرلين رغم جمالها تظلّ هي المنفى، ويافا وفلسطين هما الوطن المشتهى، وهذا يعني أنّ المنفيّ سيظلّ في حنين دائم إلى الماضي، إلى الوطن حتى لو كانت الحياة فيه صعبة وقاسية، فهو وإن استطاعت ميار أن تنفصل عنه جسدا، لا تستطيع أن تنفصل عنه روحا وذاكرة. تقول وهي تقف أمام اللوحة في معرض حلا: “لوحةٌ تشبه أمّها وجدّاتها وتِبْرَ زنودهنّ الملساء. تلمس فيها حنينًا لماضٍ لا تتوقّع أن تلقاه في غربةٍ تصرّ على ابتلاعك في أجوافها. لكنّ الوطن المزروع فيك وفيها ينتفض ثائرًا، يتصدّى لغربتك، لصقيع أيّامها، مذيبًا بحضوره الدّافئ برد وحدتك وقسوة غربتك” (83). وفي حالة ميار التي قذفها التحدّي إلى المنفى، حنينها للوطن ليس نابعا من الماضي فقط، بما فيه من علاقات حميمية بالأرض والناس، بالحبيب الذي اضطرّها قبول التحدّي إلى قطع علاقتها به، بل حنينها نابع من رؤيتها للمستقبل أيضا، وضرورة الصمود لبلوغه، ففي الوطن تنتظرها تحدّيات أخرى تستكمل بها ما بدأته في المنفى.

ومن هنا جاءت بداية الرواية من آخرها تقريبا، من تلك الرسالة التي كتبتها ميار لسارة فنكلشتاين، في تلك الليلة المفعمة بالحزن والذكرى، لأنّها ليلة رأس السنة الأولى بعد رحيل حلا، رفضت البطلة مشاركة أصدقائها احتفالهم، وعزلت نفسها في غرفتها مستلقية على أريكتها تكتب رسائلها وتستحضر حلا التي سلخت برحيلها قطعة من ذاتها. حلا التي كان لا بدّ لها كأيّ منفيّ، لكي يصمد في المنفى وما فيه من تحدّيات، أن تبحث عنها كملاذ، لحاجة المنفيّ إلى من يُخفّف عنه ثقل الواقع الجديد وعدائيّته. وكانت حلا هي الملاذ. ويبدو ذلك أيضا في علاقة ميار مع باقي أصدقائها، ولكنّ حلا هي توأم الروح، ومنها تعلّمت درسها الأول في المنفى، من قصة والد حلا، المرويّة على لسان عمّتها حين طلبت منها حلا أن تحكي لها عن والدها: “تعلّم درسه الأوّل خارج الوطن، أنّ الغربة تصغر ومساحة الوطن تكبر عندما تجد في الغربة روحًا تشبه روحك، ولسانًا ينطق لغتك، وقلبًا يخاف عليك” (68-69). وهذا الكلام ينطبق تماما على لقاء ميار بحلا وعلاقتها بها، فاختلاف ميار إلى المعارض أو الأماكن المختلفة في المنفى، شكّل مسيرة بحثها عن الملاذ والخلاص.

وإذا كانت حلا متعلّقة بأبيها ومتأثّرة به، وكلّ فتاة بأبيها معجبة، حين تقول: “بربّك يا أبي … قل لي أين سأجد رجلًا مثلك؟ مستحيل. بل من سابع المستحيلات. لا أعتقد أنّني سألتقي يومًا برجلٍ يشبهك” (75)، فهذا انعكاس لتأثّر الكاتبة بأبيها أيضا. نلمس هذا التعلّق في روايتها هذه، كما لمسناه سابقا في إصدارها الأوّل، “خلاخيل”. والمرأة تعتزّ بأبيها عادة، بسبب وبغير سبب، فما بالك عندما يكون سندها، يُمسك بيدها ويرشدها في طرق حياتها العامّة والخاصّة، ويترك لها حريّة الاختيار؟

في الفقرة التي تبدأ بعبارة : “في هذه الليلة الاستثنائيّة …” (12)، تستبطن الكاتبة دواخل ميار وتُعبّر بلغة شاعرية مشبعة بالقهر وألم الوحدة وشفافية البوح، وتجمع بين الخاصّ والعامّ، بين وحشة المنفى ووحشيّته وكآبة لياليه التي يستنزف بها روح المنفيّ وقدراته، وبين وحشية الغرب، ذلك الوحش الذي يُغرينا بالحريّة ويجمعنا ليُشتّتنا، أناسا وأوطانا، ويفترسنا بأنيابه الحديدية المشحوذة بلا رحمة، حين يرمينا مسكونين بأحلام ورديّة تغدو أوهاما في مدن بلا قلب، مدن الرّيح والضّباب والقصدير، كما جاء في لغة الرواية، تلك المدن التي نظنّها سحرتنا، ولكن حين نستيقظ من أوهامنا، نكتشف أنّها ضبعتنا وسرقت منّا أحلى أيّام عمرنا.

وتُعبّر الكاتبة في روايتها أيضا، عن موقفها من مظاهر التكنولوجيا الحديثة، وترى فيها مرض العصر الذي فيه من النقمة أضعاف ما فيه من النعمة. “ألهذه الدرجة شُغِلنا وعُمينا عن رؤية هذه التّفاصيل الدقيقة من حياة أحبّتنا؟ هل أصبح تقوقعنا في دواخلنا مرضًا مزمنًا من أمراض هذا العصر اللعين، فقدنا معه إحساسنا بمن حولنا والقدرة على رؤية ما يجري حولنا؟ أم هو إيقاعنا السريع في دنيا سحبتنا إلى عوالمها الافتراضيّة المجنونة، أفقدتنا البوصلة فضللنا الطّريق؟” (111-112). وهذا الموقف من التكنولوجيا، هو موقفها من صانعيها وفارضيها علينا، هم الذين يُريدون للإنسان أن يتقوقع ويفقد إحساسه وقدرته على رؤية ما يجري حوله، يُريدونه شيئا يُباع ويشترى، وآلة خرساء عمياء تُنفّذ أوامر صانعيها.

ورغم كلّ ما تدفقه الرواية من حزن، فذلك لا يتناقض مع حبّ الكاتبة للحياة، نستشعره في شخصيتي الصديقتين. حَلا، “ورغم صغر تجربتها، إلّا أنّها عرفت أنّها عابرة سبيل في دنيا ما عليها إلّا اقتناص لحظاتها الجميلة والتّحليق بها نحو ما تشتهيه نفسها التّائقة إلى الأحلام والحريّة” (79).

وتموت حلا، وتفقد ميار توأم روحها وقطعة من ذاتها. وتأتي تلك الليلة، ليلة رأس السنة التي تحتضن حاضر السرد، وفيها تغمر الاحتفالات برلين وشوارعها. وتعزف عنها ميار، ولا تُشارك أصدقاءها، تحبس نفسها في غرفتها بين الأريكة والمطبخ، تشرب قهوتها وتكتب رسائلها وتُطيّرها إلى عناوينها عبر شياطين التكنولوجيا. وأوّل رسالة كانت تلك الرسالة التي بدأت بها الرواية، إلى الصهيونيّة، سارة فنكلشتاين التي ولد شرُّها خيرا، فكان حكمها ونصيحتها رمية بغير رامٍ، لم تُصب هي هدفها، ولكنّها استفزّت ميار لتُحدّد هدفها وتسعى إليه وتبلغه كاملا غير منقوص، وبذلك حقّقت ميار البطولة كاملة، فقد كان هدفها الأساس هو ردّ كيد سارة إلى نحرها. وقد تحقّق كاملا.

وتأتي بعد رسالة سارة، رسالتان في غاية الأهميّة، الأولى رسالتها إلى صديقها الافتراضي، هاشم عبد الرحمن، الصحفيّ الذي يعمل في تحرير إحدى الصحف الفلسطينيّة الإلكترونيّة الصّادرة في غزّة. “تعرّفت إليه منذ ما يقارب الخمس سنوات عن طريق الفيسبوك ومنذ ذلك الوقت أصبحا صديقين افتراضيين لواقعٍ أليمٍ جمعهما، تقاسما فيه هموم الأمّة والوطن والمهنة” (142)، ومن خلالها نلمس اهتمام الكاتبة بقضية شعبها المحاصر، وتألّمها لآلامه. والرسالة الأخرى، إلى حبّها الأول، نديم، الذي قطعت علاقتها به مضطرّة لضرورة التحدّي والصمود والفوز. وبهذا تكون كإنسانة مثقّفة واعية، غلّبت العقل على القلب والعاطفة.

ومن الجدير ذكره، أنّ البطلة في رسائلها الثلاث، عبّرت عن وفاء الكاتبة للوطن وتّمسّكها بالدفاع عن قضاياه. ويتجلّى ذلك بشكل خاصّ في رسالة ميار إلى نديم، حبّها الأوّل الذي لم يُفارق قلبها، رغم طول فترة المنفى في بلد لا يعرف القيود، (برلين – ألمانيا)، حيث بقيت ميار وفيّة لحبّها القديم/الأوّل الذي وُلِد وعاش في الوطن، على شاطئ بحر يافا، وهناك عاد ليتجدّد بعد خمسة عشر عاما، لأنّ حبّها لنديم ووفائها له، هو في الحقيقة صورة مصغّرة عن حبّها ووفائها للوطن الذي يعيش فينا مهما ابتعدنا عنه، وتظلّ العودة إليه ومتابعة تحقيق الأحلام والآمال فيه، هي الحلم المشتهى.

في البناء والشكل الفنّي

تتمتّع الكاتبة بنفس سردي قوي مكّنها من بناء حبكة قويّة ومتماسكة، رغم كثرة عناصر الرواية ومكوّناتها من تعدّد الرواة وتعدّد الأصوات، إلى كثرة الأحداث والشخصيات التي ربطتها بشكل حاذق بزمانها ومكانها، بالإضافة إلى طقوس الأنثى وما تفرضه من احتفاء بأدقّ التفاصيل النفسية والخارجية. وقد ساعدت الكاتبةَ في ذلك، ثقافتُها الواسعة، ومعرفتها بالأماكن، تلك التي وطأتها، مثل يافا وبرلين، والتي لم تطأها، مثل دمشق وأحيائها، بحكم الشتات القسري وليد السياسة الصهيونية وسياسة الغرب ووحشيّة ممارساتهما، ما مكّنها من الاحتفاء بكثير من التفاصيل الصغيرة التي لها علاقة بثقافة المكان وحضارته، مثل العادات والتقاليد: “فزيارة عمّتها لهدى ابنة الجيران باتت قريبة. رغبت في شراء هديّةٍ تليق بعروسٍ “جديدة” ستزورها بعد أيّام لتبارك لها بيتها الجديد. تنتهي من هذه المهمّة ويتمّ شراء غطاء لسريرٍ مزدوجٍ من الحرير الأرجوانيّ، يناسب عروسين حديثا العهد بالحبّ والزّواج” (78). وكذلك معرفتها بالمهن والفنون المختلفة، مثل النقش على النحاس ونمنماته الشرقية، بالإضافة إلى معرفتها بالرسم ومشاهير رموزه ولوحاتهم.

أجادت الكاتبة كذلك في توظيف تقنيّات تيار الوعي بشكل لافت، فقد بدأ الرواية من النهاية تقريبا، بتلك الرسالة لسارة فنكلشتاين، وقد كانت افتتاحيّة (برولوغ) موفّقة. أحزان البطلة تلك الليلة، وحالتها النفسية، دفعتها إلى تكسير الزمن واسترجاع تفاصيل الحكاية مع سارة فنكلشتاين، بما فيها من لحظات فرح ترتبط بالوطن وعائلتها في يافا، وبنديم، حبّها الأول. وتلك التفاصيل قادت الكاتبة إلى الغوص في طبقات لاشعور شخصيّاتها، والبوح بما فيها من آلام وأحلام لا تخلو من دفقات فرح عارم شعرنا به في لحظات مختلفة، كلقاء ميار وحلا، أو لقاء ميار مرّة أخرى بسارة فنكلشتاين. ونجحت الكاتبة أيضا، في تأجيج الصراع الداخلي بعدد من الأسئلة الإنكارية التي تحفر في طبقات النفس وتعكس ما في طبقات اللاشعور من وجع.

وهكذا تناسلت القصص عبر الذاكرة والاسترجاع. فبالإضافة إلى قصّتها مع سارة فنكلشتاين، محور الحبكة في الرواية، وقصّتها مع حلا، توأم روحها وملاذها في المنفى، استعادت ميار قصصها مع كلّ من اختارتهم هدفا لرسائلها، من نديم، حبّها الأول (33)، إلى ذلك الصديق الافتراضي، هاشم عبد الكريم (142)، وكذلك قصة رحلتها مع أصدقائها إلى المغرب وما واجهته من صعوبات عبّرت عن إشكاليات الهويّة التي يعيشها الفلسطيني داخل الخطّ الأخضر. وبنفس الشعور بالألم، أقحمت التاريخ، واستلهمت ما فيه من فرح وحزن، وملك ضائع في الأندلس (إسبانيا)، ساعدها على التعبير عن ضياع الهويّة.

دعّمت الكاتبة أسس روايتها بأسلوب آخر هو أسلوب الرواية البوليفونية، متعدّدة الأصوات، التي تعطي للراوي ولسائر الشخصيّات مطلق الحريّة في التعبير عن نفسها. وأظنّها بتوظيف هذا الأسلوب، أرادت الكاتبة أن تُعوّض نفسها وشخصيّاتها، وما تمثّله تلك الشخصيّات من خاصّ وعامّ، بحريّةٍ من صنع يديها، تكون بديلا لتلك الحريّة المزيّفة التي يُغرينا بها الغرب، ويتّخذ منها طُعما لاصطيادنا وسرقة أرواحنا وأجسادنا وأحلى أيام عمرنا.

ونجحت الكاتبة أيضا، في رسم ذلك التماهي بين شخصيّتي ميار وحلا، فكأنّي بها قد رسمت شخصية واحدة جزّأتها إلى شخصيّتين، لأنّ الواحدة لا تتّسع لحمل كلّ أفكارها، ناهيك عن تعدّد الفضاءات، فالمنفى هو قدر الإنسان العربي عامّة، والمنفيّ قد يكون سوريّا أو مصريا وليس فلسطينيا فقط، ولهذا لجأت الكاتبة إلى أسلوب التجزيء لتُشارك الإنسان العربي حيثما كان، هموم التجزئة والشتات.

حلا وميار هما وجهان لقصّة واحدة، وإلّا لماذا أفردت الكاتبة كلّ تلك المساحة لحلا واحتفت بتفاصيلها الصغيرة. ويظهر الفارق بينهما في المكان، فميار فلسطينية وحلا سوريّة، وهكذا استطاعت الكاتبة أن تجمع بين أناس الوطن المشتّتين في الجغرافيا، الموحّدين في الهمّ. وأظنّها أرادت أن تُذكّرنا بواقعنا المعيش في وطنٍ التجزّؤُ فيه جزاء.

كما أنّ الرثاء المتواصل لحلا (135 وما بعدها)، هو تعبير ذاتيّ وجمعيّ. فميار بفقدها لحلا، تعيش فقدين، فقدها لصديقة ورفيقة في المنفى، ولكنّ الأهمّ، فقدها لتوأم روحها وقطعة من ذاتها، لأنّ حلا، كما أسلفت، هي صورة أخرى لميار. يظهر ذلك جليّا في قول ميار: “غادرني النعيم عندما غادرتِ لكنّك بقيتِ محلّقةً معي”. (137). والشخصيّتان تتماهيان مع الكاتبة التي نجدها فيهما كما نجدها في شخصية الراوي العليم.

تتعدّد الأزمنة في الرواية، فالأحداث الخارجية تدور في فترة زمنيّة لا تتعدّى الأسابيع، ولكنّها تمتد نفسيّا إلى ما يُقارب العقد ونصف العقد من السنين. وكذلك المكان وتعدّد الفضاءات فيه، وأهمّها ثلاثة، فمن برلين، أرض المنفى، تنطلق الذاكرة إلى يافا ودمشق. هذا المثلث يمتدّ ضلعان من أضلاعه في الجغرافيا والروح، أحدهما بين يافا وبرلين، والثاني بين دمشق وبرلين. برلين المنفى، تُشكل رأس الزاوية كحاضنة للّقاء الجغرافي والرّوحي. أما الضلع الثالث، بين يافا ودمشق، فموجود في الروح والذّاكرة فقط، مقطوع في الجغرافيا، بسبب الشتات القسري وليد السياسة الصهيونية وسياسة الغرب ووحشيّة ممارساتهما. الشعور بالقيد في الفضاءات الثلاثة، وخاصة في برلين، أدّى إلى الانطلاق في فضاءين آخرين مهمّين: إسبانيا (الأندلس) والمغرب، في زمنين مختلفين: حاضر وماضٍ، لاستلهام التاريخ وإسقاط انكسارات الماضي على انكسارات الحاضر.

تنتهي الرواية نهايتها المأمولة، المفتوحة على الأحلام والآمال، حيث يلتقي الحبيبان وتتجدّد الحياة في الوطن، على شاطئ يافا التي انطلق فيها الحبّ وعاد ليتجدّد بعدما فشلت سارة فنكلشتاين في قتله. وهناك يبدأ الاحتفال بطفلة اسمها “حلا” لم تولد بعد، ولكن اسمها وولادتها الآتيين، يُعبّران عن تجدّد الأمل والإصرار على تحقيق المستقبل، لما لم يُحقّقه الماضي والحاضر. وهكذا تترك الكاتبة باب المستقبل مشرّعا أمام القارئ وأمام المرأة الفلسطينية بشكل خاصّ، والإنسان الفلسطيني بشكل عامّ.

اللغة

تسرد الكاتبة أحداث روايتها بلغة شاعرية جميلة ومشحونة بكلّ ما تملكه الكاتبة من مشاعر وأحاسيس مرهفة، وثقافة واسعة. تقول في وصف برلين: “تجلّت في روائحها الخريفيّة، كقوارير عطرٍ أفرغها عاشقٌ على جسد معشوقته، ففاضت أريجًا وشذا غمر زائريها بروائح الزّهر والمطر والرومانسيّة موقظًا أحاسيسهم المنسية، باعثًا فيهم الحنين إلى الحبّ وحبر الدّفاتر القديمة” (79). كما أنّ لغة الكاتبة تشي بجرأتها، بدءا من العنوان واستعمال المفردة الأجنبية فيه (جوبلين)، وهي تعني تلك اللوحات المطرّزة المنمنمة التي تحتفي بأدقّ التفاصيل. وهكذا جاءت الرواية كما أسلفت، لوحة تحتفي في شكلها ومضمونها، بأدقّ التفاصيل، النفسيّة والخارجية. وقد نعتت الـ (جوبلين) بالبحري، لأنّ يافا، لا يستطيع أيّ شيء فيها ألّا يكون بحريّا، فهي عبر بحرها تُطلّ على برلين وعلى العالم كلّه، تاريخا وجغرافيا وحضارة.

ورغم جرأة لغة الكاتبة، إلّا أنّها تظلّ في موضوع الجنس بالذات، متواضعة خجولة، ومردّ ذلك إلى رواسب التربية المحافظة. وقد تكون العبارة السابق ذكرها، “كقوارير عطرٍ أفرغها عاشقٌ على جسد معشوقته”، أقصى ما نتوقّعه من جرأتها في هذا المجال. ويُلاحظ في الرواية أنّ أشكال اللغة ومستوياتها، تتعدّد لتُلائم نفسيّة شخصياتها، وموقعها الاجتماعي والثّقافي.

أصرّت الكاتبة على استعمال اللغة الألمانية لكتابة أسماء بعض الأماكن أو الشوارع، وذلك في رأيي يُعبّر عن أمرين: الأول هو تلك النزعة البرجوازية القابعة في لاوعي دعاء زعبي، والتي تتمظهر بأشكال مختلفة في الرواية، في اختيارها لشخصيّاتها مثلا، فميار فتاة مرفّهة اجتماعيا وماديّا. وفي احتفائها المتكرّر بالمظاهر، في الطقوس والأصول، كتلك الأصول التي يجب علينا مراعاتها قبل تقديم الورود (138)، وذلك لا ينتقص من الرواية. أما الوجه الإيجابي والوطني لتلك النزعة البرجوازية عند الكاتبة، فيبرز بشكل واضح في انتصار الكاتبة للوطن وللمظلومين المقهورين فيه.

والأمر الثاني الذي أرغم الكاتبة على استعمال اللغة الألمانية، هو صعوبة كتابة تلك الأسماء باللغة العربية، فكتابتها قد تخدش عين القارئ أكثر منها بالألمانية، لأنّها في العربية قد تبدو أكثر غرابة. يُؤكّد ذلك كتابتها لبعض أسماء الأماكن والشوارع باللّغة العربية، مثل “أوجوست” و”بوتسدام” (81)، لأنّ شكلها في لغتنا أصبح مألوفا.

ويُلاحظ القارئ اهتمام الكاتبة بتداخل الأنواع الأدبية في الرواية، كتعبير آخر عن الصراع. فهي لم تكتفِ بشاعرية لغتها في الرواية، فضمّنتها أيضا، قصيدة تنهمر فيها عواطفها نحو غزّة وما تُعانيه من حصار، ضمن رسالة كتبتها ميار إلى صديقها هاشم عبد الرحمن، الصحفي الغزّاوي، الذي خصّها برسالة يسألها فيها عن حالها عشيّة رأس السنة.

ويظهر تداخل الأنواع والإجادة في توظيفه أيضا، في تضمينها النصّ أغنية تُحلّق مع سحر أنغامها في حديثها عن ميار وشعورها بالرضى لتُبدّد صراعها مع الوحدة بعد كتابة رسائلها حيث: “تبدأ رحلةً من الخيال راقت لها بعض سيناريوهاتها وهي تتخيّل معها ردود فعل بعضهم وهم يقرأون رسائلها. تنتعش ذاكرتها بتذكّر ماضٍ جميل عاشته لم يبخل عليها بكثيرٍ من اللحظات الجميلة. يرتجف جفناها نشوةً لتلك الأوقات وهي تستمع لمقطوعته الموسيقية: “خذني إليك / قد حار نبضي في الهوى بين يديك / قد سال الورد دمعًا مرًّا شوقًا إليك / موتًا حياةً لا أبالي فقلبي لديك / خذني إليك” (148-149).

لعبت ثقافة الكاتبة دورا كبيرا في الرواية ولغتها، فبالإضافة إلى ما ذكرناه سابقا، من معارفها وعناصر ثقافتها، نجدها تنجح في تُوظيف الأسطورة بغية أسطرة الواقع، لأنّها تراه يفوق الأسطورة حكمة وغرابة. يبدو ذلك في أسطورة عروس البحر التي أطاعت الساحرة الشريرة ووافقت في سبيل حبّها أن تتنازل عن ذيلها وتكون من بني البشر. والقصّة تبدو أمثولة صغيرة لقصة ميار، عروس بحر يافا، مع سارة فنكلشتاين، الساحرة الشريرة التي أرادت بنصيحتها الخبيثة الماكرة، أن تتخلّص من ميار وشعبها (33).

وخلاصة القول: رواية “جوبلين بحري”، للكاتبة دعاء زعبي خطيب، هي قفزة نوعيّة كبيرة، في كتابتها الأدبيّة ولغتها، خاصة وأنّها عملها الروائي الأوّل، وإصدارها الثاني الذي يأتي بعد ثلاث سنوات من إصدارها الأول، “خلاخيل” (2018)، وهو مجموعة من النصوص التي تنتمي إلى أجناس أدبية متعدّدة، سبق لنا أن كتبنا مقالا يتحدّث عنه.

By د. محمد هيبي

أستاذ اللغة العربية، كاتب وناقد أدبي. ولد في 5/3/1952 في قرية كابول، في الجليل الغربي، القريبة من "ميعار" المهجرة، مسقط رأس والده الشاعر الشعبي الفلسطيني، أحمد محمد هيبي (المعروف بالكشّوع أو أبو عصام الميعاري). هُدِمت ميعار وشُرّد أهلها في النكبة الفلسطينية عام 1948.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *