د. محمد هيبي

يطمح هذا المقال إلى قراءة واقعنا الراهن، بالمقارنة مع واقعنا أيّام كتب توفيق فياض روايته “المشوّهون” (1963)، والذي يبدو لي الآن أنّه عانى حدّ التشوّه، بفعل الفقر والتربية والضغط الاجتماعي، وبفعل السياسة كذلك. ومع ذلك فقد استطاع بفعل الثقافة، أن يُمسك بالوعي وينتشل نفسه من بئر الحرمان الفكري على الأقلّ، وأنّ يقرأ واقعنا آنذاك، وأن يتنبّأ باستمرار تشوّهنا. فتمثّلْتُه نتيجة كل ذلك قد آل في تلك الأيّام، إلى حالة من الجنونّ العاقل!

تعيش النصوص وتُثبت إنسانيتها وأدبيتها، بقدر افتقادنا لها وحاجتنا للرجوع إليها وإعادة قراءتها والاستفادة من طروحها. وهكذا عبر التاريخ، أصبح الكثير منها، نصوصا حيّة خالدة لا تموت بالتقادم.

رواية “المشوّهون” (1963)، ومسرحية “بيت الجنون”، (1964)، عملان أدبيّان للكاتب الفلسطيني توفيق فياض. لسبب ما، شعرت أنّ ترتيب كتابتهما أو إصدارهما لم يكن منطقيّا. فالمنطق يقول إنّ الكتابة عن النكبة كان يجب أن تسبق الكتابة عن تجربته الشخصية إبّان دراسته الثانوية، خاصة وأنّ هذه التجربة هي الأخرى متأثّرة بشكل واضح بالأجواء التي سادت المجتمع الفلسطيني آنذاك؛ إلى أن فهمت أنّ كتابة “بيت الجنون”، لم تكن ردّ فعل على النكبة بقدر ما جاءت ردّا غاضبا على حملة النقد العنيفة التي نَكَبَه بها المجتمع والنقّاد، بعد عمله الأول، “المشوّهون”، فصارت نكبته نكبتين. وقد جسّد فياض غضبه لتلك الحملة بكتابة مسرحية “بيت الجنون”. وليس عبثا أو اعتباطا اختار ليُعبّر عن غضبه، هذا النوع الأدبي، المسرح، بل لما فيه من مواجهة مباشرة، ومن مساحات شاسعة للحوار مع النفس والآخر. وكان لغضب فياض ما يُبرّره. ليس لأنّ تلك الحملة كانت قاسية وظالمة، نبذته وأقصته فقط، بل لأنّها بيّنت له صدق طرحه، وأكّدت لي وله، أنّنا كنّا وما زلنا مشوّهين كما كنّا وأكثر. وهنا لا بدّ من ذكر الشاعر سالم جبران الذي وقف عكس التيار هو الآخر، “وكان من القلائل ممن تصدّوا للهجوم فكتب في مجلة “الجديد” الحيفاوية مقالا بعنوان “صدق توفيق فياض، نحن مشوّهون!”.[1] تعذّرت عليّ قراءته المقال حتى كتابة هذه السطور، ولكنّ عنوانه يفي بغرضه.

نحن قوم لا أقول نكره الصدق والحقيقة، ولكنّنا، كنّا وما زلنا رغم اتساع ثقافتنا، لا تتوفّر لدينا المقوّمات النفسيّة والفكرية والثقافية التي تجعلنا قادرين على تحمّل مسؤولية قبول الصدق والحقيقة ومواجهتهما والتعايش معهما، لأنّ عقليتنا القَبَلية رغم كل التغيير الذي مررنا به، لم تتغيّر. ودليل ذلك أنّ الحملة على الكاتب وروايته، جاءت في غالبيّتها، دفاعا عن مسلّمات منظومة اجتماعية تُساهم في تشوّهنا الذي خرج ضدّه توفيق فياض. ومن منطلق تلك المسلّمات حتى يومنا هذا، كم من كاتب أو شاعر في مجتمعنا، قضى عمره في كنف السلطة، وبعد أن عصرته كالليمونة ورمته، كتب قصّة أو قصيدة واحدة، فصرنا نعتبره ثوريّا وتقدّميا ووطنيا، بينما أمثال توفيق فياض ننبذهم ونقصيهم، لأنّ من يواجهنا بحقيقتنا ويُبيّن عيوبنا، وجب شنقه ليكون عبرة لمن يعتبر، أو على أقلّ تقدير، نراه شاذّا وجب علينا تقويم شذوذه؟

لم يتراجع فياض في عمله الثاني عن طرحه الأول، بل ازداد به تمسّكا، إذ رأى في حملة النقد العنيف، تجسيدا لتشوّهنا وشهادة لصدق طرحه، وتأكيدا لرؤيته كيف يتعامل مثقّفونا مع الأدب والنقد وآفات مجتمعنا. لذلك غضب وزاد شعوره بالضياع وعدم الانتماء. يبدو ذلك جلّيا من قسوة الطرح ولغة العملين. في “بيت الجنون” جاءت اللغة تتميّز غضبا، بعدما كانت في “المشوّهون” تتميّز قُبْحا، كانعكاس لحالة البطل النفسية الثائرة على حالة التشوّه. هذه النقلة في اللغة، تعني أنّ الكاتب كان على وعي تامّ بما كتبه. التشاؤم والسوداوية اللذان اكتنفا “المشوّهون”، لم يكونا ضربا من العبث، بل دفعته إليهما، حالة التشوّه. وهي ما جعلته وبطله، يلتفتان إلى عبثية الحياة.

السؤال الذي أخذ يُلح عليّ مؤخّرا: هل ما زلنا مشوّهين فعلا، وأكثر ممّا كنّا عليه آنذاك؟! وهو سؤال يحتاج إلى إجابة واعية، بعدما أجبت عنه تلقائيا،في حديث لي مع فياض الذي يقتله المنفى في تونس، حول أوضاعنا الثقافية والعامة، إذ قال لي: “ما زلنا مشوّهين يا محمد!”، وكان ردّي تلقائيا: “أكثر ممّا كنّا عليه أيام كتبتَ روايتك”. لست متشائما بطبعي، ولكنّه الواقع، الكائن والذي كان، يرمي بك مرغما، في هذه الدائرة من الظلام والسواد، ويُحتّم عليك اللجوء إلى الاستكانة ومرارة الخضوع، أو إلى المواجهة وضرورة قسوتها أحيانا.

ردُّ فياض أوقعني في حيرة من أمري. فهو لم يعترض على ما قلت، بل وافقني الرأي مؤكّدا صدقه. وحين قال لي في رسالة أخرى: “اشتقت لسياط قلمك”! شعرت كأنّه يقول: “أكتب، لقد اعتدت على القسوة، ورغم ما أعهده فيك من قسوة النقد، لن يكون قلمك أقسى عليّ ممن سبقوك”. هذه الرسالة، دفعتني للبحث عن أعماله الأدبية، وخاصة عن العملين المذكورين، واللذين كنت قد قرأتهما منذ سنوات طويلة. ولحسن الحظّ، وجدتهما لدى ابنة شقيقته، صديقتي الدكتورة كوثر جابر قسّوم. أعدت قراءتهما وقرّرت الكتابة. ولكنّ قراري دفع إليّ بسؤال آخر: لماذا أختارُ اليوم، الكتابة عن عملين أدبيين صدرا قبل أكثر من نصف قرن، في ظروف أقول بتحفّظ شديد إنّها لم تعد قائمة؟ فكّرت في الأمر. ولما جمعت تحفّطي هذا إلى كل ما دار بيننا، وإلى أسئلة أخرى كثيرة طرحت نفسها، قرّرت أن أكتب لعلّي أجيب إجابة أكثر وعيا، عن السؤال المطروح أعلاه، وغيره من الأسئلة، مثل: هل شكّل العملان نبوءة باستمرار تشوّهنا؟ وهل ما كتبه فياض، صدر عن وعي أم أنّ اللاوعي الذي تغذّى من قسوة التجربة الشخصية والجمعية، هو ما أملى عليه؟ وإذا لعب اللاوعي دوره، فهل كان فياض، في العشرينيات الأولى من عمره، بهذه الحساسية الواعية التي دفعته وساعدته على التعامل بشكل واعٍ مع الواقع ومع اللاوعي؟

يُفهم من العملين المذكورين، أنّ الكاتب كان قارئا نهما، مغرما بقراءة الروايات والأساطير والتاريخ. وظنّي من هنا، وإلى جانب تجربته الشخصية، جاء وعيه المبكّر بما يدور حوله، وقد تطوّر سريعا، فجاءت ثقافته الواسعة لتُطلّ بشكل واضح من الرواية والمسرحية. وقد أكّد بعمليه المذكورين، قدرتُه على نقل تجربته وتوظيف ثقافته، بما فيها من تاريخ وأسطورة وأدب، في خدمة الأهداف التي كتب من أجلها.

توفيق فياض كاتب فلسطيني ولد في قرية المقيبلة عام 1939. تلقّى علومه الابتدائية فيها ثم انتقل للدراسة الثانوية في الناصرة. أصدر روايته الأولى، “المشوّهون” عام 1963، أي حين كان في الرابعة والعشرين من عمره. وقد أسرّ لي أنّه بدأ بكتابتها وهو في الحادية والعشرين. وفي العام التالي، 1964، أصدر مسرحيته، “بيت الجنون”. بعد ذلك سُجن عام 1969 بتهمة أمنيّة، وأطلق سراحه عام 1974 في صفقة تبادل أسرى بين مصر وإسرئيل، لم يكن راضيا عنها لأنّها قذفت به إلى المنفى، ولم يلتفت أحد إلى مطلبه، البقاء في الوطن.  

اليوم، بعد مرور ما يزيد عن نصف قرن، أرى حاجة للكتابة، ليس إنصافا للرجل فقط، وهو يستحقّه، بل لأنّ قراءة العملين، تظهر كأنّها قراءة واعية لواقعنا الراهن، بما فيه من استمرار تشوّهنا، وما فيه من تعاظم حاجتنا إلى إعادة النظر في أحوالنا الاجتماعية والسياسية والثقافية. فهل كانت “المشوّهون” وما تطرحه من عناصر تشوّهنا بعد النكبة، هي الدافع لكتابة “بيت الجنون”، لأنّ تشوّهنا كان سببا من أسباب النكبة، واستمراره نتيجة من نتائجها، ولأنّ الذين فرضوها علينا، هم الذين يتحكّمون بمصيرنا منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا؟ وهل أدرك فياض الشابّ، ابن الحادية والعشرين، أنّ التشوّه الذي عاشه مجتمعنا الفلسطيني آنذاك، هو ما قذف بنا إلى تلك الحالة من الجنون، وأنّ روايته ومسرحيته، تنطويان على نبوءة قاسية ومتشائمة، صار من نافل القول أن نقول إنّها تحقّقت. فقد تحقّقت وتفاقمت، وما زالت مستمرّة في تفاقمها. وآل بنا تشوّه مجتمعنا واستمراره، إلى حالة مستمرّة من الجنون، لا تلوح لها في الأفق القريب نهاية، رغم كل تفاؤلنا؟ فقد آثرنا تخلّفنا والبقاء عليه، فنبَذْنا فياض الذي نظر بعين عقله، وتصرّف بجرأة، وكشف حقيقتنا. ألم يكن في هزيمة حزيران 1967، التي أتت بعد العملين بسنوات قليلة، تأكيد آخر لطرح فياض، ولكن على نطاق أوسع، على مستوى الأمّة كلّها؟

لست هنا بصدد تقييم العملين من الناحية الفنيّة، بقدر ما أكتب لأجيب عن الأسئلة المطروحة أعلاه. ولكن لا بدّ من وقفة سريعة هنا وهناك، مع فنّية الرواية، بقدر ما تخدم موضوع المقال.

من الناحية الفنيّة، وبمفاهيم كتابة الرواية والمسرحية في ستّينات القرن الماضي، لا شكّ أنّ العملين شكّلا قفزة نوعية، شكلا ومضمونا. وأعتقد أنّ الناقد محمود غنايم لم يجانب الحقيقة، بل أنصف الكاتب وروايته، حين اعتبرها “علامة بارزة في تاريخ الرواية الفلسطينية”.[2] وقد سبق لغسان كنفاني أن استعمل هذا التوصيف،[3] حين اعتبر مسرحية “بيت الجنون”، علامة بارزة في أدب المقاومة في فلسطين المحتلة، فهي شكلا ومضمونا، أكثر من صرخة شجاعة، إنّها تفسير وموقف ونبوءة”.[4] كما أنّها شكّلت سبقا أدبيا في مجال المونودراما، فلسطينيا على الأقلّ، إن لم يكن عربيا.

في مقاله، يُفكّك غنايم عناصر التشوّه التي استخلصها من “المشوّهون”، والتي دفعت بالكاتب وبطل روايته، وبالتالي بمجتمعنا كلّه، إلى تلك الحالة. تلك العناصر هي: الفقر، الجنس والجوع الجنسي، سجن العادات والتقاليد في القرية، زيف الحياة في المدينة، ومفاهيم القرية والمدينة والصراع بينهما. وأنا أضيفُ إليها، كما سأبيّن لاحقا، هيمنة سياسة السلطة الغاصبة إبّان الحكم العسكري، والتي كانت وما زالت تكرّس قهرنا وخضوعنا، وترسّخ فينا جهلنا وكل ما يضمن بقاءنا على تلك الحالة. وأضيف كذلك دور الثقافة والمثقّفين في مجتمعنا، ممثّلين بالجمهور الذي واجهه فياض في مسرحيته “بيت الجنون”. عن هذه العناصر واعتمالها في المجتمع، نتج الضياع وانعدام الشعور بالانتماء لدى الكاتب وبطل روايته. وهما يُمثّلان معظم الشباب الذين عاشوا التجربة تلك الفترة، والمجتمع المشوّه والمهزوم الذي ينتمون إليه. ذلك بالإضافة إلى حملة النقد العنيفة التي واجهها فياض، ربما ليس كعنصر من عناصر التشوّه، وإنّما تجسيد له.

أدرك فياض تلك العناصر كلّها، ومدى التشوّه الذي أصاب مجتمعنا بسببها. وإذا كانت عناصر التشوّه قد ترسّبت في لاوعيه في طفولته وصباه، فقد تمكّن في شبابه المبكّر، وبشكل واعٍ جدّا، من الحفر في طبقات نفسه، ونقل محتوى لاوعيه وتحويله إلى تجربة روائية مميّزة، لم يخجل فيها من الاعتراف بأنّه هو نفسه مشوّه، وأنّ تشوّهه جاء انعكاسا لتشوّه المجتمع.

تتحدّث الرواية عن تدمير الشخصية الفلسطينية بعد النكبة، وهدم كلّ أشكال دعمها. وتشكّل صرخة في وجه المجتمع العربي الذي خنع لهذا التدمير، بل وساهم فيه أيضا. فشخصيات الرواية مشوّهة تُعبّر عن التشوّه الشخصي كنتيجة لتشوّه المجتمع. وتُحمّل الروايةُ مسؤولية التشوّه للمجتمع كلّه. يقول سعيد، بطل الراواية: “وحقيقة حياتنا، إنّها مشوّهة. كلّنا مشوّهون … كلّنا مسؤول عن هذا التشوّه ” (ص 73). كان ذلك صحيحا زمن كتابة الرواية. ولكنّ ما يشغل هذا المقال هو: هل شكّلت هذه الرواية نبوءة باستمرار التشوّه واستمرار سياسة التدمير ومعاناة مجتمعنا؟ الإجابة عن هذا السؤال تكمن من جهة في وجود عناصر التشوّه أو عدمه، ومن جهة أخرى، بمدى خضوع المجتمع وتلك العناصر، لسياسة السلطة في إسرائيل، المستفيد الأول من استمرار تشوّهنا وشعورنا بالعجز وعدم الانتماء.

تتنبأ الرواية، وهذا ما يُعرف بأسلوب الاستشراف، بأنّ تشوّهنا سيستمرّ، “ليس غير الرغام يُحيط بنا. إنّني لفي شكّ من أنّنا سنخرج يوما من هذا الرغام؟!” (ص 76). الاستشراف وما فيه من نبوءة، واضح في هذه العبارة، وشكّ الكاتب بقدرتنا على الخروج من الرغام، يأتي رمزا لاستمرار حالة التشوّه ودوام عناصره. ولذلك ما زال السؤال حيّا يفرض نفسه: كيف سنخرج وكل شيء في حياتنا مشوّه يُؤكّد عجزنا أمام عناصر الرغام ومسبّباته: سياسة السلطة ودوام جهلنا وتخلّفنا؟

ولكن، قبل استعراض العناصر التي استخلصها غنايم، وتأكيد استمرارها، لا بدّ من وقفة مع الإشارات التي تُحيل إلى وعي الكاتب بالأوضاع السياسية، وأنّ اهتمام الرواية بها جاء تلميحا. ولا أوافق الناقد قفيشة، قوله عن شخوص الرواية: “لا نلمس لديهم العناية والمشاركة في قضايا أمّتهم لا من قريب ولا من بعيد”.[5] فإهمال السياسة وعدم الاحتفاء بها جاء مقصودا، احتجاجا على الأطر السياسية الداخلية العاملة في المجتمع، ومن بينها الأحزاب اليسارية، وعجزها عن القيام بالدور القيادي والتثقيفي والتنويري المتوخّى منها للوقوف بوجه استمرار التشوّه، تاركة المسرح لجهلنا وسياسة السلطة كإطار خارجي يُكرّس السجن الذي وضعنا أنفسنا فيه. بالطبع لا أوافق فياض على التعميم في موقفه من الأحزاب اليسارية، وخاصة الحزب الشيوعي الذي رغم كل الأوضاع السيّئة آنذاك، دافع رفاقه العرب وبعض اليهود، بما استطاعوا من قوّة، عن بقاء أقليتنا المهمّشة في الوطن، وعن تراثنا ولغتنا وثقافتنا وقد كانوا في مهبّ الريح. عرف فياض تجربة السجن لاحقا، ولكن سبقه إليها الشيوعيون وغيرهم من الوطنيين، عاقبتهم السلطة بالسجن والتعذيب وفقدان مكان العمل والإهانة وغير ذلك.

لا يُعقل أن يكون فياض بهذا الوعي، ويهمل السياسة إهمالا تامّا. فقد لامس في روايته كلّ عناصر المسكوت عنه: الدين والجنس والسياسة. ذكر غسان كنفاني في حديثه عن مسرحية “بيت الجنون”، أنّ أدب المقاومة في فلسطين المحتلة قد ربط ربطا محكما بين المسألة الاجتماعية والمسألة السياسية، واعتبرهما طرفين من صيغة لا بدّ من تلاحمهما، لتقوم بمهمة المقاومة”.[6] وإذا كانت كتابة هذه المسرحية، جاءت ردّا غاضبا على النقّاد، فذلك لأنّ فياض وجد في نقدهم له، جهلا بعمق قضية الربط بين المسألتين في الواقع وفي “المشوّهون”، وجهلا بعقم الحالة الاجتماعية التي مثّلها عقم الجنس الذي لم يحلّ مشكلة سعيد، بدليل احتقاره لنفسه بعد كل ممارسة. وهذا يرتبط ارتباطا وثيقا بعقم الحالة الاجتماعية، وعقم الحالة السياسية التي أثارت يأسه واشمئزازه منهما.

سعيد، بطل الرواية، هو تجسيد مبكّر لمفهوم “اللابطل” (Antihero) في الرواية العربية، لأنّ الفشل كان حليف أهدافه المعلنة وغير المعلنة، من بداية الرواية حتى نهايتها. وشخصيته تُجسّد ما كان عليه مجتمعنا آنذاك. يقول سعيد: “قلت وأنا آخذ جريدة وضعها زياد على الخوان” (ص 63). وجود الجريدة يعني وجود السياسة، ووضع زياد للجريدة على الطاولة دون الإشارة لشيء فيها، يعني أنّ محتواها تافه لا يستحقّ الذكر، لأنّها لا تُلامس القضايا المحرقة التي تقلقه. وأخْذُ سعيد للجريدة وإشارته إلى “ما يكتبه هذا الطالب المجهول من صفّنا في هذه الجريدة؟”، وتعقيب زياد عليه: “معظم الطلاب ينجرفون في التيّارات اليسارية” (ص 64)، فيه سخرية من الحالة السياسية، تشي بأنّها لا تستحقّ الاهتمام، أو أنّها نذير شؤم. ودليل ذلك أنّ زياد “مزّق الصحيفة. بصق باشمئزاز. قال بصوت خافت: الأموات يحكمون الأحياء. ابتسامة نصر ستعلق على شفتي هتلر … سيتحوّل العالم بأسره إلى هيروشيما ثانية” (ص 71).

من هم الأموات الحاكمون والأحياء المحكومون؟ قد يكون الأموات هم أجدادنا الذين وضعوا العادات والتقاليد قديما، وما زال الأحياء خاضعين لها يُحكَمون بها. أو قد يكون الأموات هم الذين زرعوا بذور الحرب عبر التاريخ ولا زال الأحياء محكومين بأكل ثمارها. وربما يقصد بالأموات، اليهود الذين ما زالت كنيتهم “أولاد الميتة” متداولة حتى يومنا هذا، والذين اغتصبوا فلسطين، وأهلها الأصليّون هم المحكومون الذين ما زالوا يرزحون تحت نير حكم الغاصبين. وفي كل الأحوال، نحن الأحياء/الأموات، الذين كانوا وما زالوا يحكمهم الأموات. وقد يكون هذا الموقف من السياسة، جاء نتيجة الكفر بها، لأنّها لا تخدم طموح شخوص الرواية ولا الحاجات الحقيقية للمجتمع؟ ولعلّ هذا هو السبب الحقيقي الذي دفع بسعيد، للأفصاح عن موقفه من الدين، “حسدت في نفسي أولئك المؤمنين بالله” (ص 49). و”كانت (نوار) تعرف عن كفري بالله” (ص 57). هذا الموقف لا يُعبّر بالضرورة عن الكفر بالله ربّ العالمين، بل هو تعبير رمزي يرفضه المجتمع، عن موقف سياسي يكفر بالسياسة الفوقية والمذدنبين لها، الذين يعملون على دوام عناصر التّشوّه وتدمير المجتمع. أدب المقاومة الفلسطيني مليء بـ “الرموز التي صار من المعروف أنّها أفضل شيء يتجه له العمل الفنّي حين يُمارَس تحت ظلّ القمع والاحتلال”.[7] وإذا كان كل ذلك لا يكفي لإثبات وجود السياسة بقوة في الرواية، فما معنى أن يقول سعيد: “تذكّرت أخي في السجن. زرته في زنزانته … أخي ليس مجرما” (ص 95). إن لم يكن أخوه مجرما، فماذا يكون غير سجين سياسي أو أمني؟ هذه العبارة تُشير إلى وجود سلطة سياسية مهينة ترسّخ جهلنا وتقمع من يُحاول تبديد ظلامنا. وإذا كان رجال السياسة في مجتمعنا، عاجزين عن القيام بدورهم، معنى ذلك أنّهم مكبّلون بسياسة المجتمع القائمة على الجهل، وسياسة السلطة القائمة على الاحتواء والسيطرة والقمع. وقمع المجتمع لأفراده، يُسهّل على السلطة مهمّتها.

ميل سعيد إلى عبثيّة الحياة جاء قسرا. فهو يُحبّها بدليل قوله: “كم لذيذ أن يكون للإنسان جارة جميلة، إنّ لابتسامتها سحرا خاصّا” (ص 14). وقوله: “جميل أن يصبح لدى الإنسان إيمان بشيء معين … لما يشعر به من الارتياح لذلك الإيمان” (ص 22). لذلك فإنّ تشاؤمه وسوداويته، نابعان من اغترابه وضياعه في مجتمع مشوّه راضخ لعناصر تشوّهه وتشويهه. وهذا ما أرهق نفوس سعيد وأصدقائه، كما جاء على لسانه كثيرا، ولكن بشكل خاص، ما جاء على لسان صديقه سامي، ابن المدينة: “سلّ أصفر يُرهق نفوسنا … مستنقع آسن كل مجتمعنا” (ص 15)، أي أنّنا مرضى مصابون بجرثومة تفتك بنا وبالمجتمع كلّه.

عناصر تشوّه الفرد والمجتمع!

الفقر:

بعد النكبة، زمن أحداث الرواية، سعيد وزملاؤه، فقراء. “أكثر من ثلاثة أرباع الذين بقوا في فلسطين بعد الاحتلال الصهيوني كانوا من سكان القرى”.[8] وسكان القرى فقراء. وقد أثّر الفقر في نفس سعيد وساهم في تآكلها وتشوّهها، كان يُقتّر على نفسه ليُوفّر أجر الغرفة (ص 8)، ويمرض ولا يذهب للطبيب بسبب خواء جيوبه (ص 40)، ولا يجد ثمنا لتذكرة دار العرض ولا ثمنا لكأس خمرة في حانة، وغير ذلك. وليس عبثا يقول في مونولوج داخلي، بينه وبين نفسه: “كل شيء هنا يزيد من تشويه نفسي” (ص 26)، أيّ في المدينة المشوّهة التي أتيت إليها أحمل فقري وأسباب تشوّهي الأخرى. ولكنّه فقره لم يُفقد إنسايته، فهو يشعر مع والديه وإخوته الذين يجوعون ويعرون دعما لتعليمه. وذلك بسبب تشوّهه وضياعه وظنّه أنّه لن يُحقّق رجاء والده. يبدو ذلك واضحا في استمرار المونولوج: “لن أصبح أنسانا يا والدي” (ص 26)، ولذلك يستكثر على نفسه ما يفعلونه من أجله، ولا يرى أنّه يستحقّ تلك التضحية منهم.

الجنس والجوع الجنسي:

ينشأ الفرد في القرية، في مجتمع تحكمه العادات والتقاليد، تُخضعه وتكرّس حرمانه، وخاصة في علاقة الرجل بالمرأة، ما يُؤدّي بالتالي، إلى انفصام في شخصيته وتناقض في سلوكه. في القرية نشأ الكاتب وبطله، “خجلت من نفسي. في القرية يحظر والدي على أخواتي الصغيرات، اللعب مع أبناء الجيران. أساعده في ذلك. يجزرني عند تودّدي لبنات القرية. أغضب حين يفعل ذلك. لا أجرؤ على معارضته. ضربت إحداهن مرّة. لم تبكِ. احتقرتني” (ص 79). التناقض والاحتقار، جعلا سعيد يحتقر نفسه. التربية والعادات تُرغم الفرد على تذويتها والخضوع لها، “فالمجتمع هو الذي يكوّن الفرد ويجعله على صورته، وليس الفرد هو الذي يكوّن المجتمع برغباته وأهوائه وأفكاره المجرّدة”.[9] والمجتمع يكبت مشاعر الفرد، وبشكل خاص رغباته الجسدية، “والكبت الجنسي يُؤدّي – بسبب ربط الجنس بالأخلاق والدين – إلى شلل نفسي يقتل القدرة على التمرّد والثورة على الاضطهاد الاجتماعي والاضطهاد الجنسي على حدّ سواء”.[10] ولذلك أيضا، نرى الفرد يُجيز لنفسه تلبية رغباته ويُحرّمها على غيره. ويحتقر نفسه، خاصة بعد الممارسة الجنسية، لشعوره أنّه أتى منكرا أو اقترف ذنبا. الشعور بالاحتقار لازم سعيد بعد كل ممارسة مع جارته ناديا وحبيبته نوار. هذا الاحتقار، هو ما يجعل القارئ يشعر أنّ الجنس فيها لم يكن لذاته، أو تحقيقا لرغبة جسدية فقط، بقدر ما هو تعبير عن احتقار سعيد للمجتمع المشوّه الذي يُهمّش المرأة ويحتقرها، ويُحرّم الجنس والعلاقة معها عامة، ويترك الفرد يعيش تناقضا ظهر واضحا في تصرّف سعيد كما ورد أعلاه. التناقض بين العادات والتقاليد من جهة، وبين رغباته من جهة أخرى، ساهم في تشوّيهه وانفصام شخصيته. فهو لا يستطيع أن يجمع بين الأمرين، لا يستطيع أن يُشبع رغبته الجنسية إلّا أذا أدار ظهره للعادات والتقاليد.

سجن العادات والتقاليد في القرية:

مساعدة سعيد لأبيه في جزر أخواته، تُؤكّد أيضا أنّ الفرد في القرية، يعيش سجين العادات والتقاليد، ويظنّ أنّ خروجه من القرية هو ما سوف يُحرّره من سجنها. هكذا فكّر بعض المثقّفين في مجتمعنا، أنّ “التقدّم الاجتماعي، أو الإيجابية الاجتماعية، هو بخروج ابن القرية إلى المدينة وتبنّي ظواهرها، وتبديل القمباز والجلباب بالبذلة ولعب ابن القرية الورق في المقهى البلدي، وخروج ابن الناصرة مع صديقته لزيارة السينما، وإذا مُنع عن ذلك فهناك تكمن الرجعية”.[11] ولكنّ ذلك كان محض هراء، سوف يُدركه سعيد أثناء حياته في المدينة التي كبّلته بزيفها وجعلته يحتقرها أكثر من احتقاره للقرية ومفاهيمها. وقد بدا ذلك واضحا في تعاظم شعوره بالضياع وعدم الانتماء أثناء حياته في المدينة. وفي “مدى رغبته في العودة إلى القرية، حيث لا رياء ولا خداع خلف المحراث” (ص 25)، رغم رفضه للعادات والتقاليد وخضوعه لها، المتمثّل بخضوعه لوالده. يبدو التناقض واضحا في تصرّف سعيد، مساعدته لوالده وتودّده إلى بنات القرية (ص 79). وعليه فقد أصبح كغيره من أفراد المجتمع، يعيش بشخصيتين متناقضتين، يتقمّص الواحدة منها حسب الظروف. في القرية يتمسّك قسرا بالعادات، ويتحرّر منها في المدينة.

زيف الحياة في المدينة:

 لا أعتقد أنّ فياض قصد الإساءة لمدينة الناصرة ونسائها، بل قصد نقد المجتمع العربي ونساءه كجزء لا يتجزّأ منه. ولكنّ التصريح بالمكان، جاء تعبيرا عن حاجتنا إلى الجرأة في نقد مجتمعنا. وكانت الناصرة مسرح التجربة، تَعَرّف فيها فياض وبطله، على مجتمع المدينة. والدليل هو أنّ الكاتب يحترم الناصرة ويراها العاصمة الثقافية والسياسية، كما صرّح بذلك في لقاء معه، ردّا على سؤال حول رواية “المشوّهون”: “خصصت بها أحداثا جرت في مدينة الناصرة التي تُعدّ العاصمة الثقافية والسياسية للأراضي الفلسطينية وسكّانها الذين بقوا تحت نير الاحتلال. الرواية تناولت سلبيات المجتمع العربي داخل فلسطين”.[12] لم يقل سلبيات الناصرة. لذلك فاتّهامه بالإساءة للناصرة ونسائها باطل. وجرأته في كشف المكان كما أسلفت، جاءت تعبيرا عن حاجة مجتمعنا للجرأة في مواجهة آفاته وأمراضه الاجتماعية وغير الاجتماعية. وقد قال ذلك بشكل مباشر وبصيغة جمع المتكلم (نحن)، التي تعني المجتمع كلّه: “إذا كان الظلام قد فُرض علينا، فلماذا لا نضيء طريقنا؟ … إنّنا جبناء!!” (ص 120). وكان قد ذكر العبارة نفسها لأهميّتها، كعبارة ميتاقصيّة قبل الدخول في النص (ص 5)، ليستفزّ بها القارئ باعتباره شريكا يتوجّب عليه أن يفهم أنّ الذي يفرض علينا الظلام، هو جهلنا وخضوعنا له ولعاداتنا، قبل السلطة السياسية التي تُرسّخه فينا، وتعاقبنا إذا لم نذعن لها. بدليل إشارته: “أخي (السجين) ليس مجرما” (ص 95).

ما رآه سعيد في المدينة مزيّف وخانق، سبّب له صدمة. حتى بعض أبناء المدينة أنفسهم لا يحتملونه. وقد وجده سعيد بعيدا كل البعد عن أصالة القرية التي يتوق للعودة إليها، ويعشقها كذلك بعض أبناء المدينة، لأصالتها رغم ما فيها من أمراض. سامي، ابن المدينة يقول: “أود لو كنت قرويا. جوّ المدينة يخنقني” (ص 9).

أهل المدينة علاقاتهم نفعيّة، سطحية وشكلية، تُعبّر عن مصلحة لا عن جوهر. لذلك رأى سعيد، أنّ كثرة المساجد والكنائس، لا تُعبّر عن عمق الإيمان. وانعدام المواخير لا يُعبّر عن التمسّك بالقيم والأخلاق، فحقيقة التشوّه الصادمة تكمن في البيوت، وأعمق من ذلك في النفوس؛ “لعنت المدينة بصوت مرتفع. لا يوجد فيها ماخور واحد؟ كنائس ومساجد … وثم كنائس … يصعب على الطلاب العثور على زانية في هذه المدينة. مواخيرهن في بيوتهن” (ص 50).

ملامح البؤس ومظاهر الزيف والرياء في المدينة، قد تراها في كلّ زاوية وفي كلّ شيء. وسعيد الذي يهرب من سجن العادات والتقاليد في القرية، يقع في سجن يفوقه ظلما وظلاما، سجن الزيف والرياء في المدينة. يقول: “أخذ الخريف يُلملم أشياءه. تاركا خلفه خطوط البؤس وملامح الكآبة على كل شيء في المدينة … تتراءى بيوتها وكأنّها أدران عارية … صوت أجراس الكنائس، أصوات الباعة المختلفة في السوق، تحيّات المارّة لبعضهم في الصباح، زرافات الناس في الآحاد، بملابسهم الأنيقة، ليالي الأعراس الساهرة بكل ما فيها من عزف ومرح ورائحة خمر، ومرح الطلاب في الصباح، كذبة كبيرة كلّها … رياء متكلّف” (ص 24).

مفاهيم القرية والمدينة والصراع بينهما:

حين كان الفقر وسجن العادات والتقاليد يتحكّمان بالقرية، كان الزيف والرياء هما سجن المدينة. ولكن، كانت الحياة في القرية، وكذلك العلاقات فيها، رغم كثرة قيودها الاجتماعية، تتمتّع بأصالة تفتقدها المدينة وعلاقاتها التي تقوم على المصالح المادية، والمظاهر البرّاقة، ما أدّى إلى انتشار الزيف والرياء في تلك العلاقات.

في القرية كانت الفتاة محرومة من التعليم، بينما كان أفراد العائلة، وهي كثيرة العدد عادة، يُقتّرون على أنفسهم في المأكل والملبس، ويُضحّون من أجل تعليم ذكر من ذكورها. أمّا في المدينة فقد كان يُسمح للفتاة بالذهاب إلى المدرسة، ليس إيمانا بحقّها في التعليم كإنسانة، وإنّما كمظهر من مظاهر التّميّز الشكلي والرقيّ المزيّف. دليل ذلك أنّ عائلة نوار، أوقفتها عن الدراسة، بعد انكشاف علاقتها بسعيد. “والدها ادّعى أمام الناظر أنّها مريضة … (بينما الحقيقة أنّه) اطّلع على حبها (لسعيد)، فحرّم عليها ارتياد المدرسة” (ص 118). الادّعاء بأنّها مريضة، كذب يُؤكّد أنّ حرمانها لم يكن حرصا عليها وعلى شرفها كإنسانة، بل حرصا على “شرف العائلة” المزعوم المتمثّل بمكانتها  الاجتماعية/الاقتصادية بين سكان المدينة، والتي قد تتزعزع بسبب الفضيحة. “فالعيب الذي يشعر به الفرد العربي هو “ما يقوله الناس عنه”، بمعنى أن لا عيب في ما لا يراه الناس ولا يسمعونه”.[13]

حتى السلوك القبيح في القرية، لا يصل بقبحه إلى مستوى السلوك القبيح في المدينة. قال سعيد “وقفت لأبول في زاوية مظلمة من الزقاق. كدت أفقد وعيي. أحسست بأصابع رجل متوحشة تُغرس في عنقي، انفصل عن امرأة. سمعت شهقتها الفزعة” (ص 76). لا شكّ أنّ في الفعلين قبحا مرفوضا، ولكنّ القروي يتبوّل في الزوايا المظلمة، لأنّه لا يملك مرحاضا، بينما المدني الذي يملك مرحاضا في بيته، يُمارس الجنس في الشارع، فأيّهما أشدّ قبحا؟ كما أنّ التبوّل في هذه الظروف وغيرها، قد يكون فعلا اضطراريا، بينما استراق الجنس في الشارع، فعل اختياري. كان سعيد يُدرك أنّ مجتمع القرية قبيح ومشوّه، ولكنّ مجتمع المدينة صدمه، إذ وجده على غير ما توقّع، أشدّ قبحا وتشوّها.

“المشوّهون” والمرأة!

في روايات المنفى، يلجأ الكاتب وبطله إلى المرأة كملاذ وخلاص، يستعين بها كرفيقة درب أو شريكة تُعينه على جحيم شعوره بالوحدة والاغتراب. وسعيد، الطالب القروي، بسبب الفارق الكبير بين حياة القرية وحياة المدينة وصدمته فيها، وجد نفسه غريبا منفيّا في المدينة، ككلّ القرويين الوافدين إليها طلبا للعلم أو العمل. ساهمت المدينة في تعميق شعورة بالمنفى والاغتراب عن ذاته. يظهر منفاه فيها واغترابه عن الذات والمكان، جلّيا في قوله لصديقه، زياد، القروي: “أرغب برؤيتك فقط. وخصوصا في تلك الحانة المشؤومة. ربما لأنّك تُشاركني منفى شبابي أكثر من أي إنسان آخر (ص 47)، وفي تساؤله: “لماذا موجود أنا هنا؟ في هذه المدينة أعيش وحدي” (ص 25)، وفي حنينه للقرية (ص 25). شعور سعيد باغترابه في المنفى، جعله يبحث عمّا يُخلّصه من معاناته، فجاء دور المرأة كرمز للملاذ والخلاص. بحث سعيد عن ناديا ونوار، وكان لا بدّ من أن يجدهما. ولكن رغم ملاذه بهما، يُصرّح: “ليست نوار وحبّها، أو ناديا وشبقي إليها، كل ما يصنع حولي هذا القلق … وهذا الضيق بكل شيء من أشياء حياتي وأشياء الآخرين. ثمّة أشياء غامضة لا أفهمها، تنبع من مستنقع ذلك المجهول من العدم الذي يلفّنا، وتدفعنا في زحمة هبائه … فتتجسّم كلّها في شخص نوار، أو غير نوار لتكون رمزا لها، إذ لا بدّ لنا من وجودها في حياتنا. وإن لم توجد، فلا بدّ لنا من خلق هذه النوار، لتكون الصنم لها” (ص 49)، هذا التصريح، يُؤكّد أنّ الكاتب لم يلجأ إلى الجنس لذاته، وأنّ الجنس وشبقه الجنسي بالمرأة، ليس هو ما يُقلق الكاتب وبطله. هناك أشياء أخرى غامضة ومجهولة، تُشير إلى عناصر تشوّه المجتمع التي تجعل حياته فيه هباء، فتنمو حاجته إلى المرأة التي يُضطر لخلقها. كل رجل يشعر بحاجته للمرأة، ولكن ليس بالضرورة لتحقيق رغبته الجسدية فقط، فالرجل الحقّ، يحتاج المرأة كرفيقة درب وشريك، تُساعده على احتمال همومه الفردية والجمعية.

في رواية “المشوّهون، كان الكاتب وبطله قاسيين على المرأة. أكثر من مرّة نعتها سعيد بالغباء، بالإضافة إلى ما قاله عنها وعن مواخير المدينة. ولكن قسوة الكاتب وبطله عليها، لم تنبع من احتقارهما لها، بل انعكاسا لتشوّه مجتمعنا واحتقارا له، لأنّ المجتمع هو الذي يحتقر المرأة ويُهمّشها، ويُعاملها كأداة أو سلعة أو قطعة للزّينة.

“بيت الجنون”، هل أكّدت نبوءة فياض أم دحضتها؟

يقول غسان كنفاني: “المفروض أنّ سامي (بطل المسرحية)، يقف على خشبة مسرح منصوبة في فلسطين المحتلة ذاتها، وبالتالي فإنّ الجمهور الذي يتجه سامي بالكلام إليه في بعض مقاطع المسرحية هو بطل آخر في الأحداث، ليس سوى المستوطنين اليهود”.[14] ويقول أيضا: “تُشكّل المسرحية حلقة في الحوار الثقافي والسياسي القائم بين المثقّفين العرب في الأرض المحتلة ذاتها”.[15] هذا فهم صحيح للمسرحية، خاصة وأنّ كنفاني لم يقرأ رواية “المشوّهون”، لأنّ “الحصول عليها كان متعذرا”.[16]

المسرحيّة عامّة، تنهض على الحوار بين طرفين متضادّين، الأنا المتكلمة والآخر، وقد يكون الأخر، هو “الأنا” ذاتها. وفي “بيت الجنون”، قراءتان مختلفتان لطرفي الحوار. في الأولى، البطل “سامي” الذي يُمثّل الإنسان الفلسطيني المغتصَب، مقابل الجمهور الذي يُمثّل المستوطنين اليهود، الغاصبين الذين دخلوا بيته عنوة. أمّا الثانية، فالبطل الذي يحمل صوت الكاتب، مقابل الجمهور كممثِّل للمثقّفين الذين أغضبوه بنقدهم العنيف لروايته. أي أنّ الكاتب ضرب عصفورين بحجر. فالمسرحية تدور أحداثها بُعيد النكبة وفي أجوائها. وقد كُتبت باعتراف فياض نفسه، ردّا غاضبا على المثقّفين العرب الذين هاجموه وروايته.[17] وعدم فهم المثقّفين للرواية وعمق ما رمى إليه فياض فيها، ونقدهم لها نقدا سطحيا متسرّعا وظالما، أدّى إلى أن يُصبح أولئك المثقّفون تجسيدا لعناصر تشويه المجتمع. وقد خدموا بذلك، السياسة الداخلية والخارجية التي تعمل على تشويه المجتمع وترسيخ جهله ودوام تخلّفه.

ويُضيف كنفاني وبحقّ، أنّ المسرحية: “حملت النبوءة بالثورة”.[18] ففي عام صدورها، (1964)، حدثت نقلة نوعية في مسار الشعب الفلسطيني الذي عاش مرحلة من اليأس بعدما شرّدته النكبة. فقد بدأ ثورته الحقيقية بظهور منظمة التحرير ومباشرة دورها  في قيادة كفاحه المسلّح. والمسرحية تدعو للصمود والوقوف من جديد، وتدعو للثورة على النكبة ومواجهة كل أسبابها ومسبّباتها ونتائجها. ولكن، بالمقابل لظهور منظمة التحرير وبداية الثورة، وإلى جانب عناصر تشوّهنا الداخلية، بدأت تظهر وتتحكّم بنا عناصر تشويهنا الخارجية التي كانت تعمل في الخفاء. وقد استعانت بعناصر تشوّهنا الداخلية واستغلّتها بشكل ممنهج.

وها نحن بعد كل ما مررنا به من أحداث، وآلت حالنا إلى ما هي عليه الآن، نشهد على المستويين: العربي والفلسطيني، انكشاف الإخوة الاعداء، ونقف على حافة “صفقة القرن”، التي ربما تكون الصفعة الأخيرة. صحيح أنّنا لم نفقد العزم على مواجهتها ومقاومتها، ونصرخ “على أجسادنا”، ولكنّنا لا ندري كم سنصمد، لأنّنا لا نملك القدرة، لا العسكرية ولا السياسية، لمواجهتها. وتظلّ الحقيقة المؤلمة إلى يومنا هذا، أنّنا مشوّهون، نعيش اليوم في حضيض سياسي واجتماعي وثقافي يفوق عمقا وتعقيدا، الحضيض الذي بلغناه بعد النكبة.

على المستوى المحلّي، كل شيء في حياتنا استهلاكي، حتى الأخلاق والثقاقة. نقف عاجزين أمام إغراءات عالم الاستهلاك، مشتّتين بفكرنا وأجسادنا. نحتاج إلى من يجمع أشلاءنا، وأن يكون من لحما ودمنا. وقد أشار كنفاني لذلك في روايته، “ما تبقّى لكم” (1966)، إذ جعل “حامد”، بطل الرواية المشرّد من يافا، ينطلق في ظروف صعبة، بين غزّة والضفة الغربية، كإشارة إلى بداية معركة التحرير مع العدو الصهيوني، لإعادة اللحمة بين أشلاء الوطن الممزّق. أمّا فياض فقد أشار إلى جمع أشلاء المجتمع والوطن، في اقتباسه الموفّق لأسطورة “أوزيريس”، في بداية المسرحية، “انهض، انهض يا أوزيريس … أنا ولدك حوريس … جئت أعيد إليك الحياة، وأصل أعضاءك، أنا حوريس الذي تكون أباه، حوريس يُعطيك عيونا لترى، وآذانا لتسمع، وأقداما لتسير، وسواعد لتعمل، ها هي أعضاؤك صحيحة، وجسدك ينمو، ودماؤك تدبّ في عروقك، إنّ لك دائما قلبك الحقيقي، قلبك الماضي، فانهض، انهض يا أوزيريس” (ص 10).

ما كان عليه فياض من وعي، يُثير الدهشة فعلا. يتجلّى وعيه في إدراك أوضاعنا، وفي اختياره لهذا المقطع الذي يتضمّن بشكل رهيب، توصيفا دقيقا لحالتنا آنذاك، وحاجاتنا إلى من يجمع أشلاءنا ويضمن لنا النهوض. ولكن طوال هذه السنين، هل نهضنا؟ نعم نهضنا، ولكن كبونا مرّة أخرى، ونهضنا وكبونا، مرّات عديدة ولأسباب لا تُحصى. قد يكون أقواها اليوم خارجيا، ولكن على رأس قائمة الأسباب الداخلية، تقف عقليتنا القَبَلية المشوّهة، وتمسّكنا بعناصر تشوّهنا، الاجتماعية والسياسية والثقاقية، التي تتغيّر شكلا وتبقى جوهرا ومضمونا. وربما لهذا أيضا، رسم فياض بطل مسرحيته مدرّسا للتاريخ يُفْصَل من عمله بتهمة تزوير التاريخ. دأب أعداؤنا على تزوير تاريخنا واتهامنا نحن بتزويره، لأنّنا أردنا لأبنائنا أن يعرفوا الحقيقة التي يرغب أعداؤنا بإخفائها. ولكنّ المؤلم أكثر هو أنّ يُساعد في التزوير، نفر من مثقّفي أبناء جلدتنا. “أخرجتموني من عملي، جردتموني من كل شيء، لكي أموت جوعا، وليسهل قهري عليكم، ولماذا؟ لأنّني أشكّل عليكم وعلى مصالحكم المقيتة خطرا! لأنّني أزيّف التاريخ كما تدّعون! لأنّي أشوّه الأدب!! أمّا أنتم فلا!؟” (ص 27). الكاتب، عبر بطله المتكلّم، يُوجّه عبارة “أزيّف التاريخ” إلى الجمهور الذي يرمز للمستوطنين اليهود، وبالتالي للسلطة الغاصبة. أمّا عبارة “لأنّني أشوّه الأدب”، فيُوجّهها للمثقّفين الذين نقدوا روايته. وأمّا عبارة “أمّا أنتم فلا”، فموجّهة لكليهما. فالسلطة الصهيونية معنية بتزوير تاريخنا؛ ومثقّفونا شوّهوا الأدب بفهمهم السطحي ونقدهم المتسرّع للرواية التي عجزوا عن سبر أغوارها.

في حينه، نفخت فينا “بيت الجنون”، روحا متفائلة بدّدت الظلام الذي كان يلفّنا، لأنّها حملت نبوءة بالثورة، إلّا أنّ غضب فياض فيها، وروحه المتشائمة كذلك، حملهما إليها مرغما. كأنّه أحسّ أنّه قبل اكتمال البناء وتحقيق حلم اللحمة، سوف تنقلب النبوءة إلى ضدِّها. أو ستعود إلى أصلها، إلى النبوءة باستمرار تشوّهنا، كما حملتها “المشوّهون”. ومن منطلق هذا الفهم، برزت الحاجة للإجابة الواعية عن السؤال المركزي لهذا المقال، انطلاقا من “المشوّهون”، مرورا بنهوضنا وكبواتنا، وصولا إلى واقعنا الراهن.

هل ما زالنا مشوّهين فعلا، وأكثر مما كنّا عليه أيام “المشوّهون”؟

لا أبالغ إذا قلت إنّ عناصر تشوّهنا التي سادت أيام كتب فياض روايته، ما زالت موجودة. تغيّرت شكلا وليس جوهرا. وهي الآن أكثر حدّة وسوءا مما كانت عليه. ودليل ذلك، بقاؤنا متمسّكين بعقليتنا القَبَلية التي ما زالت راسخة في عقولنا وأعماق نفوسنا. لقد تغيّرنا تغيّرا رهيبا، ولكنّه مجرّد تغيّر شكلي لم يترك أيّ أثر إيجابي على سلوكنا وجوهر عقليّتنا. ما زلنا “في شكّ من أنّنا سنخرج يوما من هذا الرغام؟!” (ص 76). أوضاعنا مثيرة للتشاؤم، وأكاد أقول نقف على حافة اليأس، ولكنّنا شعب لا يفقد الذاكرة والأمل، لأنّه لو فعلنا، لأكلتنا الضباع.

إذا استعرضنا أوضاعنا اليوم، سنجد أنّنا أصبحنا أكثر فقرا. لا أحد منّا يشعر مع الآخر ويرحمه، لأنّنا لا نشعر مع أنفسنا ولا نرحمها. نعيش أفرادا فرادى منفردين متفرّدين بفرديّتنا، رغم كل أشكال التواصل بيننا. وفقرنا اليوم لم يعد ماديّا فقط. من الناحية المادية، الفارق بين فقرائنا تلك الأيام وفقرائنا اليوم، أنّنا جميعا نتصرّف اليوم كأغنياء، نأكل ونلبس و”نشمّ الهواء”. كلّنا عبيد حساباتنا المصرفية المثقلة بالديون، يُرهقها السحب الزائد، لأنّنا نأكل أكثر مما ننتج. ابتسمت وأنا أقرا ما كتبه الشاعر حسين مهنا في زاوية “صباح الخير”، شعرت أنّ هناك من يُفكّر مثلي ويُؤكّد ما أقول. قال: “ولكنّ ما دفعنا إلى نبش التاريخ هو البذخ الذي نراه اليوم. كثيرون منّا يأخذون قروضا مصرفية باهظة لكي يُزوّجوا أبناءهم وبناتهم. وقد يكون هذا التصرّف اللاعقلاني بسبب الضغط الاجتماعي الذي كثيرا ما يفرض علينا ما لا نُريد”.[19] وهذا أيضا، بعض ما دفعني لنبش التاريخ، أنّ تصرفنا في معظم نواحي حياتنا، هو ردّ فعل للضغط الاجتماعي بما فيه من عناصر التشوّه التي تتحكّم بنا وقلّما ينجو منها أحد. قلّما نتحدّث في لقاءاتنا عن الثقافة والأدب، وإذا تحدّثنا فللتظاهر وليس للفائدة. ولا استثني المثقّفين. وكثيرا ما نتحدّث عن المظاهر الشكلية في الطعام والمرض والملبس والسفر. ليس بيننا من يُفكّر بدعم ماديّ لمشروع جمعي يُخلّصنا من آفاتنا، وإذا وُجِد، فالأموال تذهب هباء وليس لأهدافها الحقيقية. ودليل ذلك أنّ آفات مجتمعنا تزداد سوءا يوما عن يوم. وللتمثيل فقط: هل تعلمون كم تنفق سلطاتنا المحلية على تمويل الوظائف الزائدة التي لا تعترف بها وزارة الداخلية ولا تموّلها، لأنّها وليدة الصفقات الانتخابية التي يتحوّل فيها دعاة التغيير إلى دعاة تبذير؟ وهي لا تُنفق شيئا يُذكر على المشاريع الثقافية، وقلّما تستغلّ الأموال المخصّصة لهذه المشاريع وغيرها، فالحكومة لا تدفع إلّا إذا أنْجِزَ العمل، ونحن لا نعمل ولا نُنجز؟ هذا الوضع، يرتبط ارتباطا وثيقا بفقرنا الأكبر، فقرنا المعنوي والفكري، وبعدم تغيّر عقليّتنا القَبَلية. فما معنى أن يكون لدينا هذا الكمّ الهائل من حَمَلة الألقاب الجامعية، وما زلنا نعالج آفة العنف بلجان الصلح العشائري التي تُحدّد أسعار الجريمة ولا تُعالجها؟ ألم يكن أجدادنا، أيّام الجاهلية، يُعالجونها بالطريقة نفسها؟ ألا يُؤكّد ذلك أنّنا لم نتزحزح قيد أنملة عن تفكيرنا القَبَلي؟ جرائم إطلاق النار تكتسح شوارعنا علنا، وسقوط ضحايا العنف أصبح يوميا! آفات مجتمعنا التي تُثبت فقرنا الفكري، كثيرة، والعنف عيّنه فقط، أذكرها لأنّها محرقة، تحتاج إلى علاج فوري. فهل سيأتي؟؟ هل تعلمون أنّ ما يُنفقه جهلاء قومنا سنويّا على اقتناء السلاح يفوق المليارات؟ أزيز الرصاص في ليل قريتنا، يُسمع بكثافة من قريب ومن بعيد. قبل بضعة أشهر نشبت على فترات متقطّعة استمرّت نحو عام، حرب بالرصاص الحيّ بين فريقين من الشباب اللامسؤول في القرية، من عائلتين تجمعهما علاقات طيبة. تعدّدت الإصابات وتنوّعت. وقفت الشرطة كعادتها، موقف المتفرّج. تَدخَّل بعض العقلاء من العائلتين والقرية، وطوّقوا المشكلة وجمعوا بين الطرفين وأصلحوا بينهما. ولكنّ أزيز الرصاص ظلّ يُسمع بكثافة، وأخبار الإصابات تتوالى. وفي القرى الأخرى هناك أخبار يومية عن جرائم إطلاق النار وسقوط الضحايا. وإذا انكشف المجرم، فالصلح العشائري سيّد الأحكام، وليس القانون. رغم إدراكنا لما في القانون الإسرائيلي من إجحاف وتمييز ضدّنا، فذلك جانب آخر من مشكلتنا. ولا أقصد بالرصاص، المفرقعات التي نطلقها في أعراسنا، فتلك آفة أخرى تحتاج إلى علاج.

أمّا عن الجنس والجوع الجنسي، فرغم كل التطوّر الذي مرّ به مجتمعنا، حتى يومنا هذا لم يزد عن كونه تطوّرا شكليا. لقد خرجت ممارسة الجنس من الزوايا المظلمة في الشارع، إلى أماكن سريّة مضاءة. التربية في مسألة الجنس وتحريمه لم تتغيّر. العلاقة بين الرجل والمرأة، وإن أخذت أشكالا مختلفة تشي بالانفتاح، ما زالت محرّمة كما كانت وبما أكثر. يشهد بذلك، تصرّف الشباب من حيث المبدأ، بالطريقة ذاتها التي مرّ بها سعيد. ما زال الذكر يُجيز لنفسه ما يُحرّمه على أخته وعلى غيره من الذكور. يُؤكّد ذلك ازدياد العنف بسبب ما يُسمّى شرف العائلة، وازدياد عدد ضحاياه من النساء بشكل ملموس عمّا كان عليه أضعافا مضاعفة. كما أنّ أحداث الرواية والواقع الراهن، تُظهر أنّ مجتمعنا ما زال كما كان، عاجزا عن الاعتراف برغبات الفرد، وعاجزا عن كبت تفجّرها في الخفاء. وإذا نظرنا بعمق أكثر إلى ما يخشاه مجتمعنا من الجنس، سنجد كما أشرت سابقا، أنّه لا يخشى ممارسة الجنس لذاتها، حتى خارج إطار الزواج، بل يغضبه خروج أبنائه عن سيطرته، وتُرعبه الفضيحة التي ستجعل أفرادا منه خاضعين لسيطرته، يُطأطئون رؤوسهم بين الناس. وقد أشار فياض إلى ذلك في مساعدته لوالده في جزر أخواته. والأمر لا يختلف إلّا شكلا في المدينة، حيث قام والد نوار الذي يُمثّل التربية والمجتمع، بتوقيفها عن دراستها، بعد انكشاف علاقتها بسعيد. تمرّد نوار على قيود المجتمع وسجن عاداته، زجَّ بها في سجن البيت داخل سجن المجتمع! في أيامنا أيضا، ما زال الكثير من الفتيات يُمنعن من الدراسة الجامعية للسبب نفسه، أو بسبب الفقر أو كليهما.

سجن العادات والتقاليد في القرية، لم يتغيّر رغم مساحة الحرية التي يتمتّع بها الفرد في مجتمعنا اليوم، رجلا كان أم امراة. تبدو المساحة شاسعة، مقارنة بما كانت عليه في الماضي، ولكنّنا حين نُخضِع هذه الحرية للامتحان، نجدها شكلية، هشّة، تستند إلى المظهر، بينما جوهرها لم يتغيّر. وسبب ذلك أنّ نمط تفكيرنا لم يتغيّر. وما زلنا نعيش انفصام الشخصية كما كنّا. وبالإضافة إلى ما ذكرته حول علاقة الرجل بالمرأة، كلّنا نتحدّث يوميا عن حبّ الوطن وضرورة وحدتنا، وعن الكرامة والشرف والأخلاق والمصلحة العامّة، ولكنّها جميعا كحريّتنا، هشّة لا تصمد عند أول امتحان. ولنا في فرقتنا وخلافاتنا الاجتماعية والسياسية والثقافية وتباعد مواقفنا، وفي طريقة تعاملنا وعلاجنا للعنف ومسألة شرف العائلة وغيرها من الآفات، أمثلة جيّدة.

كانت الحياة في المدينة مزيّفة، بينما كانت القرية تتمتّع بشيء من الأصالة. أمّا الآن، فحياة القرية والمدينة أصبحت مزيّفة، يُشوّهها الرياء وتمسّكنا بالمظاهر. ألا تكفي نظرة واحدة إلى بؤس ما يدور اليوم من عنف في شوارعنا، وبؤس ما نفعله في أعراسنا، لنرى أنّ الذي تغيّر هو انهيار الحواجز بين عالم القرية والمدينة فقط. فبينما كان بعض سكان المدينة يتوقون للهرب منها والانتقال إلى القرية، نزحت القرية كلّها إلى المدينة واستمرأت زيفها ورياءها؟ أليست أعراس المدينة والقرية اليوم، بل وحياتنا كلّها، مجرد مظاهر خادعة، كذبة كبيرة، ورياء متكلّف؟ في أيامنا، سقطت مفاهيم القرية والمدينة و”اختلط الحابل بالنابل”. تقوّض الجدار الفاصل، وذابت الفوارق الجوهرية. المؤسف حقّا، أنّ القرية التي لم تتخلَّ عن عاداتها وتقاليدها، وتخلّت عن أصالتها لصالح المدينة التي طغت مفاهيمها، بزيفها وريائها، على القرية وأخلاقها وعلاقاتها.

ولذلك، ليس غريبا أنّ نظرتنا للمرأة لم تتغيّر، رغم كل ما مرّ به مجتمعنا من تغيير؟ تغيّرت مصالحنا وأشكال تشوّهنا. بَهَرَنا عالم التكنولوجيا الذي لم نحظ منه بشيء غير نقمة الاستهلاك. وسمحنا مرغمين بخروج المرأة لميادين الحياة المختلفة، ليس من منطلق حقّها كإنسانة، بل غيّرنا المفاهيم الاجتماعية شكليا من أجل المنفعة الشخصية، سياسيا واقتصاديا في الغالب. ودليل ذلك أنّ مجتمعنا ما زال بتفكيره وسلوكه، يقمع المرأة ويُهمّشها. فهل يُمكن أن يتحرّر أو يتغيّر، مجتمع كان نصفه وما زال مقموعا ومهمّشا؟ كُثر هم الذين يقرأون يوميا، الآية الكريمة التي تقول: “لا يُغيّرُ الله ما بقومٍ حتى يُغيّروا ما بأنفسهم”؛ منذ قرون نقرأ ولا نُغيّر شيئا!

مؤسّسانا الاجتماعية والسياسية عاجزة عن توفير الحلول. السلطة الحاكمة في إسرائيل، هي المستفيد الأكبر من جهلنا وتشوّهنا وعجزنا، تجلس على الجدار تراقب وتضحك، فرحا وسخرية. تستثمر جهلنا وتخلّفنا، وتنفق لبقائهما أضعاف ما تدفعه من حقوقنا، وأضعاف الميزانيات التي تدفعها لسلطاتنا المحلية، وتسكت عن تبذير هذه الأخيرة لتلك الأموال في أوجه لا تخدم المجتمع ولا مصالحه العامّة.

لو عدت اليوم يا توفيق فياض، وعاد أولئك الذين نقدوا روايتك، “المشوهون”، وهاجموك لكتابتها، لو عادوا ورأوا ما نحن فيه من بؤس الفكر والثقافة، وما يجتاحنا من آفات  العنف وتجارة السلاح والمخدّرات وغيرها، ومن بؤس بيوتنا ومدارسنا التي تركت تربية أولادنا للشوارع والشبكة العنكبوتية والهواتف الخلوية ومقاهي الأراجيل، لأعادوا النظر فيما قالوه عنك وعنها، وتراجعوا عن هجومهم عليكما وعن اتّهاماتهم الباطلة لكما. وإن لم يفعلوا، وهذا ما أتوقّعه، ليس تشاؤما بل استنادا إلى الواقع الذي نريد أن نغيره، فمردّ ذلك إلى كونهم ما زالوا حلقة مشوّهة ملوّثة في مجتمع المشوّهين، جلّ همّهم أن يأكلوا من صحن السلطان ويضربوا بسيفه.

هوامش:


[1] . لماذا سكت محمود درويش وسميح القاسم عن رواية توفيق فياض “المشوّهون”؟ 14/8/2016، في: https://www.alquds.co.uk/%EF%BB%BF%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%B3%D9%83%D8%AA-%D9%85%D8%AD%D9%85%D9%88%D8%AF-%D8%AF%D8%B1%D9%88%D9%8A%D8%B4-%D9%88%D8%B3%D9%85%D9%8A%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A7%D8%B3%D9%85-%D8%B9/

[2] . محمود غنايم، المشوّهون لتوفيق فياض، علامة بارزة في تاريخ الرواية الفلسطينية، الرسالة، بيت بيرل، 1996، ص 93-106.

[3] . وقد استعمل هذا التوصيف بعد غسان كنفاني، الناقد فاروق وادي في كتابه، ثلاث علامات بارزة في الرواية الفلسطينية، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1981، إشارة إلى أشهر الروائيين الفلسطينيين: جبرا إبراهيم جبرا، غسان كنفاني وإميل حبيبي.

[4] . غسان كنفاني، أدب المقاومة الفلسطيني، أبعاد ومواقف، الآثار الكاملة، المجلد الرابع 1998. ص 252.

[5] . غنايم ص 98.

[6] . كنفاني، الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948-1968 (1968)، الآثار الكاملة. ص 255.

[7] . كنفاني، الآثار الكاملة، ص 421.

[8] . كنفاني، الآثار الكاملة، ص 35.

[9] . هشام شرابي، مقدّمات لدراسة المجتمع العربي، بيروت: الدار المتّحدة للنشر، ط 3، 1984. ص 107.

[10] . م ن، ص 102.

[11] . كنفاني، الآثار الكاملة، ص244.

[12] . توفيق فياض، لقاء مع توفيق فياض، 10/2/2007، في http://www.aqsaa.com/vb/showthread.php?t=31714

[13] . شرابي ص 44.

[14] . كنفاني، الآثار الكاملة، ص 422.

[15] . م. ن.

[16] . م. ن.، ص 267، هامش 6.

[17] . للتعرّف على آراء النقّاد بشكل أوسع، أنظر مقال غنايم المشار إليه سابقا.

[18] . توفيق فياض، لقاء مع توفيق فياض، 10/2/2007، في http://www.aqsaa.com/vb/showthread.php?t=31714

[19] . حسين مهنا، أفراحنا، الاتحاد، 17/10/2019. ص 16 (الأخيرة).

By د. محمد هيبي

أستاذ اللغة العربية، كاتب وناقد أدبي. ولد في 5/3/1952 في قرية كابول، في الجليل الغربي، القريبة من "ميعار" المهجرة، مسقط رأس والده الشاعر الشعبي الفلسطيني، أحمد محمد هيبي (المعروف بالكشّوع أو أبو عصام الميعاري). هُدِمت ميعار وشُرّد أهلها في النكبة الفلسطينية عام 1948.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *