الشاعرة ابتسام حوسني، المعروفة أيضا بـ “رياح الأطلس”، هي “اسم على مسمّى”. فهي امرأة يتدفّق من وجهها جمال المرأة العربية المغربية وسحر عينيها وإشراقة بسمتها. وهي شاعرة، في حديثها قدرة عجيبة على رسم البسمة على وجهك سواء كان ذلك داخل القصيدة أو خارجها. وهي فعلا، مثل رياح الأطلس، فإذا هبّت عليك، قد تنعشك وقد تعصف بك، فإمّا أن تلتحم بعاصفتها وثورتها، وإمّا أن تُصبح ضحيّة من ضحاياها. وأنا شخصيا التحمت بعاصفتها وثورتها، ليس لأنّني أخاف أن أصير ضحية من ضحاياها، وإنّما لأنّني أومن بما تُجسّده في شخصيتها وفي شعرها، فهي تُجسّد فيهما الغضب والثورة والتمرّد والتوق إلى عالم أفضل. وهي رومانسية أيضا، تحمل في طيّات نفسها وقصائدها، فيضا من الأمل والتفاؤل اللذين لا ينفصلان عن الطبيعة الجميلة في المغرب والعالم العربي عامة.

الشاعرة ابتسام حوسني، أو رياح الأطلس، كما أعرفها، هي ثورة من الغضب تمشي على الأرض. فهي بنشاطاتها وقصائدها، جيش يُقاتل في ميدان عربي انخرست فيه الأسلحة التقليدية، إلّا تلك الموجّهة إلى صدور الإخوة في هذا الميدان العربي الذي لم نعد نملك فيه إلّا ثقافتنا، نُقاتل بها لنحافظ على هويتنا وانتمائنا وإعادة لحمتنا. ولذلك أرى فيها أيضا، شعلة لا تخبو. فقصيدها يشعّ على أبناء شعبها وأبناء إمّتنا العربية من المحيط إلى الخليج، يُنير نفوسنا وعقولنا. وهي تُعجبك بطريقة كلامها الجذّاب المقنع، وتستفزّك بكلماتها حين تقرأها، وبطريقة إلقائها حين تراها وتسمعها، فتجعلك لا ترى إلّا الثورة والتمرّد على الظلم والظالمين، على الاستغلال والمستغلِّين، وعلى الخنوع والخانعين، بل وتستفزّك لتتمرّد على نفسك، إذا كنت صامتا، ولكن ما زالت فيك بقايا جذوة ترفض الذلّ والهوان ولا ترضاهما نهجا لحياتك.

في أحد اللقاءات معها قالت: “كتبت الشعر في المرحلة الإعدادية حينما أثارتني قضية فلسطين، وقصائد محمود درويش ونزار قبّاني. وحينما قرأت الأدب الغربي فوجدت كارل ماركس، ووجدت لينين ووجدت الناس الذين يُدافعون عن البسطاء وعن الشارع، عن الشعب وعن الغضب. فوجدت نفسي أكتب، أرفع قلمي دفاعا عن الأبرياء وعن الفقراء، لأنّني منهم وأومن بهم، أومن بأحلامهم وتطلّعاتهم، فكتبت لهم. وجدت نفسي مسؤولة عن ضمير شعب عشت فيه سنوات صباي مع أبي الذي دفع الكثير من حياته لكي يمنحني لحظة وجودي”.

الشاعر الذي يكون ذلك هو منبعه ونقطة انطلاقه وبوصلته التي يهتدي بها، فلا عجب أن يكون التمرّد والثورة هما النار التي تعتمل في نفسه وحركاته وكلماته. هذه هي ابتسام حوسني، رياح الأطلس. هي ابنة الشعب المظلوم والمقهور، وابنة الفقراء الكادحين المسحوقين، وابنة كل المحرومين من نسائم الحرية. إنّها ضميرهم الحيّ، الحرّ، الناطق باسمهم والمدافع عنهم، هي ضميرهم الذي لا يتخلّى عن مسؤوليّاته مهما كان الثمن. وهذا ما أجده في إبداعها الشعري عامة.

وأهمّ ما يشغل تفكيري، كفلسطيني يقرأ ابتسام حوسني، هو أنّ فلسطين بقضيتها ومعاناة شعبها من ظلم واحتلال، تشغل مساحة شاسعة في شعرها. فأنت تجد روح فلسطين حيّة نابضة في معظم قصائدها، تصريحا أحيانا، ورمزا وتلميحا أحيانا أخرى. وعليه، فإنّه مصدر فخر واعتزاز لي أن تمنحني الشاعرة شرف كتابة مقدّمة لديوانها، “كش ملك” الذي صدر مؤخرا في القاهرة. وأراها بذلك، قد دفعت فلسطين خطوة أخرى في معارج الحرية، وذلك أيضا بإهدائها هذا الديوان لأسرى الحرية الفلسطينيين القابعين في سجون الاحتلال، خاصة وأنّ شاعرتنا المغربية، هي عضو في نادي الأسير الفلسطيني، وكثيرة هي القصائد والنشاطات التي سجّلت فيها موقفها المشرّف من الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.

في حديث لي معها، وفي قراءاتي السابقة لشعرها، وجدت الفكر النيّر الذي اختار حرية الإنسان وكرامته طريقا ونهجا. فهي تُدين كل العقليّات التي تُؤلّه الحاكم والسلطة، بأشكالهما السياسية والاجتماعية والدينية المسيطرة اليوم في عالمنا العربي. وهي تُدين الحصار الرهيب الذي تضربه قوى الظلام حول من اتخذ الحرية والكرامة طريقا له.

ووجدت لديها أيضا، المواقف الإنسانية الثابتة والصارمة التي لا تعرف التأتأة أو المهادنة، تُشاكس السلطة، تُناهضها وترفض إملاءاتها وتحتقر المذدنبين لها. وتُعادي كذلك الجهل والتّخلّف وخفافيش الظلام.

ومن أبرز ما وجدته في شخصيتها وشعرها، تلك المرأة الحرّة المناضلة في سبيل حريتها وحرية مجتمعها وشعبها والإنسان عامة. وكذلك المرأة الثائرة على سلطة المجتمع الذكوري الذي يراها عورة يجب حجبها عن نور الشمس والحياة خلف أسوار التخلّف، ويريدها سلعة تُباع وتُشترى للمتعة وتحقيق الشهوات والذات الذكورية الفارغة التي سحقها الجهل وأفقدها التخلّف معنى الرجولة الحقيقية.

ابتسام حوسني تكتب الشعر بروح حداثية مشاكسة. وأول ما تظهر تلك المشاكسة في عناوين قصائدها التي، من جهة قد تأتي بها من خارج العربية، مثل: “كانامارا”، “إنبوكس مي”، “تيتيز”، “ستانيك” وغيرها. ولكل عنوان إحالاته ودلالاته. ومن جهة أخرى، قد تأخذك أحيانا إلى فضاءات غير تلك التي تتوقّعها في النصّ. وهي إذ تُشاكس، لا تتقيّد تماما بروح الحداثة التي تريدك أن تهدم كل الثوابت. فهي تكتب قصيدة النثر ولكنّها تُحافظ فيها أحيانا، على إيقاع موسيقي وقافية يحملانك إلى الأيام الخوالي التي تحضن تراثنا الشعري وغيره. وهي كثيرة التناصّ مع القرآن الكريم وغيره من الكتب السماوية، ومع الموروث الإنساني كلّه، مثل الأساطير والأديان والتاريخ والتراث الشعبي، وغير ذلك الكثير. ومن هنا فإنّها تحافظ على نصّ متميّز بعنوانه وشكله ومضمونه. فالنصّ لا يُغريها إن لم يكن مشاكسا يحمل استفزازا كبيرا لتفعيل عقل القارئ، ويساعده على النهوض مما هو فيه من أوضاع يحكمها القهر والجهل والتخلّف. وأستطيع القول هنا، إنّها كسرت مقولة إنّ الشعر يخاطب العواطف فقط، فشعرها يُخاطب العقل كما يٌخاطب العواطف وأكثر.

يقول الناقد الجزائري، بودة العيد، حول انتقائها لعناوين قصائدها: “إن الملامح السيميائية للعتبات الأولى للنصّ تشي بمجموعة من المعاني المثيرة لعواطف القارئين، وهو أمر نراه قد استرعى مهارة انتقائية من قبل الشاعرة التي استغلت الموقع الأيقوني للعنوان لتستفزّ به فضول الذات القارئة التي لا تشكّ المؤلفة في القابلية الكبيرة لهذه الذات في تعاطيها مع هذا النوع من المواد النفسية وذلك ما جعلها تفلح في منح النصّ مساحة قرائية أوسع رغم الاختلاف الواضح بين المتن النصّي والكلمات المفتاحية له”. وقد اتخذ بودة العيد من قصيدتها، شفاه قد يحملها كفّ!!”، نموذجا، حيث يعدنا العنوان برحلة رومانسية مع شفاه نتوقّع ملامستها بأكفّنا وتقبيلها ولثم شهدها. ولكنّنا نُفاجأ بكفّ الحاكم تحمل الشفاه على ترتيل اسمه والهتاف له. وهنا، عندما نلج النصّ نجد الشاعرة تفضح الجماهير التي تنصاع لشريعة الحاكم، تُقدّسه و”تزكيه بعيد ميلاده / وتهتف: / بدوام ملكه / حاكما مطلقا”. وتفضح أيضا الحاكم المطلق الذي يستعبد الجماهير ولا يوحدها إلّا بتقديسها وانصياعها لشريعته، فيُسخّرها “خدّاما وجماهير / بالإجماع تلتفّ / تقبّل راحة يديه / … / تذوب في غرامه / لا تعترض عليه / فكل ما قرّره / بشأنها متّفق عليه / يلمّ شمل الأمّة / ويوحّد الصف!!”.

في ديوانها، “كش ملك”، نجدها تنزع إلى التجديد في هذا المجال المشاكس، في اختار بعض عناوين قصائدها من لغات أو ثقافات أو حضارات أخرى غير العربية، مثل العناوين التي ذكرتها سابقا. ولجميعها إحالات ودلالات سآتي على ذكر بعضها لاحقا.

ومن اللافت أنّ شعر ابتسام حوسني، في ديوانها الذي أقدم له وفي غيره، تعمّد بروح فلسطين والحنين إليها، لدرجة أنّك عندما تقرأ بعض قصائدها، تظنّ أنّك تقرأ شاعرة فلسطينية، ففلسطين حاضرة في شخصيتها وشعرها، وتلعب دورا مؤثّرا. تقول: “أنا لا أنساك فلسطين! / فلك بعنقي دين … / وبغير هواك لا طين / ولغير رؤياك لا عين / تنبت بوجه يدين … لسواك / لا إنسيّ ولا جنّ / نمووووت نموووت فيك / ولك أبدا نَحِنّ!!”. وحنين الشاعرة إلى فلسطين نابع من إحساسها بعمق جرحها. ففي قصيدة لها بعنوان “فلسطينية واسمي وطن”، تقول: “فلسطينية واسمي وطن / ندبة في جبين / هاروت وماروت / وهما يرسمان / بزجاج البيت المقدّس / مستوطناتٍ من قطن”. وفي قصيدة أخرى من قصائدها، تطلق الشاعرة صرخة مدويّة ترسل بها “من رياح الأطلس الى طفل مقعد في لحده، هو حنظلة الذي سيظل دائما في العاشرة من عمره، حين تقول: “يا ويحنا … من وحيه / حينما يستدير الى الخلف / يرانا بظهره / ويشيح عنا بوجهه / ورقابنا مدينة له / بمقتله”.

ولا تنسى الشاعرة غزّة وعذابها الذي لا ينتهي. ففي قصيدتها “على أستار غزة”، تقول: “ونهتف / كل الوقت / بعالية المقام / غزة !! / نحيا لها / نموت بها”.

وإذا كنت قد وجدت نفسي في الصادر من إبداع ابتسام حوسني، كفلسطيني له قضيته التي تتماهى معها الشاعرة في كثير من إبداعها، وتغرف من بحور أحزانها، ففي ديوانها، “كش ملك”، الذي منحتني شرف التقديم له، وجدت نفسي، بالإضافة إلى ما تقدّم، إنسانا ثوريّا يتماهى مع الشاعرة صاحبة الفكر التقدّمي النيّر، ويؤمن بما تؤمن به، في وقوفها مع الشعب وفي صفّ الناس الكادحين، المسحوقين والمقهورين. فهي تنطق باسمي عندما تنطق باسمهم، تدافع عنهم، تنتصر لهم وتستفزّهم للنضال والمقاومة وعدم الخنوع للظلم والاستغلال.

في قصيدة أخرى بعنوان، على الدرب الأحمر”، وما أدراك ما الدرب الأحمر؟! تذكّرنا ابتسام حوسني بالشاعر الفلسطيني سميح القاسم، وبرائعته “سأقاوم” أو “خطاب في سوق البطالة”، حين يقول: ربما تصلب أيامي على رؤيا مذلّه / يا عدو الشمس … لكن … لن أساوم / وإلى آخر نبض في عروقي … سأقاوم”. أمّا شاعرتنا فتقول:يا رفيقي: / الآن قاوم! / أخرج أصابع كفّك / من قفّازات البرد القارس، / دون أن تعدّها / واحدا واحدا / فعددها خمسة / لا تساوم / … / كان لبني كنعان / ممرا مستحيلا / فأصبح من جهلنا / جسور ملاحم / يا رفيقي: / الآن قاوم!“.

ديوانها، “كش ملك”، من عنوانه يبرز غضب رياح الأطلس وتمرّدها ونهجها الثوري الذي لا يتأتئ في مقاومته للسلطة. وقصائد الديوان بعناوينها ونصوصها، وما فيها من محاولات للتجديد التي تصل حدّ المشاكسة في الشكل والمضمون واللغة. فالمشاكسة اللغوية تعكس بدورها مشاكسة السلطة في الأقطار العربية، ومقاومة أنماطها الثابتة وممارساتها التعسفية. كما أنّ شاعرتنا تمزج بين الأسطورة والتاريخ والخطاب القرآني، والاستعارة من اللغات الأخرى، تعكس بذلك غضبها وروحها المتمرّدة، وثورتها على كل مظاهر الظلم والتخلّف وتقديس الحاكم. كما أنّها تنتصر للمرأة العربية كذلك، وتدعوها للتمرّد وتقرير مصيرها بنفسها، من خلال مواجهة المجتمع الذكوري المتخلّف.

كثيرة هي النماذج التي تثبت قدرة الشاعرة في هذا الديوان على التجديد الحداثي في النصوص وعناوينها، دون خوف من تقييدات الحداثة التي تلزمنا بالثورة على المقدّس بكل أشكاله. فالشاعرة تعرف متى تثور ومتى تتصالح مع الموروث، فهي لا شكّ تعرف أنّ الحداثة نفسها ليست بقرة مقدّسة، وترى بهذا التصالح نهجا لا يتناقض مع ما تقتضيه متطلبات الحداثة.

في قصيدتها، “كانامارا”، العنوان وحده ثورة بحدّ ذاتها. فيكفي أن نعرف أنّ “كانامارا” في اليابان هو عيد يُحتفَل فيه بالعضو الذكري، حيث ينصّبه الناس إلها ويعبدونه يوما في السنة، يكفي أن نعرف ذلك حتى نحسّ أن الشاعرة تتحدث عن شذوذ ما، وإذا بحثنا عن ذلك الشذوذ عندنا، سنجد الشاعرة ترمز بهذا العنوان إلى الشذوذ في الفكر والعبث الذي نعيشه، وهو ما ينعكس بشكل جليّ في النصّ. فالعباد كما جاء في النصّ: يقطعون العهد على أنفسهم / سرعان ما ينقضونه / يتيهون في الأسواق / يمشون بيننا / يردّدون نشيد الأمير / وعن ظهر قلب يحفظونه!”. أليس شذوذا أو من عبث الحياة أن ينقض الناس عهودهم، ويخونوا أنفسهم لكي يردّدوا كالببغاوات ما يلقّنهم الأمير؟ أليس عبثا وشذوذا، ومفارقة مأساوية، خضوع المظلوم لظالمه؟!

أمّا في قصيدتها، “للتي تخرج قدميها دوما من الغطاء أثناء النوم!”، يكاد القارئ لا يرى العلاقة بين العنوان والنصّ، ولكنّ هذا البتر، أو القطيعة بين العنوان والنصّ، ليس عفويا، وإنّما هو ثوريّ مدروس. فإذا فهم القارئ النصّ وما فيه من فضح لما يحدث في مؤتمرات القمامة العربية، التي تأتمر بأمر العدو وتصون مصالحه أكثر من مصالح شعوبها. وسوف يتساءل: من هي تلك التي تخرج قدميها دوما من الغطاء أثناء النوم؟ وسوف يبحث عنها، وقد يجدها في الشاعرة التي ترفض تلك الفضائح، وتريد أن تخرج من تحت ذلك الغطاء المذلّ، أو يجد فيها تُمثل الصوت الشاذّ في تلك الاجتماعات، الصوت الذي يخرج عن الإجماع المذلّ تحت تلك المظلّة المذلّة. وهذا يُعبّر بوضوح عن سعي الشاعرة لتعرية المجتمعِين المؤتمرِين، باحثة عن ذلك الصوت الشاذّ الذي نتمنّى أن يكون موجودا في تلك الاجتماعات.

وقد لا يكون بعيدا عمّا ذكرناه سابقا، ما جاء في قصيدتها “إنبوكس مي” (Inbox me). أولا، من حيث تجديدها اللغوي المشاكس في العنوان، وثانيا، من حيث كونها مثالا حيّا لما تتمخّض عنه تلك الاجتماعات العربية أو المفاوضات السرية مع الغرب، من قرارات مخزية، قد تظهر شيئا وتخفي ضدّه، تظهر ما تدّعي أنّه ينفع الأمّة، وتعمل بالخفاء على ما ينفع الغرب، أعداء الأمّة. فـ “إنبوكس … مي” (Inbox me)، تعني خاطبني سرّا، وهي إحالة للمفاوضات السرّية من أجل بيع قضايانا الكبرى. ويظهر هذا جليّا في النص: “تدمر الرابضة / خارج قلاعها / تطلب اللجوء لأراض محتلة / تحاصر زنوبيا الحسناء / من كل وجهة محتملة / تمنع عنها الماء / بقبو القصر / تردم التراب فوق معابره / كي لا يصلها المدد بحينه / فتسقط بيد العدو / لقمة سهلة”. أليست زنوبيا الحسناء هي سوريا وما يحدث لها اليوم من حصار وتدمير باسم الديمقراطية الغربية المجرمة، ناهبة خيرات الشعوب التي تدمّر العالم العربي بأيدٍ عربية من أجل إسرائيل؟

وفي الختام لا بدّ من نظرة سريعة على قصيدة “حانة ومانة”، التي يحمل ديوانها الأخير عنوانها. وفيها تستمرّ الشاعرة المغربية، ابتسام حوسني، بأسلوبها المغاير والمشاكس، سواء كان ذلك في لغتها واختيار مفرداتها أو في مضامينها واختيار موضوعاتها. وبهذا الأسلوب، كما ذكرت، ترمي الشاعرة إلى رفع الظلم والقهر وفضح السلطتين: الاجتماعية والسياسية، في العالم العربي.

العنوان، “حانة ومانة”، سواء كان للديوان أو للقصيدة، يُعيدنا إلى قصة قديمة ومعروفة، هي قصة الرجل الذي تقدّمت السنّ بزوجته “حانة”، فتزوّج من “مانة”، امرأة شابة، فنتفت المرأتان شعر لحيته، الأولى نتفت الشعر الأسود بحجّة أنّه لا يليق بسنّه ووقاره، والثانية نتفت الشعر الأبيض بحجّة أنّه لا يليق بشبابه ورجولته. ولمّا سأله صديقه: “أين لحيتك يا رجل؟”، أجابه: “بين حانة ومانة، ضاعت لحانا!”، فذهبت مثلا.

وإذا قصرنا الحديث على قصيدة “حانة ومانة”، نجد أنّ الشاعرة استلهمت التراث عبر الحكاية المذكورة، والتاريخ عبر تاريخ ملوك المناذرة، واستعانت بهما لتسقطهما على الواقع الراهن الذي يعيشه الإنسان العربي في المغرب أو في غيره من بلدان العرب. فالشاعرة تنظر إلى الشعوب العربية على أنّها شعوب مهانة، ضائعة بين “حانة ومانة”، بين ملوكها الذين ينتِفون كرامتها، وبين أسيادهم، تُجّار السياسة في الغرب، الذين ينتِفون ثروات الشعوب وخيراتها، ويشترون بأثمانها ذمم ملوك العرب وضمائرهم في صفقة واحدة.

وملك الحيرة – سواء كان النعمان بن المنذر أو غيره من ملوك المناذرة الذين أطلقوا على أنفسهم لقب، “ملوك العرب”، لأنّهم عُرفوا بقوة مملكتهم التي واجهت كسرى رغم جبروته، وبعزّتهم وعلو نفوسهم واحترامهم لشرفهم وشرف نسائهم – ما هو إلّا قناع تسقطه الشاعرة بشكل مفارق مثير للسخرية، على وجوه ملوك العرب في عصرنا الراهن، وزعمائنا الذين يُتاجرون بشرف نسائهم وأوطانهم وشعوبهم المقهورة، في سبيل استبقاء عروشهم. هؤلاء الملوك، يُوزّعون النساء، كناية عن كرامة شعوبهم وثرواتها، يُوزّعونهنّ كلحم الضأن على أسيادهم في الغرب، الذين يحمون عروشهم التي ترخص لها دماء المقهورين، وحريتهم وكرامتهم.

جاء في القصيدة: “ملك الحيرة / يسوق نسوة مدينته / عهدا وأمانة”، وتقصد الشاعرة، عهدا وأمانة لأسياده لا لشعبه، ولا لشرفه وشرف شعبه. وهنا تكمن المفارقة الساخرة، التي تجعلنا نرفض أنّ هذا الملك هو ملك الحيرة الحقيقي، وإنّما هو ملك غريب عن الحيرة وأهلها، كما هو غريب عن العروبة وشرفها. ومن المنطلق نفسه يشقّ المناذرة الجدد عصا الطاعة، ولكن على شعوبهم وليس على أعدائهم، “في كل واد ذي زرع”، أي في العالم العربي كله. ويوهمنا الملك أنّه “يرشّ قطرات الندى”، ولكنّه في الحقيقة يزرع أوتادا بيننا، ويشرب مع أسياده أنخاب قهرنا وتفسيخنا. ويُؤكّد ذلك أنّنا نخشى تلك القطرات، فهي: “تتراوح في مشيها / حملا وئيدا / من حديد فيه بأس شديد / منه رقابنا تخشى / أن تخضع لشفتيه / خناجر مدانة”. أي أنّها تُثير الشكّ في سلامة نواياها. وما يُؤكّد ذلك، أنّ هذه الفقرة تتناصّ مع أبيات الملكة العربية، الزبّاء (زنوبيا)، حين أوجست شرّا من ثقل سير الإبل فقالت:

ما للجمال سيرها وئيدا        أجندلا يحملن أم حديدا؟!

أي أنّ الزبّاء كشفت المؤامرة فعمدت إلى خاتمها المسموم ولثمت ما فيه من سمّ لتموت قبل أن ينال منها عمرو بن عدي اللخمي وهو أول ملوك الحيرة من بني لخم. وكأنّي بالشاعرة تشير بفعلة الملكة إلى الشعوب وتستفزّها أن تأبى أن تكون “خناجر مدانة”، بأيدي حكّامها الخونة، وأن لا تستسلم لهم. فالموت أشرف من هذا الاستسلام لملوك يُشبهون ملك الحيرة بصورته السلبية، “ملك الحيرة / يسلّم نسوة مدينته / كاسية عريانة / يجر الغطاء على لحيته / يبقيها مُصانة”، أي ملك الحيرة الذي يبيع شرفه ليصون لحيته وعرشه.

وبتمثيلها وجمعها بين ملك الحيرة والزبّاء، تضرب الشاعرة عصفورا آخر، فهي تفضح ملوك العرب كيف يقفون عاجزين أمام أعدائهم، بينما لا يتورّعون من التآمر على بعضهم البعض، كما تآمر ملك الحيرة، عمرو بن عُدي اللخمي العربي، على الملكة العربية، الزباء (زنوبيا)، ملكة تدمر.

يطول الكلام في ثورية أشعار ابتسام حوسني، رياح الأطلس، وصرخاتها التي تُطلقها في وجه المجتمع وسلطاته: الاجتماعية والسياسية والدينية. فهي أوسع من أن يتسع لها مقال كهذا، وهي تستحقّ دراسات متأنيّة أعمق وأشمل، خاصة وأنّها لا تساوم في فضحها ورفضها للحالة العربية الراهنة المخزية.

وأخيرا، يطيب لي أن أعبّر عن مدى متعتي بقراءة شعر ابتسام حوسني عامة، وبشكل خاص ديوانيها: “كش ملك” و”حانة ومانة” الصادرين مؤخرا في القاهرة، واللذين يُشكّلان علامة فارقة في تميّز إبداعها الشعريّ عامة.

كما أنّني أراها فرصة سانحة لأعبّر عن مدي اعتزازي بأنّ تقديمي لديوانها، “كش ملك”، هو أول ثمرة لاختزال المسافات بين حيفا في الداخل الفلسطيني، وقلعة السراغنة في المغرب، وأول ثمرة للتوأمة بين اتحاد الكرمل للأدباء الفلسطينيين، وبين الاتحاد المغربي للمبدعين. إنّها بداية متواضعة، ولكنّها مباركة تطمح إلى دوام التعاون بيننا في كافة المجالات.

 

 

 

 

By د. محمد هيبي

أستاذ اللغة العربية، كاتب وناقد أدبي. ولد في 5/3/1952 في قرية كابول، في الجليل الغربي، القريبة من "ميعار" المهجرة، مسقط رأس والده الشاعر الشعبي الفلسطيني، أحمد محمد هيبي (المعروف بالكشّوع أو أبو عصام الميعاري). هُدِمت ميعار وشُرّد أهلها في النكبة الفلسطينية عام 1948.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *