قراءة في ديوان “مرافئ العمر”،[1]للشاعر الفلسطيني، محمد علي الصالح.
 
قد يتساءل البعض: كيف يمكن أن يحدث ما حدث للشعب الفلسطيني، وقد كان يملك الكثير من الوعي بما يتربّص به من مؤامرات؟ ويُؤكّد ذلك الوعي، رموز فلسطينية كثيرة، بالإضافة إلى نخبة من الشعراء الذين عاشوا وعايشوا التطوّرات على الساحة الفلسطينية منذ وعد بلفور المشؤوم وبداية الاستعمار البريطاني لفلسطين وغيرها من أقطار العالم العربي. الإجابة على مثل هذا التساؤل، في اعتقادي، كانت وما زالت واضحة: كانت المؤامرة وقدرات ثالوثها الدنس: الإمبريالية الغربية، والصهيونية، والرجعية العربية، أكبر بكثير من قدرات الشعب الفلسطيني، فلم يستطع آنذاك، أن يقف أمام المؤامرة، ويحول دون تنفيذها.
في تلك الفترة، عاشت نخبة من الشعراء، طالما حذّرت من المؤامرة، ومن التعامل مع أطرافها، ومن بيع الأراضي للحركة الصهيونية. يُذكر من بين هؤلاء الشعراء: إبراهيم طوقان، عبد الرحيم محمود، مطلق عبد الخالق، أبو سلمى، محمد على الصالح وغيرهم الكثير. بعض هؤلاء الشعراء، نفر لم يعطهم البحث والنقد حقّهم الذي يستحقّونه. من بينهم الشاعر محمد على الصالح، والد الشاعر الفلسطيني المعروف، عبد الناصر صالح. وقد حظي ديوان الشاعر محمد على الصالح، بالنشر مؤخرا فقط. فقد صدر في القدس عن دار “الجندي” للنشر والتوزيع. ويقع في 208 صفحات من الحجم المتوسط، تضمّ 38 قصيدة تتصدّرها قصيدة للشاعر عبد الناصر صالح، بعنوان “مرثية لفارس القصيدة”، يرثي فيها والده، الشاعر المناضل، محمد علي الصالح، ويتصدّرها هذا إهداء: “إلى روح والدي: الشاعر والمناضل”.
في دراسة للناقد عزيز العصا،[2] نُشرت في ذيل الديوان، حول قصائد الشاعر، يقول في ختامها: “ختاماً، ولأنّ وجهة النظر أمانة يجب أن توضع في مكانها الصحيح، فإنّني أتوجه إلى صانعي القرار الفلسطيني، على المستويات المختلفة، بضرورة القيام بخطوتين متتابعتين، وهم: أما الأولى، فهي إنجاز ديوان شعرٍ يضم قصائد الشاعرمحمد علي الصالحعلى أن يتمّ تبويبها بحسب التواريخ، وذلك لأنّ الأهمية الرئيسة لها تكمن، بشكل أساسي، في أنّ كلّاً منها قد نُظمَت وألقيت في مناسبة تُشير إلى حدث هام، يساعد المتتبّع للشأن الفلسطيني في الربط بين أحداثها. وأما الخطوة الثانية؛ فهي اعتماد تلك القصائد في المنهاج الفلسطيني؛ ففي مختلف التخصّصات والمباحث والفروع تجد للشاعرمحمد علي الصالحإبداعا (شعريا) يجعل القارئ/الطالب مملوءً بالفكرة مشبعا بأهدافها متفهّما لمعانيها” (العصا، ضمن مرافئ العمر، ص 205-206).
من هذا المنطلق نستطيع أن نقف على أهمية شعر محمد على الصالح، ودوره آنذاك، وإلى الآن، في توعية القارئ والطالب الفلسطيني، بتاريخ نضال شعبه، وحجم المؤامرة التي حيكت ضدّه، وما زالت تقيّده وتُحاول منعه من استقلاله وتقرير مصيره.
الشاعر عبد الناصر صالح، نجل الشاعر محمد علي الصالح وتلميذه، في ديوانه، “المجد ينحني لكم” (1989)، رثى والده بقصيدة بعنوان “مرثية لفارس القصيدة”، عبّر فيها عن مدى الفقدان الذي يشعر به بسبب موت أبيه، الشاعر والمناضل. وهي بلا شك دفقة وجدانية إنسانية مليئة بالحزن والألم. ولكنّ قراءة أعمق للقصيدة تشي بأنّ الحزن والألم المتدفّقين لدى الشاعر، لم يكونا نتيجة رحيل الوالد الشاعر والمناضل فقط، وإنّما هما نتيجة أوضاع فلسطينية كانت راهنة قبل صدور الديوان، وظلّت راهنة لحظة صدوره عام 1989، وما زالت راهنة حتى كتابة هذه السطور، بحيث لا يُمكن أن ترى في موت مناضل واحد، مبرّرا لكل ذلك الحزن، حتى وإن كان يستحقّه. والقصيدة تُؤكّد هذا الطرح، خاصة حين يقول عبد الناصر صالح مخاطبا والده:
“هل أَلْقَوْا عليكَ القَبْضَ
بَعْدَ مُظاهراتِ اليَوْم
هل عانَيْتَ خَلْفَ قتَامةِ القُضْبانِ
حينَ كَشَفْتَ للطُّلابِ خُبْثَ الانْتدابِ
وسيّئاتِ الأَنْظِمَةْ؟
         * * *
هل أَنْهَيْتَ في السّجْنِ الخِطابَ
وهل شَهِدْتَ على جرائِمِهمْ؟
كأنَّك تَمْنَحُ الأَسْماءَ رَوْنَقَها
فَلا تَبْخَلْ علينا بالقَصيدةِ،
يُولَدُ الوَطَنُ المُقاتِلُ من نَزيفِكَ”.[3]
في هذه الأسطر، يُلخّص الشاعر سيرة والده النضالية، ودوره في فضح المستعمر والأنظمة الرجعية التي ساندته وما زالت تسانده، وكذلك دوره في التنوير ونشر الوعي بين أبناء شعبه، وبين طلابه بشكل خاص. ولذلك يُمكننا أن نراهن على أنّ الذي يفتقد محمد علي الصالح هو ليس نجله فقط، وإنّما هو الإنسان الفلسطيني عامة، لأنّ الشاعر عبد الناصر صالح نفسه، يحمل في شعره، إلى جانب همّه الذاتي، همّا جمعيا، فلسطينيا وعربيا.
ولد الشاعر الفلسطيني، محمد علي الصالح عام 1907، في طولكرم، واختطفته يد المنون في العاشر من آذار عام 1989. أي أنّه عاش تاريخ فلسطين الحديث إلى ما بعد بداية انتفاضة الحجارة الأولى عام 1987، وقبيل اتفاقيات أوسلو. وكان أول شاعر فلسطيني ذكر الانتفاضة في شعره. ففي قصيدة له بعنوان “يوم 2 نوفمبر” التي خرج فيها ضدّ “وعد بلفور” المشؤوم، وحذّر شعبه وأمّته من مغبّة السكوت عليه، قال في أحد أبياتها:
إنّـا لنحمي حمــانـا بانتفاضتنا      على عدوّ غريب … طامع … أشِر
قراءة قصائد الديوان، “مرافئ العمر”، تضعنا وجها لوجه، أمام شاعر مناضل ومثقّف، قاوم الإنجليز قولا وفعلا، وسُجن في سجونهم. أي أنّه عاش وعايش أحدث أكثر الفترات حساسية في تاريخ فلسطين، من خروج الأتراك وبداية الانتداب البريطاني، إلى النكبة. وهي الفترة التي من بداياتها، بدأ الشعراء الفلسطينيون، وبينهم محمد علي الصالح، يستشعرون القادم من خراب وضياع. وقد كانوا في نضالهم ومقاومتهم، قدوة لغيرهم. وقد كان شعرهم بحقّ، شعر مقاومة. فقد اتخذوا منه سلاحا للمقاومة، ومنبرا للتنوير والتحذير والتثوير. ولكنّ قدرات المؤامرة وثالوثها الدنس، كما ذكرت، كانت أكبر من قدرات الشعب الفلسطيني. ورغم ذلك، فإنّ هول المؤامرة وشراستها، لم يقضيا على الشعب الفلسطيني، ولم يحولا دون صموده واستمرار مقاومته ومطالبته بحقّه في تقرير مصيره في وطنه وعلى أرضه. وكل ذلك وغيره، يتجلى في شعر محمد على الصالح.
في تصفّح سريع لقصائد الديوان، نجد أنّ الشاعر، من حيث المبني، ينهج منهج الاتجاه النيو-كلاسيكي، الذي كان سائدا في تلك الفترة، في فلسطين وغيرها من أقطار العالم العربي. فقصائده معظمها من الشعر العامودي الذي يخضع لبحور الخليل؛ يُعالج فيها هموم الساعة وقضاياها بقالب كلاسيكي درج عليه شعراء العرب آنذاك. 
أما من حيث المضمون، فلأوّل وهلة، سيعتقد القارئ أنّ شعر محمد على الصالح، هو شعر مناسبات. وهذا صحيح، ولكنّ قراءة أعمق، سوف تكشف للقارئ أنّ هذه القصائد لا تواكب أحداثا فقط، بل يمتحها الشاعر من واقع مؤلم، كثير الانكسارات والأحلام معا، ويربطها بحالات وجدانية ووطنية، من الطبيعي أنّها تتدفّق من ذات الشاعر وأعماقه، ولكنّها تتعدّى الذات الفردية إلى الذات الجمعية الوطنية، الفلسطينية والعربية. فهي تحمل همّا ذاتيا هو جزء من همّ جمعي، وهو همّ الشاعر كإنسان فلسطيني مضطهد، وهمّ فلسطين المغتصبة والفلسطينيين المضطهدين جميعا. وبهذا تُشكّل قصائد محمد علي الصالح، وعيا جمعيّا وهمّا إنسانيا، هما جزء لا يتجزّأ من الوعي والهمّ الفلسطينيين، ومن النسيج الثقافي الفلسطيني والعربي.
في شعر محمد على الصالح، تتجلّى مناسبات فلسطينية مختلفة. ولكن، في تلك القصائد ومناسباتها، تتجلّى فلسطين كلّها، بتاريخها وتراثها ومعالمها ورموزها، وهول نكبتها واستمراريّتها. ومن خلالها أيضا، تتجلّى الأمة العربية، إذ كما يظهر من القصائد، وكما يقول الناقد، عزيز العصا، فإنّ محمد على الصالح، “يرى فلسطين عبر الأمّة، ويرى الأمّة عبر فلسطين” (العصا، ص 191).[4] ومن خلال كل ذلك، نستطيع أن نشكّل الصورة أو الشخصية التي حملها محمد على الصالح كشاعر ومناضل.
توزّعت قصائد الشاعر على مواضيع مختلفة، يطغى عليها الهمّ الوطني الفلسطيني، وشعر المقاومة الذي يدعو لمقاومة المستعمر الإنجليزي وفضح مؤامرته مع الصهيونية على الشعب الفلسطيني. لذلك تراه يكتب عن الانتداب البريطاني كغزو لتمرير مؤامرة. يقول في قصيدة “يا شاعر القطرين”، مستقبلا الشاعر، خليل مطران، أثناء زيارته لفلسطين ونزوله في طولكرم:
هذي الجزيرة يا “خليل” عريننا      لعبوا بها كالآلة الصمّاء
لا كان “بلفور” وعدا جائرا     منيت به قحطان في الأحشاء
يعود الضمير في لفظة “لعبوا” عل أطراف المؤامرة. أمّا لفظة “بلفور” فتفضح الوعد والواعد والموعود. أمّا الطرف الثالث، الزعماء العرب والرجعية العربية، فلا يُذكر مباشرة هنا، ولكنّه لا يخفى على القارئ. والشاعر في هذه القصيدة وغيرها، يُلمّح أحيانا، ويُشير بوضوح أحيانا أخرى، إلى تواطؤ الرجعية العربية وعمالتها في أكثر من قصيدة.
وفي قصيدة “تحية الشباب”، يذكر الفوضى والخراب الذي عمّ فلسطين حين تولّاها الانتداب البريطاني. يقول فيها:
حـــيّ الشـــــباب لَــــموطن     أضحى مـن الفوضى يبابا
أضحى على مضض يُساس     ولا يرى في الحيف عــابا
سلــــــــــبوه كــــل صــفاته     لـــــمّا حـــــــبوْه الانـتدابا
وفي قصيدة “سيروا خفافا” أيضا، ما يُؤكّد تآمر الغرب مع الصهيونية على اغتصاب فلسطين وتحويلها إلى وطن قومي لليهود، من خلال منحهم “وعد بلفور”. يقول في القصيدة:
هذي فلسطين العزيزة أصبحت      مـغـلـولـة والـــغلّ يسبي الغـيدا
هـذي أساطين السياسة قد بدت      بالغرب، في ثوب الرياء، يهودا
وما حدث في فلسطين، يدعو الشاعر للمقاومة، ليس على الصعيد الشخصي فحسب، بل يدعو الشباب الفلسطيني والشعب الفلسطيني كلّه لمقاومة الاستعمار ومؤامرته، لا بل يدعو الأمّة العربية كلّها للمقاومة، لأنّ “وعد بلفور” هو ليس مؤامرة على فلسطين فحسب، وإنّما على الأمّة العربية كلّها. يظهر ذلك بوضوح في كثير من القصائد، وفي البيت الذي ذكرته سابقا، والذي قاله في استقبال الشاعر خليل مطران:
لا كان “بلفور” وعدا جائرا     منيت به قحطان في الأحشاء
من هذا المنطلق، ومما نجد في قصائده من دعوات متكرّرة للمقاومة، يستحقّ الشاعر محمد على الصالح، وبحقّ، أن يُسمّى شاعر المقاومة.
في قصيدة “الفدائي”، التي أهداها إلى المناضل النابلسي “فريد يعيش” الذي انضم إلى الثورة الكبرى عام 1936، وقبض عليه الانجليز وزجّوا به في السجن، في هذه القصيدة يستفزّ الشاعر أبناء وطنه ويستحثّهم على المقاومة بقوله:
ورايـــــة النـــصر   خــفّـاقــــــة حــيـنـا
إن نُكّست عــــاما    فــــما بهـــــذا عــار
الـــعـار إن نـــام     شعب على استعـمار
وفي قصيدة “دم القسّام”، يُخاطب الشاعر دم القسام قائلا:
افـتـتـــحْ بــالـفـــــــــداء والآلام      منهــج الحـقّ يـا دم القسّام
وَمُـرِ القوم أن يكفّوا عـن القول      فـلم ننتـفع بصــوغ الكــلام
إيــهِ يـا جـند البـغاة غير بعــيد       يومكم مـن مـصارع الأيــام
مطلب الشعب أن يُرى مستقلّا        رافــلا في ســيادة وســـلام
هذه الأبيات المتفرّقة من القصيدة، تُطالب بالخروج للمقاومة، من القول إلى الفعل، ضدّ جنود الاستعمار، ومن أجل استقلال الشعب وسيادته. والشاعر هنا، يوظّف استشهاد القائد عزّ الدين القسّام من أجل ترشيد المقاومة ودفعها في الطريق الصحيح، لتحقّق أهدافها.
للمقاومة قبل النكبة وبعدها، رموز فلسطينية أخرى كثيرة، غير الرمزين المذكورين أعلاه. وقد احتفى الشاعر بكثير منهم في شعره، من خلال رثائه لهم. ولكنّ رثاءه ليس مجرد شعر مناسبات، ولا هو مجرد احتفاء بالمرثي بعد موته. ولا يعني أيضا البكاء والحزن من أجل البكاء والحزن، وإن كانت العبارات لا تخفي حزن الشاعر ومشاعره الفياضة، لأنّه كانت تربطه بالرموز التي يرثيها، علاقات شخصية وأيام نضالية عاشها معهم، بل أكثر من ذلك، فالقصائد تحتفي بمن يرثيهم الشاعر، كرموز للمقاومة، مارسوها ودعوا لها. وهذا يُبرّر احتفاء الشاعر في كثير من شعره، بالميّتين – الشهداء. ذلك لأنّهم جادوا بأنفسهم وكانوا قدوة لغيرهم، فقد دفعوا حياتهم من أجل الوطن ومن أجل صمود أبنائه واستمرارهم في مقاومة مغتصبي أرضهم.
كما أنّ الشاعر، في نضاله فعلا وقولا (شعرا)، حذّر من أطماع الحركة الصهيونية، ومن بيع الأراضي لها. وهذا يعني أنّه كان واعيا لما يحدث على أرض الواقع، وللمؤامرة التي يطبخها الإنجليز وحلفاؤهم: الصهيونية والرجعية العربية، على نار هادئة، لتسحب الأرض تدريجيا من تحت أقدام أصحابها الشرعيين.
في قصيدة “حكومة الطّور”، يُؤكّد أن الصهيونية تغري الناس بالمال لبيع أرضهم، ولذا فهو يُطالب الشعب بالحذر وتجميع الصفوف والتصدّي للمؤامرة، إذ يقول مخاطبا الشعب في أبيات متفرّقة أختارها من القصيدة:
يـا أيّـهـا الشــعـب الكــريم تحـيّة        تُـتـلى … يُـكلّـلـه النســيم زهــورا
قــرّوا عــيونا ثـم طيـبـوا أنفســا       قــوموا إلى جـمع الصفـوف نفـيرا
نيرون هــــل فـعلت يــداك كـهذه       أن بـعـت أرضـا أو كسـرت شعورا
كـــلا ولا جـنكــيـز قـــام بـمــثله        فتصفّحـوا التــاريخ … أو تيمـورا
سحقا لهذا الشعب، يبغي أرضنا        فــي مـالـه سـحـقـا له … ودثــورا
سـنريك يـومـا أسودًا تـلــقى بـه        ســوء المصير … فحـاذر التبذيـرا
وكثيرا ما حذّر الشاعر من “وعد بلفور” واعتبره بيعا شاملا لأرض فلسطين. وما أزعجه أكثر، هو سبات العرب وسكوتهم عن حقّهم، لذلك يحاول في قصيدة “يوم 2 نوفمبر”، (يوم صدور وعد بلفور) أن يوقظهم من سباتهم وينبّههم إلى الضرر الذي يحمله هذا اليوم، وهذا الوعد المشؤوم، بقوله في بعض أبيات متفرّقة في القصيدة:
لا بــــارك الله فــي ذا الــيـوم إنّ بـه       يـا آل قـحطان “وعـدا” بالغ الضّرر
يـا نـسـل عدنـان ما هذا السبات وما       فـــيـكم ألَـمَّ … ألا تشــكـون للضـجر
فـي أيّ شرع تُباع الأرض مـرغَمَة        أصــحابها؟ إنّها، قــومي، مـن العـبر
بيعت فلسطين في ذا اليوم من رجل       قـد أنـكر الحـقّ (بالصمصامة) الذّكـر
الانـتــداب أضـــرّ العـُــــرْب كــلّـهمُ        فـقـاومــوه ولا تخـشــوا أذى الجُــدُر
وجدير بالذكر، أنّ الشاعر كان واعيا منذ البداية، لسياسة “فرّق تسد” البريطانية، وكيف كانت تلك السياسة تلعب على وتر الطائفية لشرخ الوحدة الفلسطينية، الإسلامية المسيحية. ولذلك نراه في قصيدة “زين إخوان الصفا” التي يهديها إلى روح المحامي المجاهد، مصطفى عودة، يُؤكّد على وحدة الوطن ولحمة أبنائه، مسلمين ومسيحيين. يقول في بعض أبياتها:
وطـن عشـنا عـلى تـقـديسـه        وعـن التقديس لـن ننحرفا
إخوة في الوطن الغالي وكم       عـانق الشـيخ أخـاه الأسقـفا
وانتشى الأهلون زهوا حينما      قبّل الإنجـيل فـيه المصحــفا
في هذه الأبيات، وغيرها الكثير من قصائد الديوان، تتجلّى روح التسامح الديني ونبذ التعصّب والفرقة، بثّها القائد المناضل، عزّ الدين القسّام، بين جنوده، وبين الفلسطينيين عامة، في مقولته الشهيرة: “الدين لله والوطن للجميع”.
هناك بعد آخر شديد الأهمية في شعر محمد علي الصالح. وهو أيضا، يصبّ في خانة المقاومة. إنّه البعد التربوي والتنويري. فقد عمل الشاعر فترة طويلة من عمره كمدرس للغة العربية. وقد استغلّ عمله لتنوير طلابه وتربيتهم على حبّ الوطن ومقاومة أعدائه والنضال من أجل وحدته واستقلاله. وقد كان يستغلّ المنابر في المدارس، وفي المناسبات الوطنية المختلفة، ليلقي قصائده التي كانت تنوّر الطلاب وتلهب مشاعرهم وتستفزّهم للمقاومة. ولا عجب أنّ الشاعر الفلسطيني المناضل، عبد الناصر صالح، الذي قضى في سجون الاحتلال بضع سنوات على فترات متقطّعة، هو نجل الشاعر وتلميذه.
يقول الشاعر في مقطع من قصيدة بعنوان “أزِفَ الرحيل”:
وَشَعَرْتُ أنّي حامِلٌ في أَضْلُعــي         عِبْــئاً تُكَـرْدِسُهُ الهــمومُ ثَـقـيــلا
أَمُهَـذّبَ الأَرْواحِ في كَـنَفِ الذي          فَـطَـرَ المُـعَلّمَ كَـيْ يكــونَ دَلــيلا
جَدَّدْتَ فـي أحـيائـِنا مـجـداً ذَوى          وَغَرَسْتَ مـا بينَ القُلوبِ جَميلا
عَلَّمْـتَـنا حُـبَّ الفضـيلةِ والــعُـلا           لـنُـعــيدَ عِـــزّاً للـــبلادِ أَثــيـــلا
فانْـظُـرْ لِغَـرْسِ يَـديْـكَ قـد أنْبَـتَّهُ           زَهْراً سيصبح مُثْمِراً وَحـمَـولا
عَـلَّـمْــتَهُ حُــبَّ الــبلادِ فَـهـاكَــهُ           كَـلِـفٌ بِحُــبِّ بــلادِهِ مَشْــغــولا
في هذه الأبيات، يُخاطب الشاعر المعلم، مهذّب الأرواح، ويُؤكّد على رسالته الوطنية والتربوية التي يحملها المعلم عامة، والمعلم الفلسطيني خاصة، وكذلك الشاعر نفسه وما يُخالجه من شعور بثقل المسؤولية التي يحملها على عاتقه تجاه مستقبل فلسطين، ومستقبل أجيالها.
في قصيدة “ليلى وبلفور”، تظهر بوضوح، نتائج التربية الوطنية التي يُقدّمها الشاعر وغيره من المعلمين الوطنيين لطلابهم. يقول في أحد ابياتها:
غرف التدريس تغلي غضبا     واعتقادات بنيها كالشّـرر
 وهناك أبيات ما زالت معانيها قائمة، حيّة تنبض حتى اليوم. دعا فيها الشاعر، وما زالت الأبيات نفسها تدعو إلى نهوض الشعب والأمّة من السبات، وإلى اعتماد العلم طريقا للنهوض والكفاح. يقول في قصيدة “حكومة الطّور” المذكورة أعلاه:
يكــفي ســباتا قــد هـجـعـنا مـدّة       قـرنا، ونمـنا أعصرًا وشهـورا
فلنسـتـفـق مـن غـفـلة متـنا بها       دهرا، فـنادوا في البلاد نشورا
سيروا إلى العلم الذي نسمو به       للفرقدين … وأفصحوا التعبيرا
ولم تكتمل الصورة بعد. فالشاعر، وإن كان يدعو للموت من أجل الوطن وعزّته وكرامته، فدعوته تلك، ليست دعوة استسلامية أو متعصّبة، وإنّما هي دعوة للحياة بقدر ما هي دعوة للموت من أجلها. ولذلك نجد الشاعر لا يتنازل عن حقّه في الحبّ والحياة على الصعيد الشخصي والوطني. ويظهر ذلك بجلاء في غزليّاته التي قد تكون المحبوبة التي يتغزل بها، محبوبة شخصية له. وقد تكون محبوبة جمعية، بمعنى أنّها تحيل إلى الوطن، تمثّل جمال فلسطين وموقعها في قلب الشاعر، وقلوب أبنائها جميعا.
على المستوى الشخصي، يُعيدنا الشاعر في قصيدة “لقاء”، إلى الأجواء الأندلسية وموشحاتها المفعمة بالحبّ والموسيقى والخمر وجمال الطبيعة. يُطلعنا بجرأة على قصة لقائه مع محبوبته. وقد أنهى اللقاء والقصيدة بالأبيات التالية:
وعـانـقـته والعـيون التـقـت        ورأسه مــالـت إلــى راسـي
فقلت: هــل تمنحني قُـــبلة؟        قـال: هــل في ذاك من باسِ
فذقت من ظلمِهِ على شغف        ألـذّ مــن صهـباء فـي الكاسِ
لـو خالطت دمــاء ذي سـقم        ما احتاج من بعدها إلى آسِ
أمّا على صعيد الغزل بالمحبوبة التي تمثّل فلسطين، فلنا في قصيدة “اذكريني” (ص 115)، نموذج جيّد. ففي هذه القصيدة يبدو الشاعر كمن يتغنى بمحاسن محبوبته التي قست عليه وهجرته، وهو لا قدرة له على نسيانها والبعد عنها. تتكوّن القصيدة من ستّة مقاطع، يُنهي الشاعر كل واحد منها، بعبارة “اذكريني يا فلسطين اذكري”، مما يُزيل أيّ شكّ بأنّ المحبوبة هنا، هي فلسطين التي اغتصبت منه، وشُرّد منها قسرا.
وفي الختام، وخاصة بعد أن بلغنا “مرافئ العمر”، وصدر الديوان، لا يسعني إلّا أن أضمّ صوتي إلى صوت الناقد عزيز العصا، وأطالب الجهات المختصّة في السلطة الفلسطينية، أن تعتمد قصائد المرحوم، الشاعر محمد علي الصالح، في منهاج التربية والتعليم الفلسطيني، ضمن منهاج اللغة العربية وآدابها. فالقصائد وشاعرها يستحقّان هذا التكريم، وأجيالنا تستحقّ أن تتلمذ على مثل هذا التراث الأدبي الوطني النابض بحبّ فلسطين، والحامل لتاريخها وتراثها وهمّها. أنّهم يستحقّون أن يتتلمذوا على مثل تلك القامات الأدبية النضالية التي ما زالت منتصبة القامة تشارك في المعركة، حتى بعد رحيلها.


[1]. محمد علي الصالح، مرافئ العمر، القدس: دار الجندي، 2016.
[2]. عزيز العصا. “محمد علي الصالح: كرميٌ – مقدسيٌ ... دافع عن فلسطين بالقصيدة والبندقية” (2014)،  ضمن:     
     محمد علي الصالح، مرافئ العمر، القدس: دار الجندي، 2016. ص 179-206.
[3] . عبد الناصر صالح. المجد ينحنيأمامكم، القدس: منشورات اتحاد الكتّاب الفلسطينيين، 1989.
[4]. عزيز العصا. “محمد علي الصالح: كرميٌ – مقدسيٌ ... دافع عن فلسطين بالقصيدة والبندقية” (2014)،  ضمن: محمد علي الصالح، مرافئ العمر، القدس: دار الجندي، 2016. ص 179-206.

By د. محمد هيبي

أستاذ اللغة العربية، كاتب وناقد أدبي. ولد في 5/3/1952 في قرية كابول، في الجليل الغربي، القريبة من "ميعار" المهجرة، مسقط رأس والده الشاعر الشعبي الفلسطيني، أحمد محمد هيبي (المعروف بالكشّوع أو أبو عصام الميعاري). هُدِمت ميعار وشُرّد أهلها في النكبة الفلسطينية عام 1948.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *