قراءة في روايتين ومجموعة قصص قصيرة.[1]
مقدمة
الكتابة، وما فيها من إثارة، تجذبنا، فنتهافت عليها كما يتهافت الفراش على النور، رغم معرفتنا المسبقة بأننا معرّضون للاحتراق بنار لا ترحم. ولكن، أين المفرّ؟ فإذا تولّدت لدينا فكرة أو مجموعة من الأفكار هي أيضا تظلّ تضغط بلا رحمة ولا سبيل إلى الخلاص منها إلا بالكتابة. والأمر ينطوي في كثير من الأحيان على كثير من الجرأة والشجاعة. وهذه الجرأة وتلك الشجاعة لا شكّ أنهما ستكونان أضعافا مضاعفة عند كاتب مثل عدنان عباس، وعند الكتابة عنه كذلك.
عدنان عباس، ابن (أم الفحم)، القرية الفلسطينية التي أصبحت اليوم مدينة، كاتب فلسطيني يمكن اعتباره نموذجا للكاتب العامل الذي ثـقّـف نفسه بنفسه، إذ ترك مقاعد الدراسة مبكرا بسبب سوء الحالة الاقتصادية ومن أجل مساعدة عائلته في تأمين لقمة العيش الكريم. فهو، وكما قيل عنه، كاتب عامل أو عامل كاتب، يتحلّى بقدر كبير من الجرأة والشجاعة، ما دفعه إلى خوض التجربة رغم كل ما فيها من مخاطر، فأخرج ما عنده بلا خوف. ورغم محدودية اللغة والثقافة فقد وظّف ما لديه منهما بشكل يدلّ على حكمة التصرّف إذا شحّت الموارد. وما يؤكّد شجاعة هذا الكاتب وجرأته هو التزامه التامّ، في كل أعماله، بأفكاره الشيوعية وبقضايا طبقته الكادحة ومجتمعه وشعبه الفلسطيني وكذلك تمسكه بمبادئه الإنسانية.
ولد عدنان عباس عام 1949 وتربّى في أجواء وصعوبات ومتاهات ما بعد النكبة (1948)، ولكنه ظلّ صامدا منتصب القامة لم ينحن للعواصف التي هدفت إلى ترسيخ النكبة وقتل حقوق شعبها، شعبنا، الشعب الفلسطيني. وقد عاش وعايش قضايا الطبقة التي ينتمي إليها، طبقة العمال الكادحين الذين يكافحون من أجل لقمة العيش وظلّ ملتزما بقضاياها. والتزم كذلك بقضايا انتمائه السياسي والاجتماعي كشيوعيّ ينحاز لفئة المقهورين يدافع عنهم، وينتصر لهم ويصبّ جامّ غضبه وحقده الطبقي على أعدائهم، أعداء الحياة.
أصدر عدنان عباس حتى الآن ثلاثة أعمال أدبية هي:
·         “أشباح في قرية العمالقة” مجموعة قصص قصيرة: طبعة أولى، 1989. وثانية، 2008.
·         “البحر والغضب” رواية: طبعة أولى 1996، وثانية، 2008.
·         “السماء تمطر الياسمين” رواية، 2007.
ما ترمي إليه هذه الدراسة هو التعريف بالكاتب، لقلّة ما كُتِب عنه، وذلك من خلال استعراض سريع لكل أعماله المذكورة أعلاه من قصص قصيرة وروايات، على المستويين الدلالي والفنّي، وستشير بشكل موجز أيضا إلى “أزمة البحث عن بطل” التي لازمت الكاتب في كل قصصه القصيرة، وفي روايَتَيْه، ذلك البطل الذي حاول الكاتب خلقه كصورة للإنسان الفلسطيني الذي عاش النكبة وظلّ يكابد متاهات ما بعدها، أمّا كأقلية قوميّة في الوطن تكابد هموم بقائها اليومي والقومي من خلال صمودها في أرضها، وإما كمحتلّ لم تتوانَ يده عن ملاطمة مخرز الاحتلال، وإمّا كمشرّد ظلّ يحلم بالعودة مهما طال شتاته.
* * * * *
سأستعرض فيما يلي، قصص مجموعة “أشباح في قرية العمالقة” ثم رواية “البحر والغضب” وسأترك رواية “السماء تمطر الياسمين” إلى فصل لاحق من هذه الدراسة لاختلافها وتميّزها، من حيث الدلالة والبناء وزمن الكتابة، عن النصوص الأخرى.
مجموعة “أشباح في قرية العمالقة”
المجموعة القصصية “أشباح في قرية العمالقة”، باكورة أعمال الكاتب هي مجموعة قصص قصيرة وتحمل عنوان إحدى قصصها، صدرت بطبعتها الأولى عام 1989 والثانية أوائل العام 2008، تضم اثنتي عشرة قصة كتبت ما بين الأعوام 1976 و1988.
في قصص المجموعة كلها وكذلك في رواية “البحر والغضب” يتميّز عدنان عباس بأمرين مهميْن: الأول يتعلق بمضمون النص ودلالاته المختلفة. والثاني بشكل النص وجمالية بنائه. أما الأول والذي يتعلق بمضمون النص ودلالاته المختلفة، فهو جليّ واضح في كل قصة من قصص المجموعة، وكذلك في الرواية، حيث يظهر الكاتب التزامه، كما ذكرت، بقضايا شعبه وطبقته وانتمائه السياسي والاجتماعي وانحيازه لفئة المقهورين ضد القاهرين والمستغلّين. وكشيوعي حاول في كل قصة من قصصه، ومن خلال شخصياته المختلفة، الانتصار للفئات المظلومة عامة وفي مجتمعه خاصة.
وأما الأمر الثاني، والذي يتعلق بشكل النص وجمالية بنائه، إنما هو تماسك الحبكة والتطور المنطقي للأحداث من جهة، وقدرة الكاتب على رسم شخصياته وتحديد سماتها ومعالمها، من جهة أخرى، سواء كان ذلك عن طريق الوصف المباشر أو غير المباشر أو عن طريق الحوار الذي جاء على لسان تلك الشخصيات. وقد نجح عدنان عباس في تقديم شخصيات يتفاعل معها القارئ سواء كان ذلك بالوقوف إلى جانبها والتعاطف مع سلوكها وأهدافها، أو بالخروج ضدّها ومقت تصرفاتها ومساعدة الكاتب في البحث عن طرق للتخلّص منها.
سأستعرض قصص المجموعة حسب ترتيبها فيها:
سهرة عرس
هي أولى قصص المجموعة، كتبها في نيسان 1984، وهي تحكي قصة مجدي الشاب العامل الفقير البسيط الذي يحبه الناس ويثقون به لأنه يحبهم ولا يخذلهم عند حاجتهم إليه كما يبدو ذلك واضحا في المشهد التالي: “يتقدم أبو سالم من مجدي، يضع يده على كتفه ويقول له بصوت هامس: “حبيبي يا مجدي الليلة ليلتك”. فيجيبه “عند عيونك يا عم”. (مجموعة أشباح في قرية العمالقة، ص 14). هذا الشاب الذي، وكما يعترف “أمضيت حياتي كلها أمشي الحيط الحيط وأقول يا ربي السترة” (المجموعة، ص 20)، بمعنى أنه كان دائما بعيدا عن السياسة والعمل الوطني ولا يقلقه إلا لقمة العيش والزواج من نايفة، التي يمنّي نفسه بها من سنين ولا يستطيع التقدم لها بسبب أحواله المادية، هذا الشاب الساذج الذي يعتقد أنّ الشرطة اعتقلته لعدم دفعه ضريبة الدخل، وما يلبث أن يكتشف أن صديق عمره، صالح ابن المختار، الذي بدأ يتعالى عليه وعلى أهل بلده، لأنه ابن مختار ولأنه يدرس الحقوق في الجامعة، يكتشف أنه وشى به لدى الشرطة، بتهمة الغناء في الأفراح أغاني وطنية يحرّض بها الناس. هذا الأمر جعله يريد أن يكون مثل أبي سالم أي أن يشارك في العمل الوطني.
شخصية مجدي في هذه القصة هي نموذج لشخصية البطل الذي يغيّر أهدافه المعلنة في بداية القصة ويعلن غيرها في نهايتها مما يؤكد أن شخصية البطل في هذه القصة تتفاعل مع الأحداث وتتطور وتنمو معها وتتغيّر بتأثيرها.
إنسان
كتبها في تشرين ثاني عام 1987، وتدور أحداثها في إحدى ورشات العمل (العمار أو البناء) في أحد أحياء إحدى المدن الإسرائيلية. أبطال القصة، العم رشيد ومجموعة من الشباب العمال، كنموذج لكثير من مجموعات العمال العرب الذين يعملون في البناء بعيدا عن أماكن سكناهم لذلك يضطرون للمبيت في مكان عملهم ولا يستأجرون غرفة في الحي القريب من مكان عملهم توفيرا لأجرة السكن وتفاديا للاحتكاك المباشر مع السكان اليهود الذين، في أغلب الأحيان، ينظرون إلى العربي على أنه مخرب ولذلك فهو محاصر دائما ومهدّد من قبل المجموعات العنصرية من جهة، ومهدّد بالاعتقال والتعذيب من قبل السلطة المتمثلة بالشرطة من جهة أخرى، ولا يشفع له كل ما يبديه من إنسانية وحسن تصرف.
العم رشيد
العامل العربي الفلسطيني الكادح والنشيط والذي ما زال يتمتع بروح الشباب ومرحهم رغم تقدّمه في السن، وما حبّه للمرأة إلا تعبير واضح عن حبّه للحياة، رغم تجربته المريرة ومعاناته جراء العنصرية وظلم السلطة لم يفقد إنسانيته ولم تمنعه هذه المعاناة من إنقاذ “ناحوم” الطفل اليهودي الذي تعرّض لخطر الموت. والأهم من ذلك أنه ظلّ مصرّا على أنه على استعداد لإنقاذ “ناحوم” ثانية حتى بعد أن علم أن “أبا ناحوم” هو الذي أطلق عليه الرصاص عندما هاجمت الشرطة، ومعها العنصريون، مجموعته في مكان عملهم، مؤكدا بذلك أنّه إنسان ولن يتخلى عن إنسانيته مهما حدث، ولن يتوانى، من منطلق إنساني، عن إنقاذ أيّ إنسان حتى لو كان ألدّ أعدائه.
العم رشيد نموذج آخر للبطل الذي يبحث عنه عدنان عباس ليس على المستوى الفلسطيني فقط، وإنما على المستوى الإنساني عامة. وقد أصاب الكاتب، لغة ودلالة، في اختياره للعم رشيد، الصفة والاسم، العامل العربي الفلسطيني المتقدم بالسن، الراشد المرشد، إذ أنّ هذا الاختيار ما هو إلا تعبير عن أن التجربة والخبرة الإنسانية التي تؤكد تجذّر الصفات الإنسانية وأصالتها في الإنسان العامل الكادح بصفة عامة، وفي الإنسان الفلسطيني بصفة خاصة.
“موعد مع الشمس”
في هذه القصة، التي كتبها في نيسان، 1982، يخسر وليد مكان عمله لا لذنب إلا لأنّه نصير زملائه العمال. وخسارته لا تغسل البسمة عن شفتيه ولا التفاؤل من عقله وقلبه، بأنه لا بدّ سيجد عملا آخر، ليس له فقط وإنما لـ “داليا” كذلك، تلك الفتاة البائسة التي قابلها على الشاطئ فقاسمها كوخه وفراشه ولقمة الخبز. وليد، الذي لا ييأس مهما حلكت الدنيا، لا ينسى حقّ أهله عليه ولا حقّ إخوته العمال المسحوقين والناس البؤساء بشكل عام. كل هؤلاء هم أهله الذين يجوع ليطعمهم ويضحي بكل شيء لينتصر لهم.
لا يذكر الكاتب ما إذا كانت “داليا” يهودية أم عربية، ومن خلال رسمه لشخصيتها يبدو لك أنها يمكن أن تكون هذه أو تلك. هذا الأمر يؤكد إنسانية أبطال عدنان عباس ونظرتهم للإنسان من حيث هو إنسان، وأن بؤس البؤساء رابط أقوى من العِرْق والجنس.
الصاري
كتبها في تشرين ثاني، 1981، في هذه القصة، محمد وصديقاه مارسيل وأمين يشترون مركبا ليعبّروا بذلك عن توقهم، وتوق الطبقة العاملة التاريخي، التخلص من تسلّط أصحاب العمل واستغلالهم. ولكن المهمة ليست بهذه السهولة، فالحياة مليئة بما يتربّص للضعفاء المسحوقين. فما أن يخرج الثلاثة في أول رحلة عمل لهم، وبعد أن خدعتهم نشرة الأحوال الجوية، حتى يفاجئهم “النو” (الهياج المفاجئ للبحر) ويبدأ الصراع مع البحر والأمواج العاتية وتنتهي الرحلة بفقدان أمين وتحطّم مقدمة المركب بعد اصطدامه بصخور الشاطئ. ولكن المثير للاهتمام في القصة هو أن محمد بعد أن أفاق من هول ما شهد، توجّه للمركب ليطمئنّ بأن “المحرك بخير والصاري (كذلك) ما زال منتصبا كالمارد الجبار هازئا بالبحر ومدّه. (المجموعة، ص 57).
فإذا كان البحر هو الحياة، والنو هو ما فيها من نوائب ومفاجآت تسدّ علينا طريق تقدّمنا، إذ ليس أصحاب العمل وجشعهم واستغلالهم هم الأعداء الوحيدون للعمال الضعفاء المسحوقين، فلا بدّ لهؤلاء الضعفاء المسحوقين من محرك يجب إلا يصيبه العطب ومن صارٍ يرتفع عليه علمهم الذي يجب إلا ينكّس مهما كانت الشدائد.
هؤلاء إخوتي
كتبها في تشرين ثاني، 1986. فيها يستعرض فهد الغدار، من خلال الاسترجاع، عندما استقرّ على سريره في إحدى غرف السجن التي زُجّ فيها بعد اعتقاله، يستعرض حياته البائسة العنيفة التي حقد فيها على الناس، ماعدا أمه وخاله فارس الذي كان يتفهّمه ويساعده ويعلّمه من تجربته ويهديه إلى حب الناس البؤساء أمثاله، فأصبحت أقوال الخال هي التعويذة التي منعته من السقوط. ثم يحدثنا عن ظروف سجنه هذه المرة وكيف دافع عن إخوته العمال، وأشبع صاحب العمل ضربا وركلا، وأرغمه على دفع معاشاتهم. في السجن أيضا يدافع عن كرامته فهو عنيد، كالبغل، لا يرضى بهوان يراد له أو لإخوته العمال، وقد فشلت معه كل محاولات الإغراء من قِبل الساقطين من القوادين وتجّار المخدّرات، ومحاولات الترويض من قِبل رجال الشرطة. فشلت محاولات كلّ من أرادوا له السقوط، وقد ظلّ صامدا إرضاءً لخاله فارس وتعاليمه التي تمثل المرتكز الفكري والأخلاقي الذي ارتكز عليه البطل وكذلك الكاتب.
حياة
كتبها في أيّار، 1984. وهي صورة من الحياة، تعكس من جهة الواقع المرير الذي يعيشه “طارق”، العامل المنكوب بالبطالة الذي لا يملك قوت يومه ولا نقودا لأخذ طفلته إلى الطبيب. ومن جهة أخرى، تعكس شهامة ابن البلد الذي يمثله أبو العبد، كما سنرى، والذي يأبى أن يترك ابن بلده فريسة للمرض والعوز.
يعود طارق إلى البيت منتصف الليل ليجد زوجته تحمل طفلته المريضة وتنتظره ليأخذها إلى الطبيب الذي يسكن في الطرف الآخر للقرية. يحمل طارق الطفلة ويخرج تحت المطر، لأن حرارتها المرتفعة لا تحتمل الانتظار. يشتدّ المطر فيتقيه طارق بالوقوف في ظلّ بيت أبي العبد الذي يخرج، أثناء تردّد طارق بطرق الباب، ثمّ ينقله بسيارته إلى الطبيب ويدفع أجرته كذلك. زد على ذلك وفي الطريق إلى الطبيب فقد أخبر أبو العبد طارقا أنه ترك له خبرا اليوم لدى زوجته، إذ لم يجده في البيت، بمباشرته العمل معه ابتداء من صباح الغد، الأمر الذي يجعل طارقا يشعر بإشراق داخلي يتمثّل بشعوره أنّ الطفلة بدأت حالتها الصحية تتحسن.
في هذه القصة، وجود الطبيب في الطرف الآخر للقرية يرفع من رصيد نجاحات عدنان عباس، لغة ودلالة وبناء. من حيث اللغة فالطرف الآخر هو ليس مجرد مكان في القرية وإنما دلالة واضحة على الأطراف المختلفة التي تتصارع في المجتمع. من حيث المكان فهو دليل آخر على قدرة الكاتب على اختيار المكان المناسب ليس كمكان ببعده الجغرافي فقط وإنما كمكان بأبعاده المختلفة، وقد وُظِّف هنا كآلية تساعده على التعبير عن أفكاره. أمّا من حيث الدلالة فالطرف الآخر هنا يمكن أن نشير بواسطته إلى أكثر من دلالة، وعلى سبيل المثال: يمكن أن نشير به إلى المكان الجغرافي المجرد، أو إلى صعوبة وصول الفقراء المسحوقين أمثال طارق إلى الطبيب، وأبعد من ذلك يمكن أن يشكّل الهوة التي تفصل بين العمال الكادحين المسحوقين وبين فئة أو شريحة المثقفين في المجتمع.
حياتكم الباقية
كتبها في أيار، 1985). وفيها، المختار المصاب بالشلل النصفي يعترف، قبيل موته ومن خلال الاسترجاع والمونولوج الداخلي، بأعماله المخزية من ظلمٍ للفلاحين وعمالةٍ للسلطة: الاستعمار البريطاني سابقا والسلطة الإسرائيلية لاحقا. ولكن ربما الأهم من ذلك، اعترافه أن تعاونه مع السلطة وكل المحاولات التي قام بها منفردا أو مع السلطة مثل السجن والاعتقال لم تنجح في ثني الشباب الوطنيين والشيوعيين عن أعمالهم ولا حتى عن اجتماعاتهم في عقر داره إذ أنّ ابنه فريدا كان واحدا منهم.
من الواضح أن رسم شخصية المختار بهذا الشكل هو أمر له دلالاته. فكونه مشلولا عاجزا يمكن أن يشير إلى أمرين: الأول ما سبق وذكرناه من عجزه عن إعاقة مسيرة النضال الوطني، والثاني هو أن هذا المصير هو المصير الذي ينتظر كل العملاء أمثاله، أولئك الذين فعلوا كل الموبقات وبرروها بأنّهم إنما فعلوا ذلك لحماية مصالحهم ومصالح الناس. ولا شكّ أن موت الشيخ هو النهاية الحتمية التي يريدها الكاتب له ولكل أمثاله.
صمود حتى الموت
كتبها في حزيران، 1976. وهي أول قصة قصيرة كتبها ونشرها الكاتب عدنان عباس. القصة تروي ميلاد شيوعي آخر، شاب ملّ عزلته التي عاشها وبُعده عن العمل الجماهيري والوطني. كغيره من الشباب الشرفاء الذين يتمتعون بحسّ وطني وبوعي لمشاكلهم ومشاكل مجتمعهم، عاشر الشيوعيين وأحترم طريقهم رغم أنه لم يكن واحدا منهم، إلا أنّ أحداث “يوم الأرض” ألقت به في آتون الصراع مع مغتصبي الأرض وفجرت عناده الذي يماثل عناد الشيوعيين فقرر الانضمام، بفخر واعتزاز، إلى صفوف الحزب الشيوعي حيّا أو ميّتا بعد إصابَتِه برصاصة في إحدى مظاهرات يوم الأرض.
البطل في هذه القصة واضح المعالم يقف من ورائه الكاتب برضىً تام، يدفعه ويسدد خطاه ولا غرابة إذا رأينا فيه، عدنان عباس نفسه. هذه كانت بداية عدنان عباس كمناضل وككاتب، وقد كانت بداية موفقة جدا، يمكن أن نرى النجاح فيها ينسحب على معظم قصصه التي أصدرها في مجموعته القصصية التي نحن بصددها.
أمــل
لم يذكر تاريخ كتابتها، غالبا لأنها لم تنشر في صحيفة ما. وهي قصة المعاناة اليومية لعامل بسيط مسحوق في طريقه اليومي إلى مكان عمله. هذا العامل المهدد الذي يحمل دمه على راحته سعيا وراء لقمة العيش. العامل المهدّد من مخاطر الطريق ومهانات الحواجز العسكرية وسخرية أرباب العمل واستغلالهم. هذا العامل الذي لا يدري بعد خروجه من بيته، هل سيعود إليه أو إلى المستشفى أو إلى القبر؟! ولكن، كل هذه المعاناة لا تفقده الأمل الذي يتمنى تحقيقه. وفي حالة بطل قصتنا يتمثل هذا الأمل برؤية ابنه “أمل” الذي يدرس الطب، رؤيته طبيبا يسعفه في المستشفى، في مرضه وفي حياته بشكل عام. وإلى أن يتحقق هذا الأمل لا يكف هذا العامل البسيط المسحوق عن التأرجح بين الواقع والخيال. من جهة، واقعه المتمثل بمعاناته اليومية وبملابسه التي لا تكفل له الدفء، وبزوجته التي تركها في البيت تئن من الألم وتصبر عليه لأن لا سبيل إلى العلاج بسبب تكاليفه الباهظة التي يتعذّر عليه توفيرها بسبب ديونه المتراكمة. ومن جهة أخرى، الخيال المتمثل في حياة هادئة “حيث يكون الدفء الحقيقي والشبع والكساء في تلك البيوت المرتفعة التي عادة ما يكون لها سلالم من الرخام الأبيض ولها بوابات حديدية كبيرة محاطة بأسوار من الزهور الجميلة والأشجار دائمة الاخضرار”. (المجموعة، 106).
البطل في هذه القصة، وبرغم القيد المتمثل بقفص الجبص الذي يطوّق جسده، لا يكفّ عن الإيمان بأنّ الشمس لا بدّ ستشرق وبأنّ ابنه، أمله، سيأتي مع طلوع شمس يوم جديد.
من الواضح، في رأيي، أنّ هذه القصة تحكي إرهاصات الانتفاضة وتتنبأ بميلادها، لما هنالك من تشابه بين الحادث الذي وقع في القصة بين السيارة التي تقلّ العمال وسيارة عسكرية، وبين مداهمة شاحنة عسكرية تابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي لإحدى الحافلات التي كانت تقلّ العمال الفلسطينيين من أماكن عملهم، في إسرائيل، العائدة مساءً الى قطاع غزة المحتل، وهي على وشك القيام بوقفتها اليومية المقيتة أمام الحاجز الإسرائيلي للتفتيش، الأمر الذي أدى الى استشهاد أربعة عمال وجرح سبعة آخرين (من سكان مخيم جباليا في قطاع غزة)، ولاذ سائق الشاحنة العسكرية الإسرائيلية بالفرار على مرأى من جنود الحاجز، وعلى أثر ذلك اندلع بركان الغضب الشعبي صباح اليوم التالي من مخيم جباليا حيث يقطن أهالي الضحايا الأبرياء ليشمل قطاع غزة برمته، وتتردد أصداؤه بعنف أيضاً في الضفة الغربية المحتلة. هذه الحادثة في كانون الأول 1987 هي السبب المباشر الذي أشعل فتيل الانتفاضة، بعد تراكمات عشرين عاما من الاحتلال وما يرافقه من ظلم واستغلال ومحاولات لإذلال الشعب الفلسطيني.
أشباح في قرية العمالقة
كتبها في حزيران، 1986.
“وخرجنا من ظلمة الكهف إلى النور …” (المجموعة، 126)، بهذه العبارة التي ينهي بها الكاتب القصة، والتي تحمل من الكثافة ما يشير بوضوح إلى ما يصبو إليه كل مناضل شيوعي ووطنيّ مخلص، حيث يرى نفسه وبحق عملاقا أمام العملاء، وأمام أولئك الأقزام الدجالين الذين يخدمون بدجلهم أسيادهم الأشباح ويسلّطون سوط عذابهم واستغلالهم على رقاب أبناء شعبهم البسطاء الكادحين.
باسل، بطل القصة، منذ طفولته بدأ يلاحظ التصرفات غير الطبيعية التي يقوم بها “أبو الخير” الذي يبدو في ظاهره الخير للناس ولكنه في الحقيقة السبب الحقيقي لطول ليلهم ودوام معاناتهم إلى أن سلّط الله عليه فكر العمالقة ووعيهم فأخذ بالتراجع والاضمحلال إلى أن أصبح قزما لا يطاول أحذيتهم بعد ما كان أطول رجال القرية.
القصة تمثل الصراع بين الفكر الواعي الذي يحمله ويمثله البطل، باسل، ومن ورائه الكاتب، عدنان عباس، وبين الفكر الرجعي الذي يحمله ويمثله “أبو الخير”. وتؤكد هذه القصة أنه لا بدّ للفكر الواعي أن ينتصر إذا ما تجنّد له المؤمنون به وجنّدوا الناس من حولهم بواسطة فضح العملاء والدجالين وأساليب دجلهم وعمالتهم واستغلالهم للبسطاء.
من خلال علاقة كلّ من باسل، البطل، من جهة، والشيخ “أبو الخير” من جهة أخرى، بصفاء ابنة الشيخ نرى الفرق بين تعامل الفكر الواعي مع المرأة كشريك، له ما لنا وعليه ما علينا، وبين تعامل الفكر الرجعي الذي يحرمها من أبسط حقوقها الطبيعية والشرعية. الأول يظهر من خلال حب باسل لصفاء ولعبه معها وبغضه للشيخ الذي يضربها ويهينها، وكذلك من خلال وقوفها إلى جانبه في معركته ضد الأشباح. والثاني يظهر من خلال منع صفاء من اللعب مع أترابها وخاصة الذكور، ومن خلال ضرب الشيخ لها وإهانتها رغم كونها ابنته لدرجة أصبح الناس يشكّون في أبوّته لها.
فرحة ميلاد
كتبها في أيلول، 1988. من الملاحظ أنّه مضت فقط بضعة أشهر بين كتابة هذه القصة وبين تفجّر الانتفاضة في الثامن من كانون الأول 1987. فؤاد عامل شيوعي من فلسطينيي الداخل يعمل في ورشة بناء مع عمال فلسطينيين من غزة المحتلة، يتعرّف عبر محادثاته معهم ومن ثمّ عبر التراسل، على “أبو السعد” الشيوعي رفيق دربه. يقوم فؤاد بزيارة غزة بدعوة من رفيقه “أبو السعد” ويكابد طريق الآلام التي يكابدها يوميا العمال الفلسطينيون من وإلى غزة عبر معبر “أيرز” وغيره من معابر الاحتلال. لا يرى فؤاد مضيفه “أبو السعد” الذي يستشهد، يوم وصوله إلى غزة، في معركة من معارك الانتفاضة مع الجيش الإسرائيلي، ولكن ما حدث وما يحدث يجعل فؤادا يشارك في الانتفاضة ويصاب فيلتقي مع رجاء أبنة “أبو السعد” التي يعرف عنها كل شيء من خلال مراسلاته مع أبيها، ويكتشف انها تعرف عنه كلّ شيء كذلك من خلال ابيها الذي كان يقص عليها كل شيء.
في القصة يسترجع الكاتب قصة جوليات الفلسطيني مع داود ويحاول أن يعيد له صورته الحقيقية فهو، بعكس ما يحلو لأعدائه أن يصوّروه، أنسان لا يقتل الأطفال كما يفعلون. ويرى الكاتب أنّ جوليات سوف يولد من جديد في غزة وسيكون أعظم عندما يولد كثمرة للتلاحم بين شقيّ الشعب الواحد المتمثل من جهة، بزيارة فؤاد لغزة ومشاركة أهلها في انتفاضتهم، ومن أخرى، باللقاء بينه وبين رجاء ابنة رفيق دربه “أبو السعد”، ذلك اللقاء الذي طغت عليه المشاعر الإنسانية التي تدفقت لدى كل من فؤاد ورجاء تعبيرا عن ضرورة التلاحم بين شقّي الشعب الفلسطيني في الداخل والأرض المحتلة. ولعل لاختيار الاسماء دلالته إذ ما نفع الرجاء إذا لم يكن الفؤاد منبعه وموطنه؟!
جزيرتنا وسمك القرش
القصة الأخيرة في المجموعة، وهي أيضا بدون تاريخ. وهي تروي قصة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي منذ النكبة حتى انتفاضة الحجارة عام 1987. بعد فشل البحّارة / الشعب الفلسطيني في مواجهة سمك القرش / إسرائيل، يقرر أطفال الشعب الفلسطيني مواجهة سمك القرش بالحجارة / انتفاضة الحجارة، مما يؤكّد على استمرارية النضال حتى يتراجع سمك القرش ويفرح الفلسطيني بحل عادل لقضيته.
رواية “البحر والغضب” (1996)
رغم كثرة ما في الرواية من أخطاء لغوية، إلّا أنها تشكّل دليلا آخر على قدرات عدنان عباس. إنها قصة “ماجد شامل” / الإنسان الفلسطيني / شاب في العشرينات من عمره، شرّدته النكبة من مدينته، يافا، التي ولد ونشأ فيها، إلى مدينة أخرى هي حيفا، فأبى إلا أن يعود إلى يافا، بحجة البحث عن عمل، عودة السمك الذي لا يستطيع العيش خارج الماء، حتى وإن كان من المشردين داخل الوطن.
في الباص، من حيفا إلى يافا، تعرّف على “زينب” التي ترك جمالها أثرا في نفسه، وترك هو أثره عليها فتركت له عنوانها.
في يافا استقبلته زوجة صديقه كمال التي أبلغته أنّ كمالا معتقل بسبب مواقفه السياسية ودعت العم أمين لاستقباله، وهذا بدوره هيّأ له شقّة للسكن وعرّفه على طبيعة المكان الذي يكثر فيه اللصوص والقوّادون وتجار المخدرات، الأمر الذي يعبّر عن الواقع الاجتماعي المحزن الذي آلت إلية المدينة في سنوات ما بعد النكبة، التي استطرد العم أمين في حديثه مع ماجد ليصل إليها ليحكي له قصة شتاته وعائلته فيتذكر عمله في البحر قبل النكبة مع “الريّس” الذي كان يبحر معه دائما والذي سقط قابضا على بندقيته أثناء دفاعه عن المدينة. ويفاجأ ماجد بأن “الريّس” لم يكن إلا والده “محمد شامل”.
العم أمين، تاجر المخدرات، وفي أحد لقاءاته مع ماجد، تحضر مجموعة من مجموعات الخلاعة والانحراف ومعهم “زينب” التي تهدم بتصرفها الصورة التي رسمها لها ماجد في لقائه بها في الباص. أثناء اللقاء يفاجأ ماجد بلكمة في وجهه من أحد المنحرفين فيتذكر نادي الملاكمة في حيفا، وقد كان أحد أبطاله، الأمر الذي يدفعه من جهة للانتقام وتلقين المعتدي درسا لا ينساه، ومن أخرى ليصبّ غضبه على “زينب” وعلى حياتها كعاهرة تعمل في تل أبيب، المدينة التي ابتلعت يافا وأهلها وجعلت نكبتهم مستمرة.
بعد ما حدث دخلت “زينب” إلى غرفة ماجد الذي قدّم لها كأسا فأخدت تشرب وتبكي بحرارة وتذرف دموعا صادقة ثمّ طرحت عليه سؤالها: “هل يمكن للقذر أن يتطهر؟” فأجابها بأن الأمر مرهون بنفسية الإنسان لا بجسده. ولشعوره بصدقها شرب معها نخب الصداقة فأخذت على عاتقها رعاية بيته كبداية لنهج جديد في حياتها.
في اليوم التالي عندما يكون ماجد بصحبة “إيليا”، أحد الصيادين، يأتي “شاؤول عفرون” لينتقم ممن ضرب صديقه “حاييم” فيتلقّى هو الآخر وجبة أشدّ من تلك التي تلقاها صديقه مما يوقظ فيه احترامه للرجال الشجعان فيعتذر لماجد وتحلّ الصداقة بينهما محلّ العداوة.
زينب التي تستمر في العيش مع ماجد تروي له قصتها، حيث ولدت في إحدى قرى الضفة الغربية ونشأت بلا أم. قتل الاحتلال أحد أخويها فجنّ الآخر، الأمر الذي أدّى إلى أن يرسلها والدها لتعيش في بيت عمتها في قرية أخرى. دفعتها ظروفها للتوقّف عن دراستها الثانوية وتوسيع ثقافتها بجهودها الشخصية. زوِّجت بعد موت والدها لشاب مريض جسدا ونفسا فغدت ممرضة له وعاشت معه حياة غلب عليها الملل، إذ لا تتفق مع جمالها وثقافتها، إلى أن ظهر “زهدي” الذي غرّر بها وخدعها ففرّت معه إلى تل أبيب حيث أرغمها على العمل كعاهرة إلى أن التقت بماجد الذي تحاول بمساعدته وحمايته لها أن تتطهّر من عارها وقذارتها.
يعمل ماجد في البحر كمسؤول عن مركب صيد، إلا أنّ عمله في البحر لا يمنعه من مشاركة صديقه كمال في مواقفه وعمله الوطني في يافا وحتى في الضفة الغربية.
وتعمل زينب في مصنع للنسيج فيتعرض لها “زهدي” ويرغمها ثانية على العمل لحسابه فيبحث عنهما ماجد برفقة “شاؤول عفرون”، ولما عثرا عليهما قام الأخير بضرب “زهدي” ضربا مبرحا لمّا علم بقصته مع “زينب”.
لم يكفّ “زهدي” عن ملاحقة زينب ومضايقتها ومحاولته تشغيلها ثانية في الدعارة، إذ استغلّ غيبة ماجد، أثناء مشاركته في الانتفاضة في الضفة الغربية، وأرغم زينب على مصاحبته إلى مواقع الدعارة في تل أبيب. ولما عاد ماجد ولم يجد زينب، أخذ بالبحث عنها مرة أخرى ليجدها في أحد مواقع الدعارة حيث وصل بعد فوات الأوان، إذ وجدها قد طعنت “زهدي” الذي أطلق عليها الرصاص وهو يلفظ انفاسه الأخيرة فمات كلاهما.
تنتهي الرواية بظهور جميلة التي تكرر ظهورها كبعد رمزي في مواقع مختلفة من الرواية وخاصة في اللحظات الحرجة، إلا أنّ ظهورها هذه المرة كان مختلفا بثّ الكثير من التفاؤل في نهاية الرواية.
* * * * *
إنّ أيّة قراءة تتعمّق أيّ نص في المجموعة القصصية أو الرواية، اللتين تمّ استعراضهما، ستقودنا بالضرورة إلى الأنواع المختلفة من قراءات الخطاب والنص، أي القراءات المختلفة للنص على مستويي الدلالة والبناء. فعلى مستوى الخطاب، هناك ثلاث قراءات أساسية:
القراءة الأيديولوجية وهي التي تقودنا، من داخل النص وبمساعدة بعض الإضاءات من خارجه، إلى ثقافة الكاتب وعالمه الفكري من جهة، وإلى الموقع الجغرافي والاجتماعي والسياسي الذي ينطلق منه، إذ لا بد لكل عمل روائي من موقع يرتكز عليه ذلك العمل وينطلق منه. ومثل هذه القراءة لنصوص المجموعة والرواية تطلعنا بشكل واضح على شخصية عدنان عباس وهويته الثقافية وعلى مصادر هذه الثقافة المرتبطة غالبا بممارساته الشخصية وبقربه من قضايا شعبه كجزء لا يتجزّأ منها، وبانتمائه للحزب الشيوعي، ما أتاح له الاطّلاع على الفكر الشيوعي وغيره من مصادر الثقافة المرتبطة بحرية الشعوب وحقّها في تقرير مصيرها.
هذا الأمر يقودنا بشكل حتمي إلى الموقع الذي تستند إليه نصوص عدنان عباس وتنطلق منه. والموقع بحد ذاته وكما ذكرت، لا بد أن يكون جغرافيا أولا، ثمّ يتداخل فيه الاجتماعي والسياسي والثقافي والتاريخي أيضا. ومن الواضح أنّ هذه العناصر كلها تجتمع في انتماء عدنان عباس وأبطال قصصه إلى الشعب الفلسطيني، وغالبا إلى الأقلية التي بقيت منغرسة في وطنها والتي عانت الكثير وعلى رأس هذا الكثير فقدان الأرض والتشتت داخل الوطن. هذا من جهة، ومن أخرى اعتناقه للفكر الشيوعي كمبدأ سياسي واجتماعي ينطلق منه في نضاله ضد مستغلّيه ومستغلّي مجتمعه وشعبه.
أمّا القراءة الثانية، القراءة الاجتماعية/السياسية، فمن الواضح في نصوص المجموعة وفي الرواية أن عدنان عباس يحاول إبداع الواقع حيث يستند المتخيّل الروائي الذي يطرحه إلى واقع يعيشه شخصيا أو على المستوى الجماعي المتمثّل بمجتمعه وشعبه. فهو، إلى جانب تجربته الشخصية ونقله لمشاهدات ووثائق مختلفة على ألسنة أبطاله، يطرح حلولا على المستويين: الفردي والجماعي. وهذه الحلول في نظره وعلى المستويين تكمن غالبا في التمرّد والثورة وعدم اليأس واستمرار النضال خاصة ضدّ السلطة الظالمة وعملائها، وأرباب العمل المستغلّين، وأصحاب الفكر الرجعي الذين يقودون المجتمع إلى الهاوية بغية تحقيق مصالحهم. ولا بدّ من إضافة الاحتلال إلى قائمة من أراد عدنان عباس مواجهتهم والنضال ضدّهم.
ومن جهة أخرى، يطرح الكاتب قضية يمكن اعتبارها لا تقلّ ثورية عن غيرها في ظروف الواقع الذي يبدعه عدنان عباس هي قضية التعايش كحلّ لكثير من المشاكل، السياسية والاجتماعية. وهذا يبدو واضحا في رواية “البحر والغضب”، في صداقة البطل ماجد شامل العربي الفلسطيني، مع “شاؤول عفرون” اليهودي، بعد عداء دام ٍ بينهما. وتبدو هذه القضية كذلك، ولو بشكل غير مباشر، في إنقاذ العم رشيد للطفل اليهودي “ناحوم” في قصة “إنسان” وفي تعامل وليد مع دالية، الشابة التي يمكن أن تكون يهودية، في قصة “موعد مع الشمس”.
لا يظهر الاغتراب بشتى أشكاله، جماعيا كان أم فرديا، عن الذات أو عن المكان، مطروحا كحلّ لأيّ قضية من القضايا التي يطرحها الكاتب في نصوصه، وإن كان الشعور به يلازم بعض الشخصيات خاصة أثناء صراعها وفي توجهها نحو حلّ ما لمشاكلها.
وجدير بالذكر أن عدنان عباس الذي يدرك جيدا آفاق مجتمعه الاجتماعية والسياسية، والموقع الذي تنطلق منه نصوصه، لا يرهق هذا المجتمع بحلول تفوق آفاقه وقدراته.
وفي القراءة الثالثة، القراءة السيكولوجية لنصوص المجموعة أو الرواية، ربما يبدو اغتراب الكاتب، عدنان عباس نفسه، أكثر من اغتراب شخصياته لأن الشعور بالاغتراب لدى بعض الشخصيات، كل شخصية على انفراد، يتجمع كله لديه، فتبدو لنا جلية مآزق عدنان عباس على كافة المستويات: النفسي والاجتماعي والسياسي وحتى الإنساني والكوني، لأنّ كل نص من النصوص السالف ذكرها هو محاولة للتصالح بشكل ما مع مجتمع أو مع فئة أو شريحة منه يبدو جليّا اغترابه عنها ولو في مرحلة ما من مراحل الصراع أو النص؛ ومما لا شكّ فيه هو أنّ النكبة وما تلاها من ظلم وقهر هي المسبب الحقيقي لهذا الاغتراب.
وقبل الانتقال إلى الحديث عن مبنى النص، لا بدّ من توقف سريع عند نقطتين هامتين: توظيف الموت والنهايات. أما الأولى، توظيف الموت، فإن الكاتب لم يقنعنا تماما أنّه يعي جيدا أنّ موت أيّ شخصية في أيّ عمل سردي هو حكم بالإعدام يصدره الكاتب ضدّها. وعليه فإنّ هذا الحكم يجب أن تكون له أسبابه المقنعة ودلالاته المرجوّة. هذا لا يعني أن عدنان عباس قد فشل كليا في توظيف الموت، وعلينا أن نعترف أنّ فلسفة الموت، سواء كانت في العمل الأدبي أو خارجه، هي ليست من السهولة بحيث يستطيع أن ينجح في توظيفها كل كاتب، حتى لو كان من الكتّاب الكبار المجربين أحيانا. ومع ذلك، فقد نجح عدنان عباس في توظيف الموت في القصة القصيرة بينما لم يصب النجاح نفسه في روايته، “البحر والغضب”.
كدليل على نجاحه في توظيف الموت في القصة القصيرة نأخذ نموذجين: “أمين” في قصة “الصاري” والشيخ “أبو فريد” في قصة “حياتكم الباقية”.
“أمين الذي شارك صديقيه: محمد ومارسيل، في رحلة صيد راح ضحية “النو” المفاجئ (هيجان البحر المفاجئ)، وقد كانت لموته أكثر من دلاله. فإذا كان البحر رمزا للحياة و”النو” رمزا لمصائبها، فكثيرة هي المصائب التي تفاجئنا وتخطف أرواحنا وتفرقنا عن أهلنا. وقد سقط أمين أيضا نتيجة لمحاولته مع زميليه بالتخلص من ظلم أرباب العمل واستبدادهم واستغلالهم. وكأنّ عدنان عباس بفكره الشيوعي، أراد بموت “أمين” أن يقول لنا أنّ واجب العمال في التخلص من ظلم أرباب العمل واستبدادهم واستغلالهم، ليس بهذه السهولة، وأنّه لا بدّ فيه من ضحايا تسقط على طريق الصراع الطويل والشاقّ معهم.
وأما الشيخ “أبو فريد” فكان لا بد من شلله وموته كنهاية لحاملي الفكر الرجعي وللعملاء، وكلاهما نموذج لا يستطيع من يحمل فكرا تقدّميا وخاصة إذا كان وطنيا أو شيوعيا أن يتعايش معه، ولا بد من استمرار الصراع بينهما حتى يقضي أحدهما على الآخر، وهنا يصبح غنيّا عن الذكر لماذا اختار عدنان عباس موت الشيخ “أبو فريد” وبالشكل الذي مات فيه.
هذا النجاح في توظيف الموت في القصة القصيرة قابله فشل أو تراجع في إدراك أهميته في الرواية. ففي رواية “البحر والغضب” لا أجد مبررات مقنعة لموت العم أمين أو موت زهدي وزينب، وثلاثتهم ينتمون إلى العالم السفلي المتمثل بتجارة المخدرات والدعارة. أعتقد أنّ عدنان عباس كان يجب أن يبحث لهم عن نهاية أخرى مختلفة كبديل للموت، لأنّ موتهم، بالصورة التي اختارها، يجعل منهم أبطالا، يضلّل القارئ، رغم ما في ملامحهم من بعض الجوانب الخيّرة، وينسيه ما ارتكبوه ويرتكبونه من موبقات تسبب الخلل في المجتمع وتحطّم القيم الأخلاقية وغيرها من القيم التي يرتكز عليها.
والنقطة الثانية التي أردت التوقف عندها هي النهايات التي يمكن أن نعتبرها مميّزا بارزا من مميّزات أعمال عدنان عباس. معظم أعماله، إن لم يكم كلّها، تتميّز بنهاياتها المفتوحة والمتفائلة، سواء كان ذلك في قصصه أو رواياته. لا شكّ أنّ هذا الأمر، من جهة يعكس حبّ الكاتب للحياة، وفكره التقدميّ والشيوعي من جهة أخرى، وكلا الأمرين يعكسان أيمان عدنان عباس بأنّه لا معني للحياة مع اليأس ولا معني لليأس مع الحياة، وأنّ الشمس لا بدّ ستشرق في صباح يوم جديد. وأخيرا، أعتقد أن كل عمل من أعمال الكاتب يصلح أن يكون نموذجا لما قلت، بغضّ النظر عن مدى نجاحه في اختيار موضوع النهاية في هذا العمل أو ذاك. ويكفي أن أشير إلى ظهور جميلة المختلف وقد مسح من عينيها دموع الحزن، الأمر الذي يدعو إلى الكثير من التفاؤل في آخر رواية “البحر والغضب” بعد أن كانت ظهرت في مواقع كثيرة من الرواية بنظرات حزينة قلقة.
أما على مستوى قراءة النص، بمعنى التعرّف على مدى الإجادة في بنائه في قصص المجموعة وفي الرواية، فإنه في مثل حالة عدنان عباس، الفريدة من نوعها في رأيي، وعند الحديث عن لغة النص، يمكننا أن نشير إلى مأخذين بارزين يمكن أن نلومه عليهما: الأول هو كثرة الأخطاء اللغوية والإملائية التي لا تعكس جهله في التعامل مع اللغة وإنما جهله في معرفة قواعدها: نحوها وصرفها وقواعد كتابتها. هنالك كثير من الطرق التي كان بمقدور الكاتب أن يتفادى بواسطتها الوقوع في مثل هذه الأخطاء كأن يقوم بعملية تدقيق لغوي للنصوص قبل نشرها حتى وإن كان ذلك على يد شخص آخر يلمّ أكثر منه باللغة، ولكن، غريب أنه لم يلجأ إلى هذه الطريقة ولا إلى غيرها لتفادي هذه الأخطاء!
والثاني تلك السرعة التي سرد فيها الأحداث في أكثر من موقع في رواية “البحر والغضب” بشكل خاص والتي استعمل فيها لغة الخبر أو التحقيق الصحفي السريع الذي يشعرك كأنما هناك هاجس لدى الكاتب يدفعه إلى التخلّص من سرد الأحداث والخروج منه بالسرعة الممكنة. لا شكّ أنّ هذا الأمر يضفي الكثير من السلبية على أسلوب السرد ولغته وينعكس سلبا على مزاج القارئ خاصة الواعي لأهمية اللغة في دفع عملية الأبداع.
فيما عدا ذلك، صحيح أن اللغة التي وظّفها الكاتب هي أقرب إلى البساطة منها إلى التعقيد، ولا تجد فيها التكثيف المطلوب دائما، ولكنها في معظم الأحيان كانت قادرة على مطابقة حاجات السرد والحوار، سواء كان ذلك في سرده للأحداث أو رسمه للشخصيات أو توظيف مستويات اللغة المختلفة في السرد والحوار. ولا يخلو الأمر من كثير من النماذج والعبارات التي تثبت معرفة الكاتب باللغة وقدرته على التعامل معها وإيرادها كثيفة شاعرية أحيانا، توحي بما هو أبعد بكثير من الالفاظ والعبارات التي نقرأها. وكنموذج أكتفي بالتوجيه إلى ما أورده في رواية “البحر والغضب” (ص 94-95) في حديثه عن الدلافين وخطابه لمسجد “حسن بيك”. لغة كثيفة وشاعرية تجعلك تحسّ أن عدنان عباس لو تأنّى قليلا في التعامل مع اللغة لزادت أضعافا هذه النماذج الشاعرية في نصوصه. وكنموذج آخر أرجو مراجعة ما قلته عن اللغة و”الطرف الآخر من القرية” في حديثي عن قصة “حياة”، وكذلك ما قلته عن اختيار الكاتب للاسم “العم رشيد” في قصة “إنسان”.
أمّا على مستوى التعامل مع الزمن، في نصوص المجموعة القصصية وفي الرواية، فقد أظهر عدنان عباس قدرة كبيرة في توظيف التقنيّات الزمنية المختلفة مثل الاسترجاع، القفز، المشهد، والاختصار. وقد نجح في أكثر من قصة في تكسير الزمن أو وقفه من خلال تقنيّات تيار الوعي المتمثلة بالاسترجاع والمونولوج (الحوار الذاتي). يبدو الأمر جليا في قصة “حياتكم الباقية” (أيار، 1985)، كما سبق وذكرت، حيث يعترف المختار المصاب بالشلل النصفي، قبيل موته ومن خلال الاسترجاع والمونولوج الداخلي، بأعماله المخزية من ظلم للفلاحين وعمالة للسلطة: الاستعمار البريطاني سابقا والسلطة الإسرائيلية لاحقا.
يتميّز في نصوص المجموعة وفي الرواية كذلك، تعامل عدنان عباس مع المكان الروائي، فهو يتنقّل فيه بحرّية بين مغلق ومفتوح، بين القرية والمدينة وبين اليابسة والبحر. وربما أبرز ما في هذا التميّز هو تعامله مع البحر، وخاصة في قصة “الصاري” وفي رواية “البحر والغضب”، فقد أظهر الكاتب معرفة بالبحر وأحواله وأهواله فاقت المتوقّع خاصة وأنّ الكاتب ريفيّ من أم الفحم. وقد طغت هذه المعرفة في كثير من الأحيان على معرفته باليابسة التي أهملها في بعض مراحل السرد رغم معرفته بها.
لقد استطاع عدنان عباس أن يشدّنا بقوة إلى المدن والقرى والأماكن الأخرى داخلها، تلك التي جعلها مسرحا لأحداث قصصه، وقد نجح في جذبنا إليها سواء كان ذلك إلى الأماكن التي ذكرها بأسمائها الواقعية والتاريخية التي نعرفها، مثل حيفا ويافا وغزة، أو إلى الأماكن التي استعار لها أسماء أخرى غير أسمائها الحقيقية، الجزيرة في قصة “جزيرتنا وسمك القرش”، أو تلك التي لم يذكر لها اسما، كأن يذكر القرية بدون اسم وقد ورد ذلك في معظم قصصه القصيرة حيث كانت القرية مسرحا لكثير من الأحداث. في كل الحالات جعلنا عدنان عباس نشعر بقرب شديد من أماكنه المختلفة، أماكن قريبة جدا منا جسما وروحا، أو قل هي نفسها تلك الأماكن التي احتضنتنا ذات يوم أو ما زالت تحتضننا حتى الآن.
وفيما يتعلّق بالراوي وزاوية السرد فقد توفّر لعدنان عباس حظّ لا بأس به في اختيار الراوي ومواقعه المختلفة التي يقوم منها بعملية السرد. لقد وظّف الراوي العالم بكل شيء غالبا، في سبع من قصص مجموعته الاثنتي عشرة، ما أتاح له حرية الحركة سواء كان ذلك في سرده للأحداث الداخلية أو الخارجية. فقد استطاع تحريك شخصيّاته من زاوية تقرب أو تبعد حسب ما يرتئيه مناسبا، أو الولوج إلى أذهان ونفسيات تلك الشخصيات سواء كان ذلك من خلال سرده ما يدور في أذهانها ونفسيّتها، كراوٍ عالم بكل شيء، أو من خلال إعطائها حرية الحديث من خلال تغيير زاوية السرد بتغيير الراوي، أو من خلال تقنية المونولوج ما ساعدنا على التعرّف بشكل أعمق على هذه الشخصيّات وعلى أنماط تفكيرها.
وفي القصص الخمس الأخرى من قصص المجموعة، اختار الكاتب الراوي الـ “أنا” سواء الـ “أنا” الشاهد غير المشارك أو الـ “أنا” المشارك وإن كان هذا الأخير حظّه أوفر من الأول. اختيار عدنان عباس للراوي الـ “أنا”، وخاصة المشارك، جاء في اعتقادي ليعبّر عن تجربته الشخصية في الحياة أو عمّا يتمنى أن يكون تجربته الشخصية، لأنّ وعي عدنان عباس أنّ الراوي هو ليس مجرد تقنيّة للسرد وإنما هو تعبير عن موقف أو وجهة نظر، هو ما جعله يقرّر نوع الراوي والموقع الذي ينطلق منه.
من المنطلق نفسه اختار عدنان عباس البطل ماجد شامل ليكون هو الراوي بضمير المتكلم أو هو الـ “أنا” المشارك في أحداث الرواية كشخصية رئيسية تلعب دور البطل. هذا الأمر يدلّ على مدى ثقة الكاتب بالراوي الأمر الذي سينعكس على القارئ عند قراءته للرواية. هذا الأمر سهّل على الكاتب والراوي ألـ “أنا” أن ينقل زاوية السرد إلى زينب لتروي لنا قصتها من زاويتها ووجهة نظرها هي. وأخيرا أعتقد جازما أن اختيار عدنان عباس لنوع الراوي إنما جاء تعبيرا عن قرب عدنان عباس منه ودفعه له لأنّه في الحقيقة يمثّل عدنان عباس نفسه، وما تجارب الراوي/ماجد شامل/البطل إلا تجارب عدنان عباس وما معاناة عدنان عباس في الواقع إلا معاناة الراوي/ماجد شامل/البطل التي أبدعها عدنان عباس في الرواية.
أمّا فيما يتعلّق بالأحداث والشخصيات فقد سبق لي أن ذكرت أنّ عدنان عباس أصاب الكثير من النجاح في سرد الأحداث وحبكها في نسيج متماسك مع شخصياته وزمانها ومكانها، مما جعل هذه الشخصيات تلائم كثيرا الدور الذي رُسِمت له. وقد تميّز الكاتب أكثر ما تميّز، في رسم شخصياته بحيث كانت هذه الشخصيات قادرة على إقناع القارئ وإدهاشه أيضا. ومن هذه الشخصيات يمكننا أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر:
مجدي في قصة “سهرة عرس”، ابن البلد الذي يشارك أبناء بلده أفراحهم وأتراحهم، رغم أوضاعه الاقتصادية المتردية، وفي نفس الوقت يعيش صراعا طبقيا فيدفع ثمن حقد صديقه صالح، ابن المختار، عليه لأنه محبوب من أهل قريته.
العم رشيد في قصة “إنسان” الذي أقنعنا كعامل علمته التجربة، يحبّ إخوته العمال ويدافع عنهم بحكمته ويساعدهم إن أحوجه الأمر. وأقنعنا كذلك كإنسان فلسطيني طغت قيمه الإنسانية على حقده على ظالميه ومستغلّيه.
صابر في قصة “صمود حتى الموت” يعبر بشكل جيد عن الشاب الطيّب المسالم الذي يحترم الشيوعيين ولكنّه لا يشاركهم نضالهم لعدم إيمانه بجدواه ولا يفكر بالانضمام إليهم، إلى أن تدفعه يد الظلم إلى خطهم ووجوب الانخراط في صفوفهم. ففي المرة الأولى التي شاركهم فيها تركت أيادي الظلم بصماتها على جلده ونفسه، فقد ذاق طعم الرصاص الذي اخترق جسده فنزف دمه ليمتزج بدمهم وبعرق الذين يحملونه على أكتافهم بغية إسعافه وإنقاذه ما سهّل عليه اتخاذ القرار بالانخراط في صفوف الشيوعيين حيّا أو ميتا.
وأخيرا ماجد شامل في رواية “البحر والغضب” الذي أعطى لنا صورة حيّة للإنسان الفلسطيني الذي شرّدته النكبة عن أهله داخل وطنه فعانى كلّ ما واجهه بعد النكبة من أزمات وعلى رأسها البطالة والعنصرية وظلم السلطة. وكل هذه الأزمات لم تمنعه من محاولة شقّ طريقه والنضال من أجل مواجهة همومه اليومية والقومية ومن بينها مسألة البحث عن الجذور التي انعكست في العودة إلى يافا، مسقط رأسه، وسماع قصة المناضل، محمد شامل، الذي ناضل حتى سقط شهيدا بعد الرصاصة الاخيرة، والذي لم يكن إلا والد ماجد شامل نفسه.
* * * * *
رواية “السماء تمطر الياسمين”
تلخيص المضمون:
سعيد الحافظ الميّت موتا سريريا في أحد مستشفيات حيفا نتيجة سقوطه من شرفة بيته، الذي عاد ليراه بعد خمسين عاما، بسبب مهاجمة سكان البيت له، يعرف أنّه مشلول كليّا ولكنه يدعي أن الشيء الوحيد الذي يعمل لديه هو دماغه وأن ذاكرته كذلك تعمل جيدا، فهو يتذكّر كلّ شيء ما عدا تاريخ دخوله للمستشفى. أثناء مكوثه في المستشفى يسترجع أو يستعرض “كل ما مرّ بي في رحلة العودة السعيدة إلى أرض الوطن وإلى لقاء الأحباب الذين كنت توّاقا إلى رؤيتهم منذ خمسين عاما مضت”. (الرواية، ص 14).
في البداية يستعرض سعيد الحافظ قصة عبوره للحدود عن طريق معبر واد الأردن القريب من بيسان بواسطة تصريح كان قد أرسله إليه ابن عمه، سليمان الحافظ، ثمّ معاناته الانتظار والتفتيش والمعاملة اللطيفة أحيانا والسيّئة غالبا، ثمّ لقاءه بالوطن المتمثّل بماهر بن سليمان الحافظ الذي كان في انتظاره، وثانيا، بالأرض الممتدّة من المعبر حتى حيفا، سهلها وجبلها والمدن والقرى التي استرجع أسماءها سواء التي ما زالت قائمة أو تلك التي هدمت بعد النكبة، وللتأكيد استرجع كذلك زيارته لبيسان أثناء صباه برفقة صديقه علي البيساني الذي كان يعمل في حيفا، ومن ثمّ استعرض دخوله إلى حيفا ولقاءه أقاربه الذين استقبلوه بحفاوة.
بعد الراحة ومراسيم الضيافة والتعرّف على مضيفه وأهل بيته، وفي خلوة بينه وبين سليمان، مضيفه وابن عمه، تعرّف على أخبار الأقارب وما حصل لهم بعد تركه حيفا. ولكن الأهم من ذلك أنّه تعرّف على أخبار سلمى النجار زوجته التي ما زالت تحتلّ ركنا عزيزا في قلبه. وبعد ذلك أخذ هو يقصّ على سليمان أخباره منذ اندلعت أحداث النكبة.
قصّ عليه قصّة كراهيته للإنجليز منذ أن كان صبيا وكيف كان يسرق سلاحهم ومتاعهم بغية إلحاق الأذى بهم كمستعمرين، وقصة حبّه للبحر ولسلمى النجار التي التقى بها على الشاطئ فأحبها وأحبته هي كذلك فشرعا، منذ لقائهما الأول، بالتفكير بالزواج.
بعد ذلك اندلعت المواجهات مع اليهود الذين ساندهم الجيش البريطاني في إخلاء المدينة من سكانها العرب، فانضمّ سعيد إلى مجموعة من الشباب بغية الدفاع عن المدينة. ولكن القوى لم تكن متكافئة فانسحب الشباب بعد أن قتل من قتل وجرح من جرح، وكان سعيد قد أصيب بجرح في ساقه لم يمنعه من الانسحاب معهم عبر سفوح الكرمل. إلا أنّه وبعد قضاء ليلة في مغارة يعرفها أحد الشباب، أعتذر عن متابعة السير معهم لئلا يشكل خطرا عليهم بعد أن أخذ جرحه يؤلمه أكثر، بعد خياطته بشكل بدائي. في المساء تحمّل صعوبة الطريق وعاد إلى الكنيسة في حيفا حيث التقى سلمى مرة أخرى.
يحظى سعيد بعناية كبيرة من سلمي التي تحبه، وكذلك من راهب الكنيسة الذي يعالج جرحه فيتماثل للشفاء. وذات ليلة حبّ يضاجع سلمى فتكشف أم أسعد، التي تعمل في خدمة الكنيسة، الأمر مما يضطرهما إلى الزواج في الكنيسة وعلى يد الراهب رغم كونهما مسلميْن. في ذلك إشارة واضحة إلى ما يؤمن به عدنان عباس أنّ كل الأديان تصبّ في بحر واحد، وكذلك إلى العلاقات الطيبة بين المسلمين والمسيحيين أبناء الشعب الواحد، ومن جهة ثالثة إلى أنّ كلّ شيء ممكن في زمن الحرب.
بعد أن قضي أياما إلى جانب سلمى في الكنيسة يساعد في توفير الطعام لمن لجأوا إليها، وبعد أن وفّر لهم كميّات كبيرة من المؤن بعد أن قتل جنديا إنجليزيا ونهب محتويات شاحنته، قرّر اغتنام فرصة وجود الشاحنة وما غنمه من سلاح أيضا، أن ينضمّ إلى “جيش الإنقاذ” فتوجّه إلى الجنوب حيث تتمركز بعض قوات ذلك الجيش، ومن ثمّ إلى أم الفحم، حيث تتواجد وحدتان من الجيش العراقي، ولكن خيبته بهذا الانضمام كانت عظيمة إذ أنّ قيادة الجيش ليس فقط لم تعمل شيئا بل أكثر من ذلك كانت تلوم وأحيانا تعاقب من يعمل. أثناء رحلة البحث في جبال الكرمل حتى الوصول إلى أم الفحم يستغل الكاتب الفرصة ليطلعنا على هول المآسي التي لحقت بالسكان، والمجازر التي قتلت من قتلت وشرّدت من شرّدت. تلك المآسي التي شهدها بنفسه أو سمع عنها من بعض الرجال الذين التقى بهم في طريقه. بعد خيبته من “جيش الإنقاذ” أحسّ بحنينه يتدفق نحو سلمى وحيفا فقرر العودة إليهما، فاصرّ على مشاركته طريق العودة صديق يدعى علي الصفدي.
أثناء عودتهما عبر جبال الروحة حوصرا من قبل جنود العدو فاستشهد علي الصفدي ونجح سعيد بالفرار شرقا إذا كانت كل الجهات الأخرى مغلقة، والوصول إلى نهر الأردن ورؤية الأعداد الكبيرة من النازحين. فكّر أن يدخل الأردن ليتابع إلى سوريا لعلّ دخول فلسطين من هناك يكون أيسر ولكن كل المحاولات باءت بالفشل، والمحاولة الأخيرة ادّت إلى سجنه فخلّصه بعض أهل النوايا الطيبة. بدأ يفكّر في الاستقرار خاصة بعد سماعه أنّ أم الفحم ومنطقة المثلث قد ضُمَّتا إلى إسرائيل بعد اتفاقية “رودس” الأمر الذي قطع عليه مخططاته كمحاولة جديدة للعودة إلى أم الفحم. في مدينة أربد في الأردن استقرّ وتزوّج وبدأ يحارب الفقر بدل العدو، ويطارد رغيف الخبز من أجل أولاده الذين قهروا الفقر لمّا أصبحوا رجالا بعد أن كان هو قد فشل في ذلك.
وهكذا أنهى سعيد حديثه عن قصّة تشرّده التي قصّها على سليمان ابن عمه وشعر أنّه تخلّص من حمل ثقيل ونام قريرا ما تبقى له من الليلة الأولى في الوطن بعد تشرّد دام خمسين عاما.
في الصباح أعلن لابن عمه عن رغبته برؤية بيته ورؤية سلمى التي فاجأتهما بحضورها فهيّأ له ابن عمه فرصة الاختلاء بها.
تسارعت الأحداث بما يفوق توقعات سعيد. وها هو يختلى بسلمى فتحكي له قصتها بعد أن غادرها وكيف أرغمها أبوها على الزواج من أبي خليل الرجل العجوز الذي أنجبت له طفلا بعد سبعة أشهر من زواجهما فأحبه كأنه من صلبه ولم يعلم حقيقة أنّه ابن سعيد. وقصّ عليها سعيد قصة زواجه في الأردن وأخبار العائلة التي تركها هناك. ثمّ طلبا من سليمان إحضار المأذون الذي زوّجهما ليلتقيا ابنهما فريدا في اليوم التالي كزوج وزوجة.
انتقل سعيد إلى بيت سلمى حيث التقى ابنه فريدا وكان اللقاء حارا انطوى على كثير من الحبّ والتفاهم. وتبدأ الخطط للقاء حيفا برّها وبحرها وناسها بل وحتى سائر الأقارب خارج حيفا. ثمّ الإعلان عن نيّة البقاء في حيفا، ثمّ التفكير بجمع شمل عائلتيه: الجديدة والتي في الأردن. ثمّ زيارة البيت القديم الذي كان مغلقا إذ لم يجبه أحد عندما دقّ الباب. وغريب هنا أنّه لم يذكر الياسمينة التي كانت خارج البيت. ويذهب أبنه إلى عمله في اليوم التالي وكذلك زوجة ابنه بعد أن شربتْ قهوة الصباح معه وزوجته، ربما كإشارة إلى أنّ الأحداث المتسارعة بدأت تهدأ وأنّ الحياة لا بدّ أنّ تعود إلى روتين ما.
في اليوم التالي خرج سعيد ليتمشّى في شوارع البلدة القديمة التي بقي منها الكثير على ما كان عليه، فراح ينظر إلى الحاضر ويسترجع في ذهنه أناسا وأماكن من الماضي الذي عاشه في المدينة، وبلا شعور منه قادته قدماه إلى بيته القديم فرأى الياسمينة ما زالت على حالها فقطف من أزهارها ثمّ صعد درج البيت وطرق الباب ففتحت له عجوز ظنّ أنها تأذن له بالدخول. وما أن بدأ يعاين البيت حتى خرج شابان بلباس عسكري واشتبكا معه متهميْن إيّاه بأنه مخرب. انتهى الاشتباك بسقوطه من شرفة البيت فأغمض عينيه (فقد وعيه) ولم يفتحهما إلا في المستشفى حيث رأى زوجته وابنه يقفان فوق رأسه ثمّ يخرجان ليدخل سليمان ابن عمه. الأطباء يدّعون أنه في موت سريري لا يعي شيئا، وهو يؤكّد أنه لا يستطيع أن يتحرك إلا أنّ دماغه يعمل بصفاء لم يعهده وكما لم يعمل من قبل. وتنتهي الرواية حيث بدأت وهو يشعر أنّ قلبه ينفتح لتخرج منه ياسمينة تحمل آلاف الزهور البيضاء وتكبر وتعبق رائحتها لتصل السماء فتمطر السماء الياسمين.
* * * * *
في الواقع لا يزال الإنسان الفلسطيني يدور في فلك النكبة وما خلّفته من ضياع بعدها، ويظهر أنّه لن يقرّ له قرار إلا بالانعتاق منها إلى حلّ شامل وعادل لقضيته برمّتها. وعلى ما يبدو، هذا هو حال الكثيرين من الكتّاب والشعراء الفلسطينيين، وبغضّ النظر عن موقعهم الذي خلّفته النكبة، داخل الوطن، في الأرض المحتلة أو في الشتات، فإنهم ما زالوا يرون في النكبة ومخلّفاتها الموقع الأساس لانطلاق أشعارهم وأعمالهم السردية على اختلاف أجناسها. وهذا هو كذلك شأن عدنان عباس في معظم أعماله. إلا أنّ الذي يميّز رواية “السماء تمطر الياسمين” هو أن عدنان عباس ربما أراد أن يغلق بها دائرة اهتماماته الفلسطينية، أو أن يضيف الخط الثالث للمثلث الذي رسم خطيه السابقين في أعماله السابقة إذ اختار شخصيات أعماله القصصية والروائية السابقة من الواقع الفلسطيني إمّا من داخل الوطن أو من الأرض المحتلة، بينما في هذه الرواية يختار للأحداث، وإن كان المكان داخل الوطن/حيفا، أن تدور حول شخصية فلسطينية تعود إلى الوطن/حيفا، بعد خمسين عاما من الشتات. هذه العودة، عودة سعيد الحافظ، وإن كانت متأثرة، بشكل أو بآخر، بعودة “سعيد س” غسان كنفاني في روايته “عائد إلى حيفا” إلا انّها لا ترقى في مضمونها ودلالاتها وفنيّتها كذلك إلى مستوى رواية كنفاني. ولا أقول هذا انتقاصا من الرواية ولكنني متأكد أنّ عدنان عباس نفسه يعي أنّ المشروع الثقافي الذي حاول كنفاني بناءه لم يعادله مشروع آخر لا على المستوى الفلسطيني ولا العربي، وأنّ الأهوال التي واجهها هذا المشروع لا تعادلها أهوال أخرى إلا الأهوال التي واجهها الشعب الفلسطيني نفسه منذ نكبته وحتى الآن.
وعليه فإنّ عودة “سعيد س” غسان كنفاني التي جاءت لترسم حلقة أخرى أو تصوّر مرحلة أخرى من مراحل مشروعه الثقافي الذي يطابق مساره مسار الشعب الفلسطيني، أنما جاءت لتعبّر عن الضربة القاسية التي مُنِي بها هذا المشروع وأكثر من ذلك الضربة القاسية التي مني بها الشعب الفلسطيني بعد نكسة 1967.
تأثُّر عدنان عباس بغسان كنفاني في روايته “عائد إلى حيفا” أغلب الظنّ جاء ليبرز المختلف لا المؤتلف. الدليل على ذلك ربما يبدأ باختيار الاسم المؤتلف المختلف. البطل في “عائد إلى حيفا” هو “سعيد س” الذي يعود إلى حيفا بعد نكسة 1967 مباشرة، وبعد عشرين عاما من الغياب، محمّلا بكثير من التردّد والقلق لما أضاع من جهة، ولما ينتظره من أخرى، يؤكّد ذلك شعوره بأنّ حيفا التي أضاعها وأضاع ابنه فيها تنكره الآن فيعود منها بأضعاف الحمل الذي جاء به. بينما البطل في رواية “السماء تمطر الياسمين”، سعيد الحافظ يعود ليحتضن حيفا فتحتضنه حيفا ليؤكّد أنّ الأمل ما زال موجودا أو أنّه تجدّد ربما بعد أن جاءت السلطة الفلسطينية وبدأ يلوح في الأفق حلّ للقضية يستند إلى مبدأ “دولتان لشعبين”. ولهذا جاء التشابه والتناقض في الاسم. “سعيد س” المجهول الذي أضاع فضاع بإنكار حيفا له، بينما سعيد الحافظ الذي عمل المستحيل ليعود إليها بعد ان أُخْرِج منها قسرا، وليبقى فيها تحتضنه هي أيضا وتحاول أن تحافظ عليه كما حافظ على صلته بها، ورغم إخفاقها فإنّه لم يفقد الأمل.
صدرت رواية “السماء تمطر الياسمين” عام 2007. والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا يختار كاتب فلسطيني يعيش في الوطن مثل عدنان عباس أن يخوض مثل هذا الموضوع في روايته بعد خمسين عاما من الشتات، كما جاء على لسان البطل في الرواية، وبعد أربعين عاما من نكسة عام 1967، وبعد ما يقارب الخمسة عشر عاما من اتفاقية “أوسلو”؟
لا أجد جوابا شافيا لهذا السؤال. ولكن، بعد قراءة الرواية، واستعراض المآسي التي مرّ بها الشعب الفلسطيني في رحلة شتاته، والعودة إلى الجو أو الشعور الذي يخيّم على الرواية من بدايتها إلى نهايتها، الشعور بحب الوطن والحنين إلى الماضي والبحث عن الجذور، كل هذه العناصر مجتمعة أجدها سببا كافيا ودافعا مقنعا دفع بعدنان عباس إلى خوض هذه التجربة الناجحة على مستويي المضمون والبناء. ويمكن أن نضيف إلى هذه الأسباب سببا آخر لا يقلّ أهمية في الظروف الراهنة، ألا وهو توثيق ما يعرفه عدنان عباس عن أحداث النكبة، وتحديدا سقوط حيفا وما جاورها، خاصة وأنّه لا بدّ للكاتب أن يكون قد سمعه من مصادره الأولى، ما يجعل الرواية رواية توثيقية تسدّ ثغرة في هذا المجال. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، وبحذر شديد، ملامسة توثيق ما آل إليه حال الفلسطينيين في الشتات، الذين بدأوا يخافون أن ينتهي بهم العمر قبل أن يكحّلوا أعينهم برؤية الوطن فبدأوا يستخرجون التصاريح بواسطة أقاربهم ليقوموا بزيارة ولو قصيرة يمكنها أن تحقّق لهم حلما طالما راودهم وأقضّ مضاجعهم.
ما من شكّ أن عدنان عباس أصاب الكثير من النجاح في هذه الرواية، سواء كان ذلك على المستوى الدلالي أو الفنّي. فقد أثبت أنّه يملك المعرفة والقدرة على بناء عمل روائي يوظّفه في إيصال ما يريده من دلالات إلى القارئ بأسلوب فيه الكثير من التشويق ما يجعله يقرأ الرواية وينجذب إلى أحداثها وشخصياتها ويتفاعل ويتعاطف معها ويحبها ليس من منطلق القاسم المشترك في القضيّة والهمّ فقط، إنّما من منطلق بنائها الفنّي المرتكز على تماسك الأحداث وتطورها المنطقي من جهة، ورسم الشخصيات بشكل يوازي هذه الأحداث ويعطيها القدرة على ممارستها وتحمّل نتائجها.
الهمّ الفلسطيني من النكبة وحتى يومنا هذا، هو الموقع الذي جاءت منه هذه الرواية لتطرح سؤالها ولتحاول أن تقدّم جوابا يتقبّله القارئ وربما يعلن عن استعداده للمشاركة فيه.
وقد حاول الكاتب أنّ يطرح هذا الهمّ بشكل يتلاءم مع تفكير الإنسان الفلسطيني في بدايات القرن الحالي، مما أخرج الرواية من روتين البكاء على ما حدث واتخاذ القلق والضياع إلى حدّ اليأس أحيانا، مركبا لا يفتح آفاقا جديدة أمام اصحاب هذا الهمّ. فقد عبّر الكاتب بشكل واضح أنّ المآسي وما فيها من مرارة وألم لا يجب أن تمحو الأمل، بل يجب أن تجعلنا نتخذ منه مركبا يرافقنا في حلكة الطريق مهما اشتدّت ومهما طال. وفي أكثر من مكان عبّر سعيد الحافظ عن حبّه الكبير وقلبه الواسع الذي يمكن أن يتسع ليس فقط لأحبته: أهله وأبناء شعبه ووطنه، وإنّما للناس كل الناس في مختلف بقاع الأرض. هذا الأمر يشير بشكل واضح إلى الأيديولوجيا التي ينطلق منها عدنان عباس والتي ترتكز على الفكر الشيوعي التقدمي. وهو لا يعبّر بهذا عن موقفه الشخصي وإنّما يعكس، على المستوى الاجتماعي/السياسي، ما يدور في أذهان وتفكير معظم الفلسطينيين الذين بدأوا يفكّرون بحلول واقعية ومنطقية يمكن أن تنهي قضيتهم بشكل عادل. برز ذلك واضحا عندما كشف فريد لوالده أنه ينتمي إلى الرفاق والقصد واضح. وكذلك عندما عبّر سعيد الحافظ عن مواقف أولاده في الأردن من شكل الحلّ. وفي الفقرة التالية تعبير واضح ليس عن شكل التطور السياسي للإنسان الفلسطيني في الشتات وانّما تطوره الاجتماعي والاقتصادي كذلك: “كبر أبنائي كأبناء الحكايات بسرعة لم أتوقعها أو أحس بها ونجحوا في قهر الفقر الذي فشلت أنا أمامه … أما بالنسبة لآرائهم وتوجهاتهم فواحد يرى أمكانية وجود دولتين متجاورتين لشعبين ووجود فرصة للسلام. أمّا الثاني فلا يهمّه سوى جمع المال ومنافسة التجار ولا يريد شيئا غير ذلك … وأمّا الثالث فلا يرى أية فرصة للسلام والتعايش بين الشعبين ولا بدّ من طرد المحتلّين وتحرير فلسطين”. (الرواية، 116).
من الواضح أن الحلّ الأبرز والذي يتردّد بوضوح أو بالتلميح هو أن هناك فرصة للسلام عن طريق “إمكانية وجود دولتين متجاورتين لشعبين” وهو الحلّ الذي طرحه الشيوعيون منذ عشرات السنين، ليسدّوا بذلك الطريق على الثالوث الدنس (الاستعمار والصهيونية والرجعية العربية) الذي عمل على تشريد الشعب الفلسطيني ووأد قضيته. وكل الذين عارضوا هذا الحلّ، وعلى رأسهم الثالوث الدنس، أذهلهم وعي الشعب الفلسطيني وقدرته على الصمود وأعياهم أن يجدوا حلا آخر فعادوا ورضخوا لهذا الحلّ.
طبعا هناك الكثير مما يمكن أن يقال حول الدلالات التي يرمي إليها الكاتب في روايته، ولكنني سأقف بإيجاز عند أبرزها وأهمّها. القارئ الواعي على مختلف مستوياته الثقافية يمكنه أن يرى بوضوح أنّ أحد الابعاد الواضحة للرواية هو البعد التوثيقي فقد رمى الكاتب إلى توثيق أحداث النكبة، وهي قضية هامة جدا خاصة بالنسبة لأجيالنا حاضرا ومستقبلا، تلك الأجيال التي لم تعش النكبة ولكنها لا تزال تدفع ثمنها، الأمر الذي يعكس ارتباط الفلسطيني بوطنه مهما طال الشتات ومهما بعد الحلّ.
وعلى المستوى السياسي تظهر الرواية أيضا أنّ الفلسطينيين، مهما تعدّدت مواقفهم من الحلّ، ليسوا هم الذين يقفون في طريقه ولا هم الذين يعطّلون فرص السلام وإنّما الطرف الآخر هو الذي يقوم بذلك، ويبدو ذلك واضحا في المصير الذي يواجهه الفلسطيني كلما أعلن عن نيّة طيّبة، وقد انعكس ذلك فيما لقيه سعيد الحافظ من السكان الجدد عندما دخل إلى بيته بإذن من صاحبته الجديدة، فقد دخله بنية أن يراه لا أن يستولي عليه، ومع ذلك، فقد واجهه ابنا صاحبة البيت بالتهمة الجاهزة لكل عربي “أنت مخرّب” وحاولا قتله مظهرين بذلك ليس حقدهم فقط، بل والتربية التي نشأوا عليها من كراهية العرب، في الوقت الذي يفكر فيه معظم الفلسطينيين داخل الوطن وخارجه، أنّ التعايش وحسن الجوار وقبول الآخر هو الطريق إلى الحلّ. ومع إنّ الطرف الآخر هو الذي يقوم بإهدار فرص السلام وتعطيلها، إلا أنّ الأمل بمستقبل أفضل لا يفارق سعيد الحافظ، وهو ما يدعو إليه سعيد ومن ورائه عدنان عباس، وذلك يتمثّل بوضوح بشعوره في آخر الرواية أنّ ياسمينة تخرج من قلبه … تتفتح منها آلاف الزهور البيضاء … وتعبق رائحتها فتصل إلى السماء … فتمطر السماء الياسمين.
وهنا ربما تجدر الإشارة إلى أمرين بالمقارنة مع رواية “عائد إلى حيفا” لغسان كنفاني: أولهما أن الطرف الفلسطيني المتمثّل بـ “سعيد س” لم يطرح حلولا باعتباره الطرف الأضعف والمغتصَب مرة أخرى بعد نكسة 1967، ولم يكن أمامه خيار آخر غير قبول الحلّ الذي طرحه الطرف الآخر، المغتصِب؛ وبعدها عاد من حيث أتى. ذلك الحلّ الذي طرحه الطرف الآخر/المغتصِب، سواء طرحه بتفهّم حقيقي أو بخبث ودهاء سياسي، وهذا هو الأقرب إلى الواقع، كان المغتصِب قد درسه جيدا وجهّز نفسه له طيلة عشرين عاما، وأنّ توقّع ساكنة البيت الجديدة حضور “سعيد س” يخفي وراءه نصّا غائبا يظهر نيّة إسرائيل باحتلال ما تبقّى من فلسطين وإعدادها العدّة لهذا الأمر وما يترتب عليه فيما بعد. وعودة “سعيد س” هي أحد هذه الأمور وقد كانت محسوبة كما رأينا. بينما عدنان عباس وعلى لسان سعيد الحافظ، الذي يحمل قلبا يتسع للعالم بأسره، يطرح بشكل واضح ومباشر ولا يخلو أحيانا من سطحيّة لا تتلاءم مع إبداع الواقع الذي نتوخّاه من الرواية، يطرح الحلّ الذي يؤمن أنّه لا بدّ سيأتي، مستندا بذلك على الواقع الفلسطيني وتطوراته الاجتماعية والسياسية، وعلى الحتميّة التاريخية بانتصار الشعوب وحقّها بالسلام وبتقرير مصيرها، ما يجعله متفائلا لا يفقد الأمل.
والأمر الثاني هو انصراف عدنان عباس إلى أهداف مغايرة لأهداف غسان كنفاني، حيث جعل، كما ذكرت، التوثيق والأمانة في سرد الأحداث بتطابقها مع واقع حدث من جهة، وطرح الحلول التي تتلاءم مع المرحلة الراهنة من جهة أخرى، أهدافا لروايته، الأمر الذي ساعده على تجنب روتينية الموضوع وساعد في تقريبها إلى ذهن القارئ وقلبه.
* * * * *
ومن الناحية الفنية فقد أصاب عدنان عباس في هذه الرواية نجاحا أكثر من سابقتها، وأثبت قدرته على التعامل مع الزمان والمكان وقدرته في اختيار الشخصيات ورسمها بشكل لامست فيه الواقع الذي جاءت تتحدّث عنه أو تنقله إلى القارئ. وقد أجاد في اختيار الراوي وزاوية السرد رغم اعتقادي أنّه ارتكب خطأ في اختيار الـ “أنا” المشارك وذلك لأسباب سأذكرها لاحقا، إذ ربما كان من الأجدر أن يختار الراوي العالم بكل شيء. هذا النجاح في فنيّة الرواية أعطاها الكثير من الواقعية ما قرّبها كثيرا إلى ذهن القارئ وعقله وجعله يحسّ أنه جزء منها.
أختار الكاتب لأحداث روايته زمنا موضوعيا لا يتجاوز اليومين، هو الزمن الذي مكثه في المستشفى وهو غائب عن الوعي أو ميّت موتا سريريا. وهو يعترف فيما يشبه المونولوج أن دماغه هو الشيء الوحيد الذي يعمل لديه، وأنّ عقله وذهنه لم يكونا يوما أفضل مما هما عليه الآن، الأمر الذي حاول أن يقنع به القارئ بموثوقيته كراوٍ، والذي مكّنه أيضا أن يمتح أحداث الرواية من ذاكرته المثقلة بأحداث الماضي البعيد والقريب.
يوظّف الكاتب تقنية الاسترجاع بنجاح كبير حيث جعل بطله، سعيد الحافظ، وخلال مكوثه في المستشفى يترك حاضره ليعود بذاكرته إلى الماضي القريب يسترجع به أحداث رحلته إلى حيفا قبل ثلاثة أيام، أي من عبوره الحدود إلى أن سقوطه من شرفة بيته أثناء مواجهته مع سكانه الجدد فدخوله المستشفى. ومن ثمّ إلى الماضي البعيد حيث روى لسليمان ابن عمه قصته منذ اندلاع أحداث النكبة إلى أن وصل إلى بيته زائرا بعد تشرد دام خمسين عاما.
إذن تنقسم الأحداث إلى نوعين: داخلية وخارجية. الأحداث الخارجية لا تزيد على أن تكون مطابقة للزمن الموضوعي تتمثل في مكوثه في المستشفى واعتناء الأطباء والممرضات به وزيارات الأهل له. أما الداخلية والتي تدور في ذهن الراوي فتمتدّ، كما ذكرت، فترة خمسين عاما، وهو ما نسميه الزمن النفسي الذي يمكن ان نسترجعه خلال لحظة أو لحظات طالت أم قصُرت رغم امتداده إلى ما شاء الله.
السرير في إحدى غرف أحد المستشفيات في حيفا هو المكان الجغرافي الذي اختاره عدنان عباس مسرحا للأحداث الخارجية في روايته والغرفة في المستشفى هي المكان المغلق الذي له دلالاته. وبغضّ النظر عن شكل الموت، سريريا كان أم حقيقيا، ما يهمّ سعيد الحافظ هو أنه يموت سعيدا حتى بموته لانّ ذلك يحدث بين أهله: زوجته وابنه وأقاربه الذين يحبّهم، وربما الأهم من ذلك، موته على أرض حيفا/الوطن الذي عاد إليه ليبقى فيه حتى ولو ميّتا. وهذا يبيّن أهمية المكان ببعديه: الجغرافي والنفسي، بالنسبة لسعيد الحافظ ولعدنان عباس وللإنسان الفلسطيني بشكل العام والإنسان الفلسطيني الذي شُرّد من وطنه بشكل خاصّ.
أمّا المكان بأبعاده الأخرى وخاصة البعد النفسي فقد شكّله عدنان عباس واقعيا مطابقا لرحلتيْه. رحلته من الأردن إلى حيفا عائدا إلى الوطن. ورحلة آلامه في دفاعه عن حيفا وخروجه منها ثمّ عودته إليها مصابا لتمرّضه سلمى ثمّ يتزوجا في الكنيسة. ثمّ رحلته إلى أم الفحم، حيث يتمركز “جيش الإنقاذ”. ثمّ محاولته العودة إلى حيفا مع علي الصفدي، بعد أن خاب ظنّه بذلك الجيش؛ تلك الرحلة التي باءت بالفشل وانتهت بسقوط عليّ وخروج سعيد قسرا من الوطن ليجد نفسه مضطرا لعبور النهر والاستقرار في الأردن.
ذكر الأشخاص بأسمائهم المأخوذة من الواقع والأماكن بأسمائها التاريخية، سواء بقيت أم دمّرت، يؤكّد، مرة أخرى، واقعية القصة ومعرفة عدنان عباس ما حدث في الزمان والمكان، ويبيّن مكانة هؤلاء الأشخاص وتلك الأماكن في نفسه ونفوس أشخاص روايته والأنسان الفلسطيني عامة.
سعيد الحافظ، الشخصية المركزية في الرواية وهو الراوي كذلك. نجح عدنان عباس إلى حدّ كبير في رسم هذه الشخصية التي تعرفنا عليها من خلال مسارين مختلفيْن يكمّل أحدهما الآخر. أولهما وجود سعيد في المستشفى ومونولوجه الداخلي أثناء موته السريري، فقد كان منقطعا عن العالم الخارجي حوله، إذ كان كل شيء فيه مشلولا إلا دماغه الذي كان يعمل بشكل جيد وكذلك ذاكرته، وقدرته على رؤية ما يحدث في الغرفة فقد كان يرصد الحركة في الغرفة من زاوية ضيّقة ومن عينين جامدتين بحكم شلله، وكذلك من قدرته على سماع الأصوات حوله. هذه الصورة تبدو في البداية غير مقنعة ولكن إذا عمقنا النظر فيها سنجدها جزءا من إبداع عدنان عباس عندما نحاول فهم الأسباب التي جعلته يختار للشخصية الرئيسية/البطل هذه الصورة، وسأبيّن ذلك عند حديث عن الراوي وزاوية السرد.
أما المسار الثاني الذي نتعرّف من خلاله على البطل فهو هذا التداخل بين الماضي والحاضر وترك سعيد لحاضره وغوصه في ماضيه القريب والبعيد عبر الذاكرة وتقنية الاسترجاع.
من خلال هذين المسارين نجد أنفسنا نقف أمام شخصية وإن كانت قارّة في مسارها الأول، فهي متطورة مقنعة مدهشة في الثاني. عبر هذه الشخصية يقدم لنا الكاتب نموذجا حيّا للإنسان الفلسطيني الذي حمل الهمّ الفلسطيني منذ أن داهمته النكبة وبشكل أقسى بكثير من توقعاته وقدراته، إلى تشرّده المرير الذي دام عشرات السنين، ولكنّ هذا التشرّد رغم مرارته كان أعجز من أن يفقده الأمل أو ينسيه الحلم، إلى أن عاد إلى حيفا ولو بالصورة التي عاد فيها.
أشخاص الرواية الآخرون كلّهم عبارة عن شخصيات ثانوية ثابتة وظّفها الكاتب ليستكمل بها حاجات البطل وصورة الهمّ الفلسطيني، وما كثرة هذه الشخصيات وتوزيع حضورها ومهامها بين الماضي والحاضر إلا تعبير عن كثرة مركبات هذا الهمّ وتعقيداته من جهة، ومن جهة أخرى، تعبير عن وعي عدنان عباس وإدراكه لهذه المركبات والتعقيدات، وقدرته على إبداع شخصيات ساهمت، في تحركاتها في زمانها ومكانها، مجتمعة وكل على حدة، مع البطل في إتمام الصورة التي نجح في عرضها أمام القارئ بشكل مدهش رغم كل المركبات والتعقيدات.
وقد ساهم الحوار، سواء كان داخليا في نفس سعيد أو خارجيا بينه وبين سائر أشخاص الرواية، مع ما فيه من أخطاء أحيانا، سواء في مبناه اللغوي أو توزيعه على أشخاص الرواية أو خلطه مع السرد، مع ذلك فقد ساهم مساهمة كبيرة في معرفتنا لشخصية البطل وأشخاص الرواية من جهة، وفي ربط مكونات السرد وتقوية نسيج الحبكة من جهة أخرى.
لقد سبق لنا الحديث عن أحداث الرواية وتسلسلها، ويبدو ذلك واضحا في الرواية نفسها وفي ملخّصها السابق ذكره. لقد تسلسلت الأحداث بشكل منطقي مترابط بحيث نسجت، مع أشخاص الرواية وارتباطها بزمانها ومكانها، حبكة متماسكة فيها الكثير مما يشدّ القارئ ويقنعه بحيث يتعاطف إلى حدّ التماثل مع الأحداث والأشخاص على حدّ سواء.
أمران يمكن أن نسجل فيهما على الكاتب بعض المآخذ: لغة الخطاب والراوي: أن يكون عدنان عباس قد اختار الراوي الـ “أنا” المشارك كشخصية رئيسية في الرواية تحدّثنا عن تجربتها وما واجهها من أحداث وكيف تعاملت هي مع هذه الأحداث، فهو اختيار موفق لا مآخذ لنا عليه إذ أنّ أيّ شخص هو أدرى بما حدث له ومن المفضّل أن يكون هو الذي يروي مادة حكايته، الأمر الذي يعزّز لدينا الثقة بالراوي التي هي عنصر مهمّ في أيّة رواية أو أيّ عمل سردي. ولكن، أن يختار الكاتب راويا ميّتا موتا سريريا هو في حساب القارئ غائب عن الوعي، فهو أمر، وربما مأخذ، مثير لكثير من الجدل والتساؤلات كان عدنان عباس يستطيع أن يتجنّبه بواسطة توظيف راوٍ عالم بكل شيء يبدأ الرواية على الأقلّ في مسارها الأول (وجود سعيد الحافظ ميّتا موتا سريريا في المستشفى)، وبعد ذلك يغيب عن الساحة بعد أن يمنح ثقته لبطله في متابعة السرد وهذه الثقة التي يمنحها لبطله من شأنها أن تدعّم ثقة القارئ بالبطل وبالراوي وبالكاتب على حدّ سواء.
أمّا أنّ عدنان عباس لم يفعل ذلك، فقد وضعنا أمام كثير من التساؤلات: “لماذا الراوي الـ “أنا” وليس العالم بكل شيء؟ هل يريد عدنان عباس وعلى حساب الإبداع أن يلفت انتباه القارئ إلى قدراته الشخصية؟ أم أنّه خاف من صعوبة التعامل الراوي الغائب العالم بكلّ شيء فلجأ إلى الـ “أنا” في معظم أعماله وخاصة في روايتيه من منطلق أنّ التعامل مع الـ “أنا” أسهل من التعامل مع الـ “هو”؟”، وغيرها الكثير. ولكن، بما أنّه من الصعب التسليم بأنّ جهل الكاتب أو خوفه هما الدافع، رغم توظيفه الشكل نفسه من أشكال الراوي في روايته السابقة، والدليل على عدم خوفه أو جهله هو أنّه كان قد وظّف الراوي العالم بكل شيء توظيفا ناجحا في عدد لا بأس به من قصصه القصيرة. وبما أنّا سبق وذكرنا أن عدنان عباس عبّر في أكثر من قصة أنّه يعي أنّ الراوي هو ليس مجرد شخصية، غابت أم حضرت، تروي قصة وتسرد أحداثا، وإنّما هو تعبير عن موقف سواء كان ذلك موقف الشخصية أو موقف الكاتب نفسه، لذا كانت من الضرورة بمكان أن نحاول وبشكل آخر، فهم اختيار عدنان عباس لشخصية الراوي.
من أجل الموضوعية أقول أنّ الحقيقة تكمن في عقل عدنان عباس وقلبه. لكنني أقول ولو بحذر، ومن منطلق الحقيقة التي ذكرتها (وعي عدنان عباس إلى أنّ الراوي هو تعبير عن موقف) أنّه اختار هذا الراوي ليعبّر عن موقف فعلا. إنّ الناظر إلى أحوال الشعب الفلسطيني في المرحلة الراهنة، والتي فيها كُتِبت الرواية، يجد أن حاله تشبه إلى حدّ بعيد حال سعيد الحافظ في رقدته في المستشفى، محاصرا يراقب الأمور من زاوية ضيقة. وكذلك الشعب الفلسطيني الذي يكاد يكون عاجزا إلا عن صموده، هو الآخر محاصر بالاحتلال والرجعية العربية والقانون الدولي الذي يكيل بمكيالين. هذا على مستوى الشعب. وعلى مستوى القيادة الصورة أشدّ قتامة حيث تشكّل هذه القيادة عنصرا من عناصر الحصار. إنّه يرى ويسمع ما يدور حوله ولكنه عاجز عن المشاركة في الأحداث أو التأثير عليها. هناك بالتأكيد من يقصد تغييبه وما من أحد يساعده. فهو مكبل اليدين حيثما وُجِد. يحلم ويتحمل كلّ الأهوال والمآسي لتحقيق حلمه، ليعود إلى فلسطين، ولكنّه إذا عاد يقتل أو يسجن. كأنّه مسكون بلعنة توازي وتساوي همّه. وما أصدق الشاعر العراقي المشرّد، مظفر النواب حين قال في إحدى قصائده في صرخة تراجيكومية لا حدود لحزنها وتعبيرها عن المأساة الفلسطينية: “أولاد القحبة … أولاد فلسطين … سوف تعودون إلى أرض فلسطين … ولكن جثثا”. أليس هذا هو حال الشعب الفلسطيني؟ أليس هذا هو حال سعيد الحافظ، البطل والراوي في رواية عدنان عباس؟
أمّا فيما يتعلّق بلغة الرواية فإننا لا بدّ أن نكرر المأخذ الذي سبق وذكرناه في حديثنا عن الأعمال السابقة. كثرة الأخطاء اللغوية تحرف في كثير من الأحيان ذهن القارئ عن جمالية اللغة من جهة وعن أهميتها في الوصول إلى دلالات ربما لا يتأتّى لنا الوصول إليها إلا من خلال البنية اللغوية التي يعوّل عليها كثير من الكتّاب. ولذات كان يجب على عدنان عباس أن يهتمّ أكثر بسلامة لغته.
وظّف الكاتب في روايته، اللغة الفصحى البسيطة القريبة من العامية متّكئا على كثير من الالفاظ العامية التي استعملها بشكل مفصّح مما أشار إلى قدرته على التعامل مع مستويات اللغة المختلفة وصياغتها مطابقة لحاجات السرد والحوار، تعبّر وأن كان في أحيان متباعدة، عن شاعرية كان يجب على الكاتب أن يعطيها اهتماما أكثر لأنّ كل عملية بناء سردي هي، في بادئ الأمر، عملية بناء لغوي. العبارتان التاليتان تؤكّدان شاعرية اللغة وقدرة الكاتب على التعامل معها: “بقيت الشمعة وكلّ منا ينظر إلى الآخر … هي تحترق وأنا أحترق وكلانا يشكو همومه إلى المجهول” (ص 69). “في بضع دقائق كان الخبز وجميع ما في الطبق في ضيافة معدتي” (ص 70). يلاحَظ في العبارة الثانية كيف فصل بين الخبز وباقي ما في الطبق، وكان يستطيع أن يقول: “في بضع دقائق كان جميع (أو كلّ) ما في الطبق في ضيافة معدتي” والخبز بضمن الجميع، ولكن هذا الفصل بين الخبز وجميع ما في الطبق يؤكّد إحساس عدنان عباس باللغة وبالأشياء التي جاءت تعبّر عنها.
لم يسلم الكاتب أحيانا، ولا لسبب واضح، من لغة الخبر أو التقرير الصحفيّ السريع والتي استعملها غالبا موجزة كأنما يريد الكاتب أن يخلص سريعا من همّ يجثم على صدره. هذا الأسلوب قلّ استعماله في رواية “السماء تمطر الياسمين” إلا أنّه موجود، ولكنّه، وكما سبق لي أن ذكرت، يستعمله بكثرة في روايته الأولى “البحر والغضب”.
* * * * *
عدنان عباس، في مجموعة قصصه وفي روايتيه، ومن خلال أبطاله، يمكننا أن نراه بمنظارين مختلفين: أولهما، وهو الأقل تفاؤلا، يبدو أنه يحمّل نفسه أعباء كثيرة جعلته مشتتا يطارد نماذج عديدة من الشخصيات أو تحديدا من الأبطال، رغم ما يجمع أبطاله من سمات وصفات إيجابية عديدة، مما جعله يضيع الشخصية الحقيقية التي يبحث عنها ويفشل في الوصول إليها. وثانيهما، وهو الأكثر إيجابية وتفاؤلية، هو انّ عدنان عباس وضع في كل بطل من أبطاله سمة، بحيث لو تجمعت هذه السمات لشكّلت الشخصية المركبة التي يبحث عنها، وهو ما حاول الوصول إليه في روايته “البحر والغضب”، ولكنّ نجاحه فيها كان جزئيا.
لم يترك هذا الكاتب جانبا من جوانب قضايا شعبه إلا ويخوض فيه، ويبحث فيه وله عن بطل محتمل يمكن أن ينتصر لهذا الشعب المقهور.
لقد رأينا البطل في كل قصة من قصص المجموعة يحمل صفة أو مجموعة صفات للإنسان، الفلسطيني بشكل خاص، الذي يطمح عدنان عباس إلى رؤيته يلعب الدور القيادي في المجتمع الفلسطيني الذي يطمح إلى بنائه من جديد بعد هدم ما فيه من سلبيات. ولذلك فإننا نرى أنّ البطل في تلك القصص، إمّا أن يكون إنسانا فلسطينيا مفعما بإنسانيته وفلسطينيته، يناضل ضد السلطة وضد الاحتلال من أجل التحرر وإحقاق حقوق شعبه بتقرير مصيره وبناء دولته المستقلة. وإما أن يكون عاملا كادحا مسحوقا وشيوعيا تقدميا واعيا يناضل ضد السلطة بشكل عام، وضد سلطة أرباب العمل وجشعهم واستغلالهم لطبقة العمال بشكل خاص. وإمّا أن يكون إنسانا أمميّا يؤمن بحق الإنسان في الحياة بغضّ النظر عن هويّته أو انتمائه الاجتماعي أو السياسي أو العرقي.
وكما ذكرت، فإذا جمعنا صفات وسمات أبطال عدنان عباس في قصص مجموعته وفي روايتيه، وشكلنا منها شخصية واحدة، وهو ما حاول أن يفعله مع ماجد شامل، بطل روايته “البحر والغضب”، سنجد كأنّه، أي عدنان عباس، يبحث عن بطل جمعي، ولا أقول مثاليّا، لأنّ مثله لا يؤمن بالمثالية، ولكنه يسعى دائما للاقتراب منها، إنما يبحث عن بطل جمعي بمفهوم وقصد التعبير ليس عن الجماعة فقط وإنّما البطل الذي تتجمّع لديه مجموعة من الصفات، تلك التي يجب أن تتحلّى بها الجماعة، والتي لا تتأتّى لفرد وإنما تكتمل بتكامل الجماعة. هذا الأمر يشير إلى أنّ الكاتب، نفسيّا وفعليّا، يتوق ليس إلى خلاصه هو فحسب وإنّما إلى خلاص طبقته ومجتمعه وشعبه والإنسانية كلّها من كل أسباب المعاناة التي ما أكثر من رزحوا وما زالوا يرزحون تحت نيرها.
* * * * *
وختاما، استعرضت في هذه الدراسة، وبشكل سريع، جميع أعمال عدنان عباس التي رأت النور، تلخيصا وقراءة في بنيتها ودلالات مضمونها. لا أدعي أنّي قلت كلّ ما يمكن أن يقال، سلبا أو إيجابا. ولم أطرق كلّ الأبواب سواء من حيث الدلالة أو البناء. كما أنّي لم أقتبس من النصوص إلا القليل الذي وجدته يساعد على فهم ما طرحته من أفكار.
لا شكّ أنّ أعمال عدنان عباس، بجوانبها المتعدّدة من حيث الأجناس والمواضيع، تستحقّ أكثر من هذه الدراسة، وفيها الكثير مما يستدعي التوقف عنده وشرحه باستفاضة وبشكل أعمق. ولكنّي أتوقّف عند هذا الحدّ راجيا أن أكون قد بلغت الهدف المنشود من التعريف بعدنان عباس وأعماله السردية التي نشرها، بين قصة قصيرة وراوية.


[1] . هذه الدراسة نشرت في ملحق جريدة “الاتحاد” وفي موقعي “الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة” و”ديوان العرب” بتاريخ: 23.05.2009. 

By د. محمد هيبي

أستاذ اللغة العربية، كاتب وناقد أدبي. ولد في 5/3/1952 في قرية كابول، في الجليل الغربي، القريبة من "ميعار" المهجرة، مسقط رأس والده الشاعر الشعبي الفلسطيني، أحمد محمد هيبي (المعروف بالكشّوع أو أبو عصام الميعاري). هُدِمت ميعار وشُرّد أهلها في النكبة الفلسطينية عام 1948.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *