*قراءة في رواية د. محمّد هيبي “نجمة النمر الأبيض*

 

*بقلم د. راوية جرجورة بربارة*

 

مساؤكم ربيعيّ على شفا البدايات الغرائبيّة كعنوان الرواية التي نتناولها اليومَ، “نجمةُ النمر الأبيض”، وتتجلّى هذه الغرائبيّة في الإضافةِ النحويّة، فكيف يمكن أن نضيفَ النجمةَ المتلألئةَ في السّماءِ إلى حيوانٍ أرضيّ؟ وهل يمثّل هذا الحيوانُ كوكبًا سيّارًا تتعلّقُ النجمةُ بأذيالِه؟ وكنّا قد سمعنا عن مجموعة الدبّ الأبيض، فكيف تحوَّلَ بقدرةِ قادرٍ إلى نمرٍ أبيض؟ وكيف تزدادُ هذه الغرائبيّةُ كلّما قرأْنا ما بعدَ بعدَ الغلاف، ليتّسعَ المدلولُ فيصبحَ النمرُ الأبيضُ مكانًا متخيّلًا، ومعادلًا موضوعيًّا لمكانٍ حقيقيّ هُجّرَ أهلُه، فأصبحَ حلُمًا، ومنارةً وهدفًا ونمرًا أبيض؟!
والنمرُ الأبيضُ حيوانٌ وُلِدَ نتيجةَ طفرةِ معيّنةٍ ونتيجةَ تزاوجٍ ولَّدَ صنفًا غريبًا من النمورِ، آيلًا للانقراضِ، وكأنّه المكانُ الفلسطينيُّ المهجَّرُ أهلُه، والذي أصبحَ مكانًا آيلًا للنسيانِ لولا تلكَ الرواياتِ التي توثّقُ كينونةَ شعبٍ لا وطنَ له، وكينونةَ وطنٍ متخيّلٍ نعيشُ على ذِكراه.
هذه الإضافةُ في العنوان تتركُنا نتساءَلُ، باحثين عن البقيّةِ داخلَ الروايةِ لنسدَّ تلك الفجوات التي تركها العنوان، خاصّةً وأنَّ النجمةَ تتحوَّلُ في النهايةِ إلى معادلٍ موضوعيٍّ للمرأة التي أحبَّها الراوي، والتي لن يتزوّجها إلّا في المكان المنتظَرِ.

وذكّرني هذا الانتظار المسيطرُ على الروايةِ من أوّلها إلى آخرها، هذا الانتظار لاستمرار الحياةِ، المشروط بالعودة، بقصّةٍ حدثت معي قبل سنتيْن تقريبًا في الجامعة، وكنتُ أعلّم طالبةً بيضاءَ عبلاءَ اسمها “عبور”، فأناديها وأنا لا أعرف إذا كان اسمها على رسمِها، فأفتح الميمَ لتُشبِهَ هي ذاك العَبور/الخروف الأبيض، سألتُها فقالت: “أنا عُبور”، وسمّيْتُ كذلك لأنّني خُلِقتُ زمن الحرب، وزمن العُبور، فضحكتْ مِن هناك طالبة اسمها “فلسطين” وقالت لنا: “وأنا سمّوني فلسطين، وفي المستشفى يومَ ولادتي تقاتلت جدّتاي، فالأولى قالت: لا تسمّوها فلسطين، غدًا ستكبر وتدخل الجامعة واسمها سيغلّبها، فأجابتْها الثانية: هوو هوو، من اليوم حتّى تكبر “فلسطين” وتدخل الجامعة، بدها تظلّ إسرائيل برأيكم؟ سمّوها واتّكلوا على الله!

وما زالت فلسطين بحالتَيْها، باسمِها المحمول في الشخصيّات وباسمها الترابيِّ… ما زالت في الانتظار، كصاحبنا الأعفم الذي قضى عمرَه منتظِرًا، وعلّقَ حياتَه بالخيالِ المتوَهَّم، بالمكان المتخيَّل، وبالحلُم المتوهَّم في خيالِه.

  وهكذا فإنّ ورقتي هذه ستكون عنِ الكتابة كآليّةِ تفريغٍ في مقاربةِ جدليّةِ الإنسان والمكان، “المكان – بمفهومه الواسع الذي لا يقتصر على الجغرافيا، وإنّما يشمل الواقعة الاجتماعيّة ككلّ – وله أهميّة كبرى في سياق تحليل الظواهر الإنسانيّة، ذات الطابع الاجتماعيّ العام.” سأتحدّث عن تعالق الإنسان والمكان مِن أطلال امرئ القيس إلى أطلال محمّد الأعفم، هذا الإنسان العربيّ الفلسطينيّ المهجَّر المشرَّد المتخيِّلُ المتوهِّمُ المنتظِر!
فبينما استوقف امرؤ القيس صديقيه ليبكيا أطلالَ حضارةٍ وأطلالَ محبوبةٍ:

قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ   –   بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ

نجد أنّ محمّد الأعفم يستوقفُ القارئَ ليستعيدَ معَه ذكرياتِ طفولةٍ تشبهُ مقاطعَ سيرةٍ ذاتيّةٍ لشخصيّةِ الكاتب التي تلتبس علينا بقناع محمّد الأعفم المخبَّأ في أغلب المشاهد والذكرياتِ، الوجهَ الحقيقيَّ للكاتبِ الضمنيّ الذي اتّخذ موقفًا من قضيّةِ المنارة، واختبأ خلف قناعِهِ وقناعاتِه ليخبرَنا حقائقَ التشريد والتهجير، والبقاءَ والنزوحَ، والحلمَ بالعودة، والعيشَ في الأوهام.

أوَ تكونُ حكايةُ العربيّ حكايةَ بداوةٍ دائمةٍ لا يطيبُ فيها المقامُ ولا الترحال؟ هل ستصبح علاقتُنا بالمكان علاقةً تتناسلُ من رحمِ التاريخِ، ورحمِ الماضي فتعلّقُ الذكرياتُ أدبَنا جداريّاتِ ترحالٍ دائمٍ على معلّقات القلوب؟ مِنَ الوشمِ الذي يلوح في ظاهرِ اليدِ تلويحًا لأطلال خولةَ في برقةِ ثَهمدِ، إلى متردَّم التي غادرها الشعراء لأنّ عنترةَ عرَفَ الدارَ بعد توهُّمِ، إلى هريرةَ / سلوى التي ودّعها حبيبُها لأنّ الرّكبَ مرتحلُ، وهل تطيقُ وداعًا أيّها الرجلُ؟ فها هو محمّد الأعفم لم يطق وداعًا، ولم يحتمل، وربطَ مصيرَه المستقبليَّ وزواجَه وتتمّةَ حياتِه بعودته إلى المنارة، فبعد التسلّل والتشرّد خارجَ الوطن، شعر الوالد قاسم الأعفم أنّه “لا حياة لك هنا، لا حياةَ لك بعيدًا عن المنارةِ” (ص. 186)، “عادوا إلى الوطن، ولكن ليس إلى المنارة. صارت حينها “رُجمهْ”، كومة من الحجارة مُنعوا من الرجوع إليها” (ص.186) وكأنّها ديار لبيد بن ربيعة العامريّ وقد:

“عَفَتِ الدِّيَارُ مَحلُّهَا فَمُقَامُـهَا   –   بِمِنى تَأَبَّدَ غَوْلُـهَا فَرِجـامُـها،

وكأنّ الحجارةَ التي حنّ إليها قاسم ونسله من بعدِهِ، هي حجارةُ نُعْمٍ التي حيّاها النابغة الذبيانيّ:

عوُجُوا فَحَيُّوا لِنُعْمٍ دِمْنَةَ الدَّارِ   –   ماذَا تُحَيُّونَ من نُؤْي وأَحْجَارِ

إذًا حتّى لو عاد الإنسان إلى الوطن هرَبًا من المنفى الظالم على حدّ تعبير الراوي “إنّ الوطن الظالم أرحم من المنفى”(ص. 163)، إلّا إنّ العودةَ لم تكن إلى المنارة إلى البيت الأوّل، والطفولة، وحمدة، وها هو التعالق بين المكان والإنسان يخرج ثانيةً من رحم تاريخ ميسون التي عاشت غربتها في القصر وآثرت عليه الخيمة: “لبيتٌ تخفق الأرياح فيه – أحبُّ إليَّ من قصرٍ منيف”، فما سرّ حنين محمّد الأعفم إلى المنارة؟ وإلى أيّ مكانٍ عادةً يحنّ الإنسانُ؟ ونحن نعلم أنّ المكان لا يستمدّ هُويّتَهُ وجماليّاتِه من تضاريسِه وبيئته فقط إنّما من ناسِه، ومن ذكرياتِهم، ويصبح المكانُ حميميًّا إذا ترك في نفسِكَ أثرًا، ويصبحُ المكانُ على شاكلةِ ساكنِه، ويصبحُ الإنسانُ على شاكلةِ المكان الذي يقطنه، فالمكان ليس صورةً مطلقةً مجرّدةً، إنّه الهُويّةُ لساكنِهِ، لذلك عندما تفقد مكانًا تشعر أنّك فقدتَ هُويّتَكَ، ماضيكَ، ذكرياتِكَ، ذاكرتَكَ، وها هو الكاتب الضمنيّ المختبئ خلفَ قناعِ الراوي الضمنيّ يصرّح في الرواية: “كنت أعرف أنَّ الذكرياتِ أحيانًا، تكون لدى البعض مجرّد كلامٍ يردّدونه للتسلية وتمضية الوقت، ولدى البعض وسيلة يستعينون بها على قهر الحاضر وزيفِه وأوهامِه. وكنت أنا من هذا النوع الأخير، أستعين بذكرياتي لقهرِ حاضري وأوهامَه، وأرفض أن يطلقَ الكلامُ هباءً تنثرُه الرياح، الصمت أفضل من كلام بلا معنى، لذلك رحت أقلّب الماضي القريب والبعيد، السنين بشهورها وأيّامها وساعاتها، أبحث فيها عن منابع الكلام، فلا أجد غير المنارة” (ص. 148).

إذًا ها هو كاتبنا كشعرائنا، منابع كلامِه عن المنارة، عن المكان، فهو ذاك الشقيّ محمّد الأعفم الذي عاجَ على المنارةِ يسائلها، ويسأل نفسَه عن كيفيّة قضاءِ أيّامه بعد التقاعد قائلًا: “ماذا سأفعل غدًا؟” (ص.31، 26) فأتاه جوابُ امرئ القيس: “اليومَ خمر وغدًا أمر”، وعاج أصدقاؤه يسألونَه حين أراد الخروج للتقاعد المبكّر: “وهل ستتزوّج وتنجب … وتستردّ المنارة بالكتابة أيضًا؟” (ص. 30)، فأتى الأمرُ، وهو كتابةُ الروايةُ، ليلقي حِملًا من الذكرياتِ يُثقِلُ كاهلَهُ، وكاهلَ حاضِرِهِ الذي يئنّ تحت وطأةِ الماضي الذي لا يريد فكاكًا، ولولا التفريغ الحاصلُ في الروايةِ، لما استكان الأعفم، ولا استكان هيبي، ولا استكانَ بركانُ الذكرياتِ الذي وثّقَ مرحلةً مهمّةً، يجب أن تبقى، كي لا ننسى، لأنّنا وكما قال المرحوم سلمان ناطور أديبُنا الكبير: “كي لا تأكلنا الضباعُ إن بقيْنا بلا ذاكرة”… لذلك أتت الروايةُ استرجاعًا للذكرياتِ، تنتقل بين زمنيْن، الماضي المتخيّل في الذكريات، والحاضر المقيتُ بكلِّ صعوباته لمعلّم عربيّةٍ أرادَ التقاعدَ، لإنسانٍ يعشقُ لغتَه ووطنَه الذي فقَدَهُ، وحين خاف الفقدَ ثانيةً، قرّر أن يدوّنَ، كي لا تضيعَ اللغةُ ولا الماضي، ولا المستقبل، فنسمعه يقول: “رحت أبحث عن الماضي الذي تراكم في ذاكرتي، عن تجاربَ عشتها، وأخرى عاشتها أمّي وعاشها أبي وغيرُهما من المشرّدين، رحت أبحث عمّا سمعته منهم من حكايات، تلك الحكايات البائسة التي توالَدَ بؤسُها وتكاثرَ، وتراكمَ فصنع حاضرًا أكثر بؤسًا، أبحث فيما عشته وعاصرته، وعاشوه وعاصروه من آفاتٍ ومحنٍ، لعلّي أظفرُ منه بما يشدّ أزري ويقودني فأضع قدميّ على أوّل الطريق إلى المنارة” (ص. 150).

يحنّ الراوي الأعفم إلى المنارة لأنّها وكما قال غاستون باشلار في كتابه جماليّات المكان: “إنّ المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكانًا لا مباليًا، ذا أبعاد هندسية وحسب، فهو مكان قد عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعيّ فقط، بل بكلّ ما في الخيال من تحيّز. إنّنا ننجذب نحوه لأنّه يكثّف الوجود في حدودٍ تتّسم بالحماية “. إذًا هو الحنين إلى الحمايةِ ما دفعَ الأعفم لربط حياتِه المستقبليّة بالمنارة، إذ لا يمكنُ أن يتزوّجَ ويستقرَّ وهو لا يشعر بالحمايةِ، لأنّه لا يشعر بالانتماء إلّا إلى ذاك المكان المتخيَّل الذي يبعث في نفسه القلق، لأنّه مسلوبٌ، فكيف يحمي أسرةً مَنْ لا يشعر بالأمان؟

لماذا هذا الحنين إلى المنارة؟ لأنّ الشاعر كان له القول الفصل حين قال:

“كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى   …   وحنينه أبدًا لأوّل منزل”

ولماذا أتى الحنين على شكلٍ إبداعٍ روائيّ؟

ربما يكون المكان الحلم هو المكان الذي نستطيع فيه تحقيق عزلتنا عن الألم حيث يمكننا أن نفكّر بهدوء، لنقدّم عملًا خلّاقًا. يؤكّد باشلار إنّ الإنسان يعلم غريزيًّا أنّ المكان المرتبط بوحدته مكان خلاّق … يحدث هذا حين تختفي هذه الأمكنة في الحاضر، وحين يعلم أنّ المستقبل لن يعيدها إلينا، وحين يعلم أنّه لم يعد هنالك عليّة ولا حجرة سطحٍ، تظلّ هنالك حقيقة إنّنا عشنا مرّة في حجرة السطح … وإنّنا مرّة أحببنا العُليّة”، وأنّ لكلٍّ منّا منارتَه التي يحلُم بالعودة إليها، ومكانَه المتخيَّل الداعي للأمل، ولكلّ فلسطينيّ منارته التي عبثت بماضيه، عبثت بذكرياته، عبثت بحاضره، ولا يستطيع الاقتراب منها، ولا الابتعاد عنها:

“على أنّ قرب الدار ليسَ بنافعٍ   –   إذا كان من تهواهُ ليس بذي ودّ”

ولكن حتّى ولو كانت الدار قد خلت من أهلها، إلّا أنّ ترابَها ما زالَ يشمّ روائحهم وزعترهم وزيتهم، ولكنّك يا محمّد الهيبيّ الأعفم، أراك قد أضعتَ الحبكةَ من كثرة لهاثِك وراء التفريغ، فلم تربطنا بتصاعدٍ وتأزّم وتهافتٍ إلّا بدرجةٍ لم تطغَ على قوّةِ بوحِكَ، أراك استطردت في سرد الذكريات، فهمّشتَ الواقع والحاضر وحصرتَه في تقاعدكَ من التعليم، وفي علاقتِكَ المنتظِرة المنتصرة من بدايتِها تلميحًا وتصريحًا لسلوى الأعفم، الإنسانة العربيّة الفلسطينيّة المهجَّرة والتي قد تكون من أيّة منارةٍ فلسطينيّة، فلا فرق ما دام هذا الماضي هو المكان، وما دام الزمان يتعالق مع المكان ليبقى المكانُ عالقًا في زمنٍ واحدٍ، ويتحوّل هذا المكان منارةً للتائهين، وتصبحُ سلوى هي النجمة التي يهتدي بها الأعفم إلى منارته، إلى النمر الأبيض الفريد من نوعه، وهكذا نجد المكان قد “جمع الشتيتيْن بعد أن ظنّا كلّ الظنّ أن لا تلاقيا”، وأنّ المكان أعطى المرأة الأمّ والحبيبة المعشوقةَ أن تكون هي مكان استقرار الرجل، وأنّ المكان هو الطلل الذي نبكيه، والمعشوقة التي نستوقف القاصي والداني ليبكي فراقَها معنا.

*نصّ الكلمة التي ألقيَت احتفاءً بالرواية في جمعيّة “إبداع”- كفر ياسيف*

By د. محمد هيبي

أستاذ اللغة العربية، كاتب وناقد أدبي. ولد في 5/3/1952 في قرية كابول، في الجليل الغربي، القريبة من "ميعار" المهجرة، مسقط رأس والده الشاعر الشعبي الفلسطيني، أحمد محمد هيبي (المعروف بالكشّوع أو أبو عصام الميعاري). هُدِمت ميعار وشُرّد أهلها في النكبة الفلسطينية عام 1948.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *