ما قبل الكلام

يبدو أن بعض الروائيين عندنا قد اكتشفوا في سن متأخرة، بفعل انغماسهم في الأدب، مدى حاجة قضايانا الملحة إلى المعالجة عن طريق الرواية، لا عن طريق المقالة السياسية والأدبية. فعالم الرواية، كما نعلم، عالم واسع قادر على احتواء أماكن شاسعة وأزمنة وحوادث متعددة، وقادر على العيش لفترة زمنية أطول. والرواية تتسع ل”حيل” فنية يتخفى الروائي من خلالها ليبدو محايدا، فيتمكن من التواصل مع عدد أكبر من المتلقين. وهي وعاء واسع فضفاض يشمل أفكارا عدة ومواقف متناقضة تساهم في مخاطبة المتلقين على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والعقائدية.أما المقالة، سواء كانت أدبية أو سياسية،فهي محكومة مسبقا بانحيازها نحو الكاتب المؤلف، باعتبارها مقالة مجنِّدة ومجنَّدة.
للرواية أصولها وتقنيّاتها التي يقوم الروائي بتوظيفها كي تتحقق عملية التواصل بين المرسل والمرسل إليه. فهل يكفي الكاتب أن يعرف هذه الأصول وهذه التقنيّات؟ سؤال يجب أن يطرح ونحن نتناول رواية الناقد محمد هيبي الأولى، “نجمة النمر الأبيض” (2016). وهل كونه ناقدا عالما بأصول الكتابة ومالكا لمفاتيح النقد قادر على أن يطبقها على ذاته؟
للإجابة عن هذه الأسئلة سنحاول التطرق إلى بعض عناصر الرواية ومركباتها الفنية، لنرى أين وفق الروائي أكثر وأين وفق أقل.

ملخص الرواية

تدور أحداث الرواية حول شخصية محمد الأعفم الذي عمل مدرسا للغة العربية في إحدى المدارس العربية وقد جاوز الستين عاما دون أن يرتبط برفيقة تكون زوجة وأما لأطفاله، كما كان يحلم والده الذي توفي دون تحقيق أمله، بل إن محمد الأعفم قد نذر حياته ل”المنارة”وعشق اللغة العربية،فعمل جاهدا على نقل هذا العشق لطلابه؛ عشق المنارة وحب اللغة العربية وآدابها.نعلم من خلال أسلوب الاسترجاع أن عائلته الفلسطينية قد هجرت من قريتها سنة “الهجيج” لتعيش في لبنان فترة زمنية قصيرة ثم تتسلل كغيرها من العائلات لتعود إلى الوطن وتستقر في قرية فلسطينية أخرى قريبة من مسقط رأس الوالد. يغرس والداه فيه وفي إخوته حب الأرض وحب “المنارة” لتظل في الذاكرة الجمعية دون أن تبددها السنون أو تمحوها المحن رغم مرور الزمن، ورغم تحولها إلى “رجمة” من الحجارة.يتابع محمد الأعفم دراسته الجامعية لنيل الشهادات العليا مما يؤهله للعمل محاضرا في أحد المعاهد العليا. إنها شخصية عنيدة لا تهادن بالذات في موضوعين؛ حب “المنارة”، والتجارة بالدين، مما يسبب له تعبا ومشقة مع المخابرات، التي تستدعيه بتهم تحريض الطلاب وبتهمة المشاركة في المظاهرات، من ناحية، ومع فئة المتشددين في الدين، من ناحية أخرى.يدخل كغيره من الرجال في تجارب مع النساء لكنه لم يذكر مرة أن وقع في حب امرأة يتمنى لو يتزوجها، فهمه الأكبر هو “المنارة” التي نذر حياته لها، ولكن شاءت الأقدار والصدف أن يلتقي بسلمى الأعفم أديبة شابة ساحرة الجمال جاوزت الثلاثين دون أن تجد من تحب، وذلك في إحدى الندوات الأدبية التي شارك بها كمستمع (ص40)، اعتلت تلك الفتاة المنصة لتقدم مداخلتها الأدبية ووجد نفسه مسحورا بجمالها الفتان، فتبادله هي الأخرى نفس المشاعر والأحاسيس ويتفقان على لقاء قريب يتأتى أخيرا في حيفا أشبه بحلم على أمل أن يجتمعا سوية في “المنارة”.

تعدد الأصوات

لم يكن من الصعب علينا أن نلمس إدراك محمد هيبي – الذي أجرده الآن من ثيابه النقدية- لأصول الكتابة الروائية، وبالذات في عملية تداخل الأصوات، منذ الصفحات الأولى للرواية كما ينعكس في النص التالي: “اشتعل جسده نارا، واخضرت أغصان روحه، تفتحت زهور البنفسج في مسامات كيانه وعروق وجوده، كتفتح زهرة الخرفيش، بنفسجة المنارة. منذ تلك الرحلة وهو يحترف الحزن ويعشق الجمال. هل للحزن من جمال؟” (ص9) قد يكون المتسائل هنا هو نفس الراوي ونفس الصوت، لكن عبر هذا المونولوج أتاح الروائي للراوي أن يدخل صوتا آخر مغايرا للصوت الأول وهو صوت الراوي السارد المباشر. وبذلك يهز الراوي القارئ من يده ليتابع القراءة.
كما كان سهلا على المتلقي أن يتقبل التنقل السريع بين الضمائر في مواقع عدة من الرواية، وهي وسيلة فنية تحتاج إلى مهارة ودراية وتجربة، فكان الانتقال سلسا جدا بين ضمير الغائب وضمير المتكلم في معظم المواقع.

توظيف العادات والتقاليد خدمة للعبة الإيهام بالواقع

إن قارئ الروايات والقصص الفلسطينية يلاحظ بسهولة أن الروائيين والقاصين الفلسطينيين يوظفون العادات والتقاليد والمعتقدات لإسباغ روح الواقعية على كتاباتهم، كما أنهم لا يترددون في اللجوء إلى اللغة العامية لتوظيفها في الحوار، وهي برأينا وسائل تخدم “لعبة الإيهام بالواقع”: “ارمي عليه حجر ما بعملك إشي، ودير بالك! ما تقرب منه ولا توخد منه حجر بسخطك” (ص15). تتعلق هذه الفقرة بمعتقد يسود القرية أن المنارة “مسكونة”، وتسكنها “روح الولي، روح سيدي الشيخ محمود”. (ص15) ولإسباغ هالة من الرهبة والرعب، كعادتنا في التعامل مع الأرواح، لا أحد يعرف أصل وفصل سيدي الشيخ محمود. لا توجد، برأينا، لغة أكثر تعبيرا عن الأرواح وعن الأماكن “المسكونة” من اللغة العامية المحكية في بلادنا، وبذلك تناغمت اللغة وتشابكت مع تقاليدنا ومعتقداتنا، فبدا النص أعلاه جزءا عضويا من نسيج المجتمع الروائي؛ شعب يفتقر إلى العلم والثقافة يغرق في معتقدات لا تسعفه في المواجهة مما يتيح للآخر فرصة استغلال سذاجته وتمرير مخططاته. جاء العرض أعلاه، كما في مواقع عدة من الرواية ساخرا من الذات، والسخرية من الذات وسيلة لجأ إليها معظم الروائيين والشعراء الفلسطينيين. وهي سخرية ناجحة لأنها توخت الابتعاد عن المباشرة، أما السخرية في مواقع عدة من الرواية فكانت مباشرة جدا لأنها غرقت في الخطاب الايديولوجي.
يتواجه القارئ، في مواقع عدة من الرواية مع عادات وتقاليد ومعتقدات قروية تدل على مستوى فكري لفئة من الناس كانت تعيش في فترة زمنية محددة جعلتها تخسر الكثير في المواجهة مع الآخر الذي ينشر فكرا مغايرا بأساليب ماكرة ومدروسة. ولا يتوانى الراوي في التعليق عليها ومناقشتها فكريا وايديولوجيا. والأهم أن القارئ المتمرس أو السوبر، كما يسميه ريفاتير، وكذلك القارئ العادي سيدخل في أجواء القرية بعاداتها وتقاليدها وأفكارها وسيقع على أوصاف عدة تميز المجتمع العربي في منتصف القرن العشرين.

اللغة في مستوياتها المتعددة

إن اللغة هي الوعاء الذي يتسع لجميع العناصر الروائية، وهي الحامل لأفكار الروائي ومضامين كتابته، وهي أشبه بالريشة التي يستعملها الرسام، وبالنوتة التي يستعملها الموسيقي. وهي، في الرواية، الوعاء الذي يحمل جميع العناصر الروائية كالمكان والزمان والشخصيات والسرد والحوار والوصف.يعمد الكاتب محمد هيبي إلى تفصيل اللغة على قدر الحدث أو على قدر الصورة، رأينا أعلاه كيف وظف اللغة العامية حين يتحدث الراوي عن معتقد شعبي، فتجاوبت اللغة مع مستوى الشخصيات الفكرية والعقائدية. واللغة الروائية يجب أن تنسج بحيث تحمل مواصفات الناطقين بها من الشخصيات، كما أن من وظيفتها أن تصور الوضعية المطروحة بما يتلاءم مع مستوى الحدث وأصحاب الحدث.ولذلك نراه يوظف اللغة الشعرية حين يصور مشاعر رومانسية: “تواصلت نظراته هو، تحفر عبر نظراتها في السديم اللامتناهي خلف نور وجهها وصفاء عينيها وشلال الحرير الأسود المنثال على كتفيها”.  (ص44) وترقى اللغة أكثر وأكثر حين يناجي الراوي المنارة أو يصف شكلها: “كانت المنارة تتكئ على غرة شامخة من غرر جبال الجليل، يسجد أمامها الساحل، كخادم يفرش ولاءه، بين يدي سيدته الجميلة، بساطا ألوانه العسجد والزمرد والزبرجد.” (ص159)
لقد رأينا كيف تمكن الروائي محمد هيبي من توظيف اللغة بحيث يتسع لكل الأحداث والصور ولكل الشخصيات على اختلاف وعيها وانتماءاتها، وهي في تنوعها قد تكون موحية دالة غير مباشرة فترقى وتتمكن من مخاطبة العقل والوجدان: “قامت إلى منصة الكلام مهرة جامحة، وعادت منها، مهرة غير ثابتة الخطى”. (ص45)

الرمزية الشفافة

الترميز في الأدب وسيلة يلجأ إليها المبدعون للابتعاد عن المباشرة وحث القارئ على المشاركة والتفكير، وبرأينا أن المبدعين يبذلون قصارى جهدهم في العنوان لأنه عتبة النص وفاتحته. وعنوان الرواية “نجمة النمر الأبيض” تحمل برأينا إشارتين؛ الأولى هي الإشارة المباشرة التي قام الروائي بشرحها وتوضيحها في الملحق، والثانية هي التي تستفز القارئ وتحثه على البحث والمتابعة: لماذا هذه التسمية بالذات ولماذا استعارها من موقع آخر؟
تتشابه سلوى الأعفم مع “نجمة النمر الأبيض” في السحر والجمال، وهي إشارة شفافة جدا، أما الإشارة الأكثر غموضا فهي أن سلوى أصبحت “نجمة” وأصبحت “منارة” يسير البطل بهديهما، فالمنارة هي الضوء والإشعاع الذي يحركه ويقوده فكرا ووجدانا منذ أكثر من ستة عقود، وسلوى هي المرأة التي حرم منها، أيضا، ستة عقود ونيف، فهو أعزب ووحيد، بدون “سلوى” وبدون “المنارة”، ولن تتحقق هذه دون تلك. فهل هي صرخة أخرى تضاف إلى صرخات مبدعين فلسطينيين سابقين؟ وهل هي محاولة دفاع أخرى موجهة لأولئك الذين يحمّلون الفلسطيني تهمة التخاذل؟ أليس الأعفم مدرسا ينقل رسالة للجيل اللاحق- جيل المستقبل- لحمل راية “المنارة” في قلوبهم؟ أليس الأعفم حارسا للمنارة منذ عقود ستة ونيف؟ هذا الفلسطيني المشرد يبحث عن نجمته وعن منارته؛ فنجمة النمر الأبيض هي سلوى؛ حبه الخاص، والمنارة هي حبه الخاص والحب العام الذي يجب أن يتجذر في قلوب جميع الأجيال. لقد وفق محمد هيبي في الربط بين العنوان والأحداث وتمكن من الإمساك بتلابيب المتلقي لمتابعة البحث عن هذه العلاقة التي تتكشف له في نهاية الرواية.

الميتاقص

وسيلة حديثة وتقنيّة حديثة توظف في الرواية والمسرح والشعر أيضا، ويطلق عليها بالإنجليزية Metafiction  أي ما وراء القص، وهو تعليق النص على نفسه بحيث ينعدم الحاجز بين الواقع والخيال، إذ يوقف الكاتب حبكة النص ليشرح شيئا معينا أو يعلق عليه ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في بداية النص: “الأعفم الكبير، مارد جبار[…] الأعفم الكبيرلا يموت! ولو أنه مات في أية مرحلة من مراحل وجوده وتشرده وضياعه، مهما كانت متقدمة أو متأخرة، لما كانت، الآن… هنا، رواية تستحق أن تروى أو أن تسكن الذاكرة”. (ص19)
صحيح أن الروائي لم يكثر من أسلوب الميتاقص، لكن مجرد توظيفها هنا وفي مواقع أخرى لعلمه أن هذه الوسيلة الفنية التي توظف في الرواية الحداثية يمكنها أن تثير القارئ وأن تستفزه إذا وظفت بصورة سليمة، كما هي في النص أعلاه.ونؤكد أن توظيفها جاء بناء على ثقافة الروائي “الناقد”. ولا عجب فمحمد هيبي ناقد متمرس يعلم أن هذه الوسيلة يوظفها الروائيون لخدمة رؤياهم الناقدة فتجعلهم في الموقع المتقاطع ما بين النص والنقد، وتقرب القص من الواقع.

ديناميكية الشخصية والزمان

إن العنصر الروائي الأبرز في رواية “نجمة النمر الأبيض” هو الشخصية المركزية، ويأتي الزمان والفضاء في المرتبة الثانية. أما المكان الأبرز، من بين جميع الأمكنة، فهو المنارة،التي بقيت طوال السرد رمزا له فاعليته رغم عدم الدخول في تفاصيلها الدقيقة. أما الزمان فهو قريب جدا من الأيام التي نعيشها اليوم حيث عصر الحاسوب والتكنولوجيا التي وظفت طوال عملية السرد، لم يكن صعبا على القارئ أن يدرك زمن الأحداث منذ الصفحات الأولى للرواية وأن يتحرك مع الراوي في سرده للأحداث عبر الذكريات والمونولوجات والفلاش باك. وبهذا فإن الرواية تعالج الهوية العربية الآنية هنا اعتمادا على ماض ليس ببعيد.
من هذا المنطلق فإنا نرى أن الرواية تعالج وضعية الإنسان العربي الفلسطيني الذي يعيش في دولة إسرائيل كمواطن يعارك على جميع الصعد؛ صراعات عربية يهودية على المستوى العام لمنطقة الشرق الأوسط وأبعاد ذلك على العربي هنا. وصراعات عربية عربية على صعيد منطقة الشرق الأوسط، وصراعات فكرية عربية عربية على صعيد الداخل الفلسطيني. لذلك فهي رواية الإنسان الفلسطيني الذي يعيش تبعات الصراعات الإقليمية والمحلية وانعكاس كل هذه الصراعات على الإنسان الفلسطيني هنا.
إننا ننظر إلى هذه الرواية من هذه الزاوية بالذات لنقرنها بغيرها من الروايات والقصص العربية التي تعالج الوجود العربي في هذه البلاد، فإن كان بطل إميل حبيبي في رواية “المتشائل” يتأرجح بين التشاؤم والتفاؤل فإن بطل “نجمة النمر الأبيض” يميل أكثر إلى التفاؤل رغم ما يواجه من عقبات.

السرد بين الترهل والإيحاء

من واجب الروائي أن يشد الأحداث بخيط روائي وثيق ليحافظ على مركزية الحدث وشد القارئ، لكن السرد كان يطول ويطول بعيدا عن المركز، فيصاب بالترهل، ويزداد الترهل ويكثر الشحم الزائد، حين نرى التكرار الذي كان ممكنا تفاديه وتحاشيه، ونقصد بذلك تكرار المناجاة والمونولوجات التي تدور حول نفس الموضوع، حتى لو تغيرت اللغة وتغيرت الأوصاف، ولنا على ذلك أمثلة عدة. بينما نرى في مواقع أخرى توظيفا موفقا للغة الغنية الثرية بعمق دلالاتها ورموزها وابتعادها عن المباشرة لتنحو سبيل الإيحاء وبالذات حين تطعم بالأساطير: “كيف أرفض وأنت إلهة روحي، أنت عشتار وعنات وإيزيس وأفروديت وفينوس. أنت كل آلهة الحب والجمال مجتمعة في واحدة. نعم أنت، فكيف أرفض؟! وأنا لست إلها، ولا أملك القدرة على الخلق، ولا أنا جلجامش بيده عشبة الخلود، ضيعتها من زمان.” (ص85)
إن حرص الكاتب على إيصال “رسالة” للقارئ جعلته يعود على ذاته وعلى فكرته في مواقع عدة من الرواية، وكأنه يقحم نفسه في نقاشات ايديولوجية، فيجهد نفسه من خلال الراوي بهدف تجذير الرؤيا التي يؤمن بها.

الأسلوب الخطابي

تنعكس ايديولوجيا الروائي بشكل بارز على النص، فرأينا السياسي يطغى على القص والتشويق والإيهام بالواقع، تلك اللعبة التي تجعل الرواية حدثا أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع. ولذلك فإن النبرة الخطابية المباشرة من شأنها أن توقف الحركة السردية وتبطل مفعول التشويق ومتابعة الأحداث كما نرى في النص التالي: “فقد عجزت النكبة وصناعها ومن تقبلوها طائعين أو مرغمين،عجزت عن التفريق بينهما رغم كل أهوالها وكل محاولاتها البشعة.” (ص59)
إن الدافع لاتباع هذا الأسلوب هو الدافع الذي أشرنا إليه أعلاه، فالكاتب لا يتردد في التأكيد على رؤيته وعلى رؤياه، مستَفَزّا من الآخر الذي تمكن من تحقيق أهدافه وتمرير رؤيته ورؤياه التي تناقض فكر الروائي. إن الخطابية أسلوب كان له دور يناسب الشعر في العقود الثلاثة التي تلت النكبة، أما اليوم فإن التوجه للقارئ يستوجب وسائل فنية أخرى قادرة على شد القارئ بعيدا عن الخطابية.

الراوي

الراوي شخصية وهمية من خلق الروائي، يوظفه لخدمة أفكاره ومبادئه في كثير من الروايات الواقعية، وعلى الروائي أن يعطي الراوي حرية في التحرك وفي التعبير ليبدو محايدا، ويسمح بالتالي لتعدد الأصوات وتعدد اللغات، فيقبل القارئ على القراءة بنهم أكبر. وقد يلجأ الكثير من الروائيين إلى توظيف راو واحد مشرف كلي ومعلق، ولكنه يتمكن من خلال الراوي الوحيد أن يفسح المجال لأكثر من صوت أن ينبثق من النص.
لقد سيطر الراوي المشرف الكلي العليم المعلق على مجمل السرد والحوار، وتبين للقارئ أن هذا الراوي يحمل الكثير من أفكار ومن مشاعر محمد الأعفم الشخصية المركزية، ولذلك لم يكن هذا الراوي مقنعا وحياديا حين دخل في عمق الشخصية الثانية؛ شخصية سلوى الأعفم منذ لقائهما الأول ف”فضح” مشاعرها التي بدت مفاجئة جدا للقارئ المتلقي، وتكرر ذلك في أكثرمن موقف وفي أكثر من لقاء. وكان حريا بالروائي أن يلجأ إلى التلميح والترميز، بل كان عليه أن يلجأ إلى التعتيم وكشف الملامح الفكرية للشخصية بشكل تدريجي أمام المتلقي.
أما في مواقع أخرى عديدة فقد رأينا الروائي يوظف أكثر من ضمير، وبالتالي أكثر من صوت، بل إن الانتقال بين الضمائر كان سلسا جدا يكاد القارئ لا يحس بهذا الانتقال وكأن الكاتب محمد هيبي لا يكتب روايته الأولى.

إنها رواية أخرى تجند لخدمة القضية الفلسطينية و”الهجيج” الفلسطيني، بطلها وكاتبها كلاهما ينتميان للجيل الثاني الذي ورث “الحكاية” عن الجيل السابق الذي ذاق معنى “الهجيج” الحقيقي. فالراوي والروائي كلاهما يسيران في نفس الخندق ويحملان نفس الفكر، وكلاهما يحملان نفس الرسالة: ما حدث لنا ولشعبنا هي في حقيقة الأمر مأساة لا يمكن للزمن، مهما طال أن تنسى، وما هي سوى جرح مفتوح لا يندمل.
بطل الرواية”محمد الأعفم” شخصية مثقفة متعلمة، وقد رأينا أن معظم الروايات والقصص التي تناولت قضية “الهجيج” كان أبطالها فلسطينيين ساذجين وقعوا ضحية الجهل وعدم إدراك ما يدور من حولهم. أما هنا فإن محمد الأعفم المثقف والمتعلم جاء ليحلل ويشخص الداء والدواء ويشرح ما تعرض له شعبه قبل ستين عاما ونيف من تشرد وضياع، فبدا المحارب والمدافع عن الحق الضائع.
لقد ألح الروائي من خلال تكرار الكثير من مواقف المناجاة والمنولوجات على فضح الفكر الايديولوجي الذي يحمله، مصرا على “فضح” مكنون الشخصية المركزية، محمد الأعفم، الذي يحمل الكثير من أفكار الروائي فتغلبت العاطفة على الخيال، وبدا الراوي منحازا رافضا الحياد رغم إتقان الروائي للتقنيات الفنية التي يمكنه توظيفها ليتم التواصل مع القارئ العادي أو “السوبر”. فهل هذا يعني أننا نرفض الرواية المؤدلجة؟
إننا نؤمن بأهمية تعدد اللغات وتعدد الأصوات التي تحدث عنها بإسهاب المنظر الروسي ميخائيل باختين، ونرى كما يرى حميد الحمداني أن الراوي قادر على الحيادية وعلى تمرير آراء متعددة من خلال راو واحد، دون التنازل عن مواقفه الايديولوجية ومبادئه الفكرية التي قادته إلى الكتابة. ونضيف أننا لا نرى أن الأدب الفلسطيني، بالذات، قادر على التنازل عن الايديولوجي والسير فيما يطلق عليه “الفن من أجل الفن”، ونؤمن أن الحيادية المطلقة في رسالة “الفن من أجل الفن” هي في نهاية الأمر موقف غير حيادي. لكن الروائي المتمرس قادر على توظيف التقنيات والوسائل الفنية لتمرير فكره ورؤياه وقادر على تغليب الخيال على العاطفة لتنزاح الرواية عن واقعها وعن زمكانيتها لتنحو سبيل التخييل.
رواية “نجمة النمر الأبيض” تحمل الكثير من المتناقضات؛ فيها الكثير من عناصر القوة والقليل من مواطن الضعف، وفيها الكثير من التقنيات الفنية التي تميز الرواية الحديثة، وفيها الكثير من التقنيات التي باتت قديمة. ويقيني أن هذه التجربة يجب أن تتكرر لأننا أحوج ما نكون إلى روائيين يدركون معنى البناء الفني المتخيل للرواية، كي ننحي جانبا بعض الذين لا يفقهون ما يفعلون.
لقد سمحت لنفسي أن أطرح ما رأيته بصراحة دون مواربة لأن الأديب محمد هيبي ناقد له باع طويل يرفد حركتنا الأدبية بينابيع عطائه دون مواربة أو مداهنة.

*نص المداخلة التي ألقيت في الناصرة بتاريخ 27.10.16 بمناسبة توقيع الروائي لروايته “نجمة النمر الأبيض”

السبت 12/11/2016

By د. محمد هيبي

أستاذ اللغة العربية، كاتب وناقد أدبي. ولد في 5/3/1952 في قرية كابول، في الجليل الغربي، القريبة من "ميعار" المهجرة، مسقط رأس والده الشاعر الشعبي الفلسطيني، أحمد محمد هيبي (المعروف بالكشّوع أو أبو عصام الميعاري). هُدِمت ميعار وشُرّد أهلها في النكبة الفلسطينية عام 1948.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *