*قراءة في دراسة الدكتور محمّد هيبي “الحريّة والإبداع والرقيب”1.*


**
عقباتٌ مختلفة

لم تكن طريق الهيبي مفروشةً بالورود! فقد اعترضت طريقَه عقباتٌ مختلفة أبرزها؛ طولُ الفترة الزمنيّة المدروسة الممتدة نحو ما يزيد عن نصف قرن، ثمّ تعاملُه مع روائيين سوريّين مميّزين، وروايات ذات طابع خاصّ كونُها رواياتٍ سياسيّةً لها علاقة وثيقة بثيمة الحريّة وما تعرّضت له من ملاحقة الرقابة على اختلاف أنواعها، وكانت العقبةُ الثالثةُ هي شُحَّ الدراسات النقديّة للرواية في سوريّا بصورة عامّة.


**ضد التيار

مهما يكن من أمر هذه الملاحظات تبقى دراسة الدكتور محمّد هيبي دراسة أكاديميّة جادّة، كما تقدّم، استحقّ عليها درجة الدكتوراه بجدارة، فهي تعكس جهدًا بالغًا في البحث والتمحيص والقراءة، وتشهد بقدرةٍ مدهشة في التعامل مع هذا الكمّ الهائل من المصادر الحديثة جدًّا والتي من شأنها أن تُغرقَ أيَّ باحث في لجّةٍ عميقةٍ لا مخرجّ منها، لكنّ الهيبي أثبت قدرتَه على السباحة ولو كانت ضدَّ التيّار


تصدير
تحمل دراسة الدكتور محمد هيبي اسم “الحريّة والإبداع والرّقيب”، يليه عنوانٌ فرعيّ يوضّح أنّها دراسة في الرَّقابة وتداعياتِها على الرواية السوريّة الحديثة، ممّا يستحضر في الذهن نظريّةَ الاستقبال والتلقّي لصاحبها “هانز  روبرت ياوس ” (Hans Robert  Jauss 1921 – 1997)، فهو  يؤمن بإمكانيّة البدء بقراءة العمل الأدبيّ قراءة خارجيّة، اعتمادًا على ما يتضمّن ذلك العمل من مقوّمات خارجيّة من شأنها أن تكشف للقارئ بعض مجاهيل النصّ، قبل الولوج إلى عالم النصّ الحقيقيّ2.

منذ اللقاء الأوّل بين القارئ واسم الدراسة المثبت في صدر الغلاف الأماميّ، ومقارنتِه بما يتلوه من عنوان فرعيّ متمّم له، يشعر القارئ، استنادًا على نظريّة ياوس، بعدم الانسجام والتوافق بين اسم الدراسة وبين ما يتلوه من توضيح في السطر الثّاني؛ إذ يُفهَم من اسم الدراسة أن موضوعَها الأساسيَّ هو  موضوعة الحريّة والإبداع وعلاقتُهما بعمليّة الرَّقابة، لكن يقوم العنوان الفرعيّ  الذي يأتي بعد اسم الدراسة الأساسيّ بتقويض المفهوم الذي تبلور في ذهن القارئ، إذ يُفهَمُ منه أنّ موضوعةَ الدراسةِ الأساسيّةَ هي الرَّقابةُ وليست الحريّةَ التي يلوّح بها العنوان الأوّل؛ ممّا يخلُقُ نوعًا من التنافر بين العنوان الرئيسيّ والعنوان الفرعيّ، وحتّى يتمّ الانسجام التّامّ بينهما كان الأوْلى أن يكون اسم الدراسة الأوّل هو “الرقابة والحريّة والإبداع”، لتأتيَ كلُّ ألفاظ العنوان متآلفةً، بنفس الصيغة، هي صيغة المصدر، دون إقحام صيغةِ الصفة المشبّهة التي تُشعر بتنافر الألفاظ في اسم الدراسة.

 

**لماذا الرواية؟!

تمحورت الدراسة حول الرواية كجنس أدبيّ دون غيره لعدّة أسباب أبرزُها؛ حبُّ الباحث لهذا الجنس الأدبيّ واستمتاعُه بقراءته أكثرَ من غيره؛ ولأنّها أقدر الأجناس على نقل الواقع، واتساعها لتعكسَ حركةَ الإنسان وتطوّرَه على جميع الأصعدة؛ ولأنّ طبيعةَ الدراسة تقتضي التحديد وتبتعد عن الشموليّة والتعميم، ممّا يفقد الدراسة دقّتها وعمقَها، هذا ما ورد على لسان الباحث، ثمّ يفسّر  الباحث في مقدّمة دراسته أنّه اختار الرواية السوريّة دون غيرها؛ لاطّلاعه الواسعِ على كمٍّ هائلٍ من الروايات السوريّة، إضافةً لتجاهل النقاد لهذه الرواية، ومن ثمّ قراءتِه لرواية “المهزومون” لهاني الراهب، ورواية “السجن” لنبيل سليمان، وما لقيه من تشجيع كثير من الكتّاب والدّارسين للكتابة في الموضوع، وما عهده عن الرواية السوريّة الحديثة من تطوّر على المستويين المضمونيّ والأسلوبيّ، وما تتميّز به من جرأة على خرق المحظور والاتّكاء على أسلوب التجريب، وزاد اقتناعُه بالموضوع بعد قراءته رواية “سمر الليالي” لنبيل سليمان، لكن هذا الفصلَ بين الرواية السورية والرواية العربية لم يكن هدفَ الباحث بقدر ما كان محاولةً منه لفهم بعض جوانب التجربة الروائيّة السوريّة، والكشفِ عن مدى تأثير الرقابة على الأعمال الروائيّة في سوريّا بعد الاستقلال عام 1946.
لم تكن طريق الهيبي مفروشةً بالورود! فقد اعترضت طريقَه عقباتٌ مختلفة أبرزها؛ طولُ الفترة الزمنيّة المدروسة الممتدة نحو ما يزيد عن نصف قرن، ثمّ تعاملُه مع روائيين سوريّين مميّزين، وروايات ذات طابع خاصّ كونُها رواياتٍ سياسيّةً لها علاقة وثيقة بثيمة الحريّة وما تعرّضت له من ملاحقة الرقابة على اختلاف أنواعها، وكانت العقبةُ الثالثةُ هي شُحَّ الدراسات النقديّة للرواية في سوريّا بصورة عامّة.
تُعتبر دراسة محمد هيبي دراسةً أكاديميّةً جادّةً تنضافُ لمثيلاتِها من الدراسات الأكاديميّة العربيّة الصّادرة في بلادنا خلال العقود الثلاثة الأخيرة؛ إنّها “دراساتٌ فيها العمقُ والجديّةُ تفتحُ آفاقَ الفكرِ وتشدُّ الآخرين للسعي في طلبِ المعرفة، وتُحرّكُ النوازعَ الخامدةَ في دواخلِ الكثيرين”3.

 

استعراض لمباحث الدراسة

تتميّز الدراسة بنهجها الأكاديميّ الجادّ؛ يُثبت الباحث في مستهل دراسته فهرسَ المحتويات بصورة واضحة ومنظّمة، تتلوه مقدّمة يوجز فيها ما دفعه لهذا البحث، وسبب اختياره الرواية السوريّة ونحو ذلك، ثمّ تأتي الدراسة موزّعةَ على قسمين أساسيّين؛ المدخل النظريّ ويتوزّع على فصلين، يناقش في الأوّل مفهوم الحريّة، الإبداع، والرقابة بصورة عامّة، ثمّ يعرض في الفصل الثاني لهذه الموضوعات في العالم العربيّ عامّة وفي سوريّا خاصّة.

أمّا القسم الثاني فهو تطبيقيّ توزّع على أربعة أبواب، يتفرّع كلّ باب إلى ثلاثة فصول، يعالج كلّ فصل رواية واحدة من روايات العيّنة، ويشمل ثلاثة مباحث ثابتة هي؛ مقدّمة، موضوع الرواية، والشكل الفنّيّ، وينهي كلّ باب بخلاصة شاملة، أمّا أبواب هذا القسم التطبيقي فتحمل الأسماء الآتية:

الباب الأوّل: روايات أدب السجون وتمثّلها رواية “السجن” (1972) لنبيل سليمان، رواية “القوقعة” (يوميّات متملّص) 2008، لمصطفى خليفة، ورواية “حرّاس الهواء” (2009)، لروزا ياسين حسن.

الباب الثاني: روايات أدب المنفى، وتمثّلها رواية “المهزومون” (1961) لهاني الراهب، رواية “الثلج يأتي من النافذة” (1969) لحنّا مينة، ورواية حيدر حيدر “وليمة لأعشاب البحر” 1984.

الباب الثّالث: روايات المواجهة مع السلطة السياسيّة، وتمثّلها رواية “الصمت والصّخب” (2004)، لنهاد سيريس، رواية “صلصال” (2005)، لسمر يزبك، ورواية” امرأة من طابقين”(2006)، لهيفاء بيطار.

الباب الرابع: روايات المواجهة مع سُلَط أخرى غير سياسيّة، وتمثلها رواية “قصر المطر” (1998)، لممدوح عزّام، رواية “مديح الكراهيّة” (2006)، لخالد خليفة، ورواية “المترجم الخائن” (2008)، لفوّاز حدّاد.

ينهي هيبي بحثه بإجمال لما توصّل إليه في الدراسة، يليه قائمة ثبت المصادر والمراجع، مذيّلة بالملاحق الموظّفة في الدراسة.

ملاحظات بارزة في إجمال الدّراسة ونتائجها

  • مرّت الرواية السوريّة في مسيرة تطوّرها بثلاثِ مراحلَ أساسيّةٍ، امتدّتِ الأولى منذ الاستقلال 1946 وحتّى أواخر  الستينات، كانت الرواية في هذه المرحلة هامشيّة في الأدبين العربيّ والسوريّ؛ أمّا الثانية فبدأت من أواخر ستينات القرن العشرين حتّى أواخر ثمانيناته، وتسمّى مرحلة النهوض؛ إذ شهدت الساحة الأدبيّة كمًّا هائلًا من الانتاج الروائيّ، ثمّ جاءت المرحلة الثالثة من بداية التسعينات إلى اليوم، وقد انعكست فيها أحداث ثمانينات القرن الماضي والصدام المسلّح بين النظام الحاكم والجماعات الإسلاميّة، تمّت انطلاقة الرواية في هذه المرحلة وجاءت أكثر عمقا وجرأةً من الكتابة السياسيّة، مما يدلّ على أنّ الوعي الأدبيّ والاجتماعيّ في سوريّا أكثرُ تطوّرًا من الوعي السياسيّ، ربّما بتأثير الرقابة السياسيّة، وقد دعاها الباحث “مرحلة الصمود والتصدّي“.
  • أثّر تطوّر الرقابة على تطوّر الرواية، إذ تحوّلت الرواية إلى وثيقة تشهد على تاريخ القمع السوريّ، وبدت الرقابة سلبيّةً قهريّةً، صودرت حريّةُ المثقّف في التعبير، وعانت الرواية وكتّابُها من السلطة والرقابة، لكنّ السلطة فشلت في تدجين عدد من الكتّاب، وتنازلَ كثير منهم عن عضويّته في “اتّحاد الكتّاب العرب في دمشق” الذي خان دوره في الدفاع عن الكتّاب وحرّيّة التعبير، ومارس القمع كمؤسّسة رقابيّة سلطويّة.
  • انعدام الحريّة وانتشار الرقابة أفرزا نتائج عكسيّة على الرواية والإبداع في سوريّا، إذ غُمِرت الساحة الأدبيّة بكمٍّ هائل من الروايات، خاصّةً رواياتِ السجن والمنفى، وصارت الكتابة هي المتنفّسَ الوحيدَ للكتّاب، فظهرت الروايات السياسيّة التي تناولت قضيّة الحريّة وضيقَ مساحتها في سوريا. معظم روايات الدراسة نُشرت خارج سوريّا، ومُنع دخولُها، أو صودرت بعد الدخول، كما مُنعت مجلّةُ الآدابِ اللبنانيّةُ لأنّها شجّعت الكتّاب اليساريين المتمرّدين، وسُجِنَ، أو عُذّب، أو نُفيَ كثير من الكتّاب، ونَشر آخرون أعمالَهم خارج سوريّا، أو بأسماء مستعارة، ومنهم من كتب كثيرًا ولم يجرؤْ على النشر خوفا من سيف السلطة ورقابتها.
  • ما قضّ مضجع السلطة في سوريا هو المضمون لا الشكل، قمعت السلطة المضمونَ فأسهم ذلك في تطوّر الشكل؛ بحثَ الكتّابُ عن أساليبَ جديدةٍ كالتجريب، واستلهامِ التاريخ وإعادةِ كتابته، تعدّدِ الأصوات، وتوظيفِ تقنيّات تيّار الوعي، كالمونولوج والاسترجاع، الترميز، تكثيف اللغة، السخرية، الحلم، الأسطورة، الأليغوريا، ونحو ذلك.
  • من أهمّ ما أفرزت الدراسة من نتائجَ ذاتِ العلاقة بأهدافها الأساسيّة ما يلي:
  1. الرواية السوريّة هي رواية سياسيّة غالبًا، مواجِهةٌ للسلطة مباشَرةً أو غيرَ مباشَرة، وقد تتقاسمُ المواجهةَ مع سلطة أخرى، غيرِ سياسيّة كالدينيّة، والاجتماعيّة، أو الثقافيّة. وكونُها سياسيةً حتّمَ عليها الاهتمامَ بالإنسان العربيّ عامّة والسوريّ خاصّة، فصوّرته إنسانًا يؤمن بالحريّة ويناضل من أجلها، يؤمن بحقّه في الإبداع تحقيقًا لذاته، وتعبيرا عن حرّيّته، ويرفض أيّ شرط يحول بينه وبين حريّته وإبداعِه.
  2. تصوّر الرواية السياسيّة الصراعَ في المجتمع السوريّ كصراع طبقيّ اجتماعيّ سياسيّ، ويبرز ذلك في كثير من الروايات أبرزُها “صلصال” و”قصر المطر”. وتعكس بعض الروايات مسألة تدجين المواطن خاصّة رواية “الصمت والصخب” لنهاد سيريس، و”المترجم الخائن” لفوّاز حدّاد، و”صلصال” لسمر يزبك، دون أن تنجح السلطة في ذلك.
  3. شوّهت الرقابة واتّحاد الكتّاب العرب في دمشق روايات عديدة وهي تطالبُ بشطبِ أجزاءٍ كثيرةٍ من الرواية، مثلما حدث مع رواية “قصر المطر” عندما أجازت نشرَها للمرّة الثانية، فاشترطت شطبَ ثلاثةٍ وعشرين مقطعًا منها مع تغيير جذريّ في الخاتمة لتوافقَ على نشرها. في كثير من الحالات كانت أسبابُ قمعِ الرواية والكاتب تافهةً غير َمبرّرة.
  4. للمرأة في الرواية السوريّة الحديثة عامّةً حضورٌ بارزٌ شكلًا ومضمونًا، يظهر ذلك من خلال تأنيثِ السرد وكثرةِ الشخصيّات النسائيّة، هذا الحضور يعكس ظلمَ الواقع وأهمّيّةَ دور المرأة في التحرّر من الظلم والقمع، وقد أشارت رواياتٌ كثيرة إلى تاريخيّة القمع العربيّ لبيانِ قِدَمِه واستمراريّتِه، فالمجتمع العربيّ والسوريّ مجتمع بطريركيّ، لم يتغيّرْ، لا في بِنيتِه، ولا في احترافِه القمعَ، من هذه الروايات “وليمة لأعشاب البحر”، “مديح الكراهية”، و”صلصال“.
  5. برز خلال العقدين الأخيرين اهتمامُ الروائيّ السوريّ بالشكل الفنّيّ أكثرَ من المضمون، وظهرت عنايتُه باللغة وتوظيفِ مستوياتها المختلفة، اللجوء إلى وسائل تعبير مباشرة وغير مباشرة، وقد ساهمت اللغة في الاحتيال على السلطة وصرف نظر الرقابة عن المبدع وإبداعه، فاختيار الأسماء مثلًا لعب دورًا مهمًّا، إضافةً للسخرية وتقنيّاتها، كلّ ذلك لعب دورًا مميّزًا في عرض الألم ورفض الواقع وفضح السلطة.
  6. عمد معظم الكتّاب إلى توظيف النهايات المفتوحة لرواياتهم تعبيرًا عن التفاؤل ومواصلةِ النضال من أجل الحريّة، وتغيير الواقع. ففي روايات العيّنة لا وجود للنهايات المغلقة، إنما نلتقي ببعض النهايات المتشائمة كرواية “القوقعة”، ورواية “قصر المطر”، و”وليمة لأعشاب البحر“.
  7. عانت الرواية السوريّة وما زالت من قمع السلطة بأشكالها المختلفة لكنّها صمدت وتطوّرت رغم قمع السلطة ورقابتِها القمعيّة.
  8. في نهاية الإجمال يوصي الباحث بضرورة دراسة رواية السيرذاتيّة السوريّة لما تحمله من تجارب اجتماعيّة – سياسيّة، كما يلفت نظر من يأتي بعده من الباحثين أن يعمل على دراسة النقد الأدبيّ في سوريّا وكيفيّة تعامله مع الرواية.

 

 

على سبيل التقريظ

ما يُسجَّلُ لصالح الدراسة، إضافةً لما تقدّم، أنّها دراسة منهجيّة يعي صاحبُها كلَّ خطوةٍ فيها، ويتجرّد خلال عمله من مشاعره الذاتيّة إلى الحقائق الموضوعيّة التي تكشّفت له من خلال  دراسته، فيبني مربّعا سيميائيًّا مركّبًا من أربعةِ أركانٍ مشتركةٍ تتكرّر في كلّ نصوص العيّنة، ولا يغفلُ عن تطبيقه على كلّ روايات العيّنة.
يعتمدُ الباحثُ قائمةَ مصادرَ ومراجعَ طويلةً وجديدةً جدًّا ومحتلنةً سواءٌ كانتِ المراجعَ الورقيّةَ أو الإلكترونيّةَ، العربيّةَ أو الإنجليزيّةَ، فمعظمُ مصادرِه المعتمَدةِ صدرت بعد سنة 2000، لكنّ عددَ مصادرِه الإلكترونيّةِ يفوق عددَ المصادر الورقيّة بكثير، ولعلّ مرجعَ ذلك شحُّ النقد للرواية السوريّة أو قلّةُ الدراسات التي تُعنى بالرواية في سوريّا، ويكفي أن نعلم عددَ المصادرِ المستخدمةِ في البحث لندركَ الجهد الكبير الذي بذله الباحث لإنجازه ، فقد بلغ عدد المصادر  والمراجع المستعانِ بها ثلاثَمائةٍ واثنين وثلاثين مصدرًا.

شملت عيّنةُ الدراسةِ اثنتي عشرَةَ روايةً لكُتّاب سوريين من فئاتٍ وأطيافٍ مختلفةٍ، توزّعت على تسعة كتّاب ذكور وثلاث كاتبات إناث، ممّا يشير إلى عناية الباحث بحضور الأنثى في دراسته، رغم أنّ عدد الكتّاب الذكور الممثَّلين في العيّنة يفوق عدد النساء بثلاثة أضعاف، فهل يعني هذا الأمرُ شيئا؟ وهل ينسجم مع واقع المجتمع العربيّ؟!!أترك المجال للاجتهاد.

يهتمّ الباحثُ بقراءة كلّ رواية من روايات العيّنة بتأنٍ ودقّة، مستخدمًا مباحثَ موحّدةً في كلّ الروايات، مع الخروج عن ذلك النهج في تضاعيف المبحث، حسبما تقتضي معطياتُ الرواية، لكن بصورة لا تقوّض المبنى الذي سلكه في كلّ مباحث دراسته، ومثلَ ذلك يفعل في نهاية كلّ باب، إذ يقوم بإجمالٍ لأهمِّ ما ورد في كلّ باب.
يعمد الباحث، خاصّة في القسم النظريّ، إلى تعريف مصطلحات الدراسة الأساسيّةِ بصورة مسهبة ومقنعة مشيرًا إلى تضارب آراء الدارسين في بعضها، وكثيرًا ما يتّكئ على آراءِ مفكّرين عرب وأجانب أمثال “سقراط”، وعالم النفس الأمريكي الوجوديّ “روللو ماي”، و”جون ستيوارت مل”، وصبري حافظ، وإدوار الخرّاط، وفيصل درّاج، وغيرهم. ففي نقاشِه لرواية “الصمت والصخب” لنهاد سيريس يستحضرُ الباحث رأيَ الفيلسوف المناضل الماركسيّ الإيطاليّ أنطونيو غرامشي حول الهيمنة الثقافيّة فيقول الباحث: “تحضر هنا وبقوّة أفكار غرامشي

(Gramsci) حول الهيمنة الثقافيّة والمثقّف العضويّ” (البحث ص345).

لا يكتفي الباحث بنقل آراء الدارسين فقط، إنّما يعمل في حالات كثيرة على مناقشة أيّ منهم مُشيرا إلى مجاراتِه في رأيه أو مخالفتِه له، مثلما ردّ على رأي مراد كاسوحة وهو يشير إلى عمليّة السرد في رواية “وليمة لأعشاب البحر”، ومثلَ ذلك نجدُ في مواضعَ أخرى.

يكشف الباحث عن بعض المصطلحات الجديدة فيوضّحها خشيةَ أن تكون مجهولةً للقارئ كصنيعه وهو يشرح مفهومَ “الطبقة الكومبرادوريّة”، وهي طبقة طفيليّة انتهازيّة استغلاليّة غيرُ منتجة ونحو ذلك، لكنّه لا يشير إلى المصدر الذي استقى منه تلك المعلومات، وكان حريًّا به أن يشير لمصدرها (ينظر ص442).

يُعنى الباحث بتوضيح بعض الأحداث التاريخيّة كثورة الثامن من آذار التي يفصّل الحديثَ عنها في هامش إحدى صفحات الدراسة دون أن يشير، مرّة أخرى، إلى مصدر تلك المعلومات وهو نهج غير مقبول أكاديميًّا وعلميًّا (ينظر ص506).

أخيرًا، تبقى بعضُ الهفوات التي كان على الباحث أن يتداركها، ومن ذلك أنّه أورد إجمالَ البحث في وسط صفحة متمّمةٍ لخلاصة الباب الرابع، وكان الأفضلُ جماليًّا أن يجعل إجمال الدراسة في صفحة خالية من أيِّ كتابة، فهل نلقي باللوم على الناشر ؟!!

من المآخذ البارزة على الدراسة استخدامُ الضمير الأوّل (المتكلّم) بصورة كبيرة جعله يستحوذ على مساحاتٍ واسعةٍ من البحث، رغم ما هو متعارف عليه في الدراسات الأكاديميّة من توخّي الموضوعيّة والابتعاد عن الذاتيّة، إذ يوصي الأساتذةُ باستخدام الضمير الثالث (الغائب)، فبدل أن يقول: “كما سأبيّن لاحقًا”(ص283، 285، 293، 436)،كان عليه أن يقول” كما ستبيّن الدراسة، أو الباحث”، وهكذا، إضافة للألقاب والدرجات الأكاديميّة التي يثبتها قبل اسم الدارس أو المفكرّ كالناقد، والدكتور، ونحو ذلك ولا يقتضي البحث الأكاديميّ هذه الألقاب لأنّ البحثَ، أيَّ بحثٍ، يتجرّدُ من الحساسيّة التي نجدها عند كثير منّا!!

ومنها أيضًا شيوعُ بعض الأخطاء النحوية كقوله: “والركن الرابع، القضيّة وهي الحريّة والكرامة اللتين يبحث عنهما المنفيّ”(ص283)، والصحيح أن يقول: “اللتان”، وكذلك قوله: “فما عساه يكن الدافع إذن؟”(ص295)، والأولى أن يقول: فما عساه يكون … أو قوله “تجيب على السؤالين”(ص282)، والوجه الصحيح أن يقول: تجيب عن السؤالين. وفي مواضع أخرى لا يتوخّى الباحث أو الناشر الدقّة فيشير إلى سنة إصدار  رواية “صلصال” بسنة 2088 بدل 2008 (ص369)، وغيرها ممّا يسمى أخطاء مطبعيّة يبدو أنّها صارت ضرورةً أو تقليدًا!!
وبعد؛ فمهما يكن من أمر هذه الملاحظات تبقى دراسة الدكتور محمّد هيبي دراسة أكاديميّة جادّة، كما تقدّم، استحقّ عليها درجة الدكتوراه بجدارة، فهي تعكس جهدًا بالغًا في البحث والتمحيص والقراءة، وتشهد بقدرةٍ مدهشة في التعامل مع هذا الكمّ الهائل من المصادر الحديثة جدًّا والتي من شأنها أن تُغرقَ أيَّ باحث في لجّةٍ عميقةٍ لا مخرجّ منها، لكنّ الهيبي أثبت قدرتَه على السباحة ولو كانت ضدَّ التيّار. نبارك لك هذا العطاء الجزيل منتظرين الجديد الآتي.

 

الإشارات
1. محمّد هيبي، (2017)، الحرّيّة والإبداع والرّقيب – دراسة في الرقابة وتداعياتها على الرواية السوريّة الحديثة. (باقة الغربيّة –  حيفا: مجمع القاسمي للّغة العربيّة –  مكتبة كلّ شيء).
2. لمزيد من التّفاصيل عن نظريّة الاستقبال والتّلقّي، ينظر: كلارا سروجي – شجراوي، (2011)، نظريّة الاستقبال في الرّواية العربيّة الحديثة، (باقة الغربيّة: مجمع القاسميّ للّغة العربيّة وآدابها – كليّة القاسميّ)، 1 – 76.

  1. نبيه القاسم، (2009)، ليلى العثمان: امرأة بلا قيود. في محراب الكلمة. (كفر قرع: دار الهدى للطباعة والنشر كريم)، 54.

(شفاعمرو)

By د. محمد هيبي

أستاذ اللغة العربية، كاتب وناقد أدبي. ولد في 5/3/1952 في قرية كابول، في الجليل الغربي، القريبة من "ميعار" المهجرة، مسقط رأس والده الشاعر الشعبي الفلسطيني، أحمد محمد هيبي (المعروف بالكشّوع أو أبو عصام الميعاري). هُدِمت ميعار وشُرّد أهلها في النكبة الفلسطينية عام 1948.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *