د. محمد هيبي

03/02/2023

بداية وقبل الدخول في الحديث عن الذكريات الشخصيّة مع أبي رياض، أودّ أن أعلن باسم “الاتّحاد القطريّ للأدباء الفلسطينيّين”، أنّ جميل عرفات هو واحد من كبار حرّاس الرواية الفلسطينيّة، وهو مطبوع في ذاكرتي وذاكرة اتّحادنا، وجدير بأن نطبعه في ذاكرة أجيالنا! ومن هذا المنطلق، احتراما له منّا وتقديرا لأعماله وجهوده التي بذلها في خدمة شعبه ووطنه لترسيخ الرواية الفلسطينيّة وحفظ الذاكرة الجمعيّة وصيانتها ونقلها إلى أجيالنا، نحن “الاتّحاد القطريّ للأدباء الفلسطينيّين”، نُعبّر عن اعتزازنا بأبي رياض، ونرى أنّنا نكرّم أنفسنا إذ نكرّمه ونمنحه درعَ شرفٍ وعضويّةً فخريّةً دائمة في اتّحادنا، لأنّ واجبنا الوطنيّ والأخلاقيّ، يُحتّم علينا أن نُثمّن عاليا كلّ جهد يُبذل انتصارًا لشعبنا وإحقاق حقوقه في وطنه، ويرتقي بثقافتنا الفلسطينيّة إلى المكانة الرفيعة التي تستحقّها.

كان هذا مضمون الدرع الذي قدّمه “الاتّحاد القطريّ للأدباء الفلسطينيّين” لإخوتنا، أبناء المرحوم.

أمّا على المستوى الشخصي، فمعرفتي بالأستاذ المرحوم جميل عرفات قديمة. كان أبو رياض صاحب وجه سمح أليف لطيف تعلوه بسمة حيّية مميّزة لا تفارقه، ولا أظنّها فارقته حتى بعد رحيله. هكذا انطبع وجه أبي رياض في ذاكرتي منذ طفولتي قبل ستّة عقود ونصف العقد تقريبا، وهكذا سيظلّ بعد أن رحل عنّا ولم يرحل.

عرفته منذ كنت طفلا، في السادسة أو السابعة لا أذكر تماما، كان حينها يعمل مدرّسا في بلدنا، كابول، وكان يتردّد إلى بيتنا من حين لآخر، لصداقة جمعت بينه وبين المرحوم والدي، الشاعر الشعبي، أحمد محمد قاسم هيبي، المعروف بـ “أبو عصام الميعاري”.

ودارت الأيّام، من الطفولة إلى الجامعة، بعد خمسة عشر عاما تقريبا، ورغم فارق السنّ بيننا، تقاطعت طُرقنا ثانية، في أوائل سبعينيّات القرن الماضي كطالبي علم في ردهات جامعة حيفا، وفي قاعات موضوع التاريخ تحديدا. هو درس التاريخ والجغرافيا وأنا درست التاريخ والأدب العربي. ولكنّ الأيّام لا تُبقي شيئا على حاله، فقد فرّقتنا مرّة أخرى فما عدنا نلتقي بعد الدراسة الجامعية إلّا مصادفة. وما أجملها تلك الصدف! وأجملها، تلك التي جمعتني بأبي رياض ذات يوم، أواخر عام 1974.

كنت خارجا عابس الوجه من غرفة أحد المفتّشين العرب في مكتب المعارف العربية في الناصرة. في الممرّ الضيّق بين غرف المكتب كان لقاؤنا الذي أدين به لأبي رياض، وللصدفة الطيّبة التي جمعتني به، وقد تكون غيّرت مجرى حياتي المهنيّة.

ما زلت أذكر تلك البسمة الحيّية المميّزة التي اتّسعت على وجه أبي رياض حين رآني ومدّ يديه مصافحا وهو يقول: “خير إن شاء الله، شو بتعمل هون؟”. وبعد مصافحة وسلام حارّيْن، سألني عن والدي وصحّته وأخباره، ثم أعاد عليّ سؤاله: “شو؟ … في إشي؟ شو بتعمل هون؟”. لا شكّ أنّ تجربته كمعلّم ومدير بعد ذلك، علّمته أنّ زيارة ذلك المكتب لا بدّ أن تكون مرتبطة بمشكلة ما، وأنّ قلّةً هم الذين دخلوه ولم يُدجَّنوا. فكلّ تلك الدائرة (دائرة المعارف)، يعرف أبو رياض أنّها كانت سوطا بيد السلطة تجلد به العرب الباقين في وطنهم، وتعمل على تدجينهم وسلخهم عن محيطهم الفلسطيني والعربي، لا بل وأكثر من ذلك، سلخهم عن لغتهم وتاريخهم وتراثهم. كتابات أبي رياض فيما بعد، تدلّ على أنّه لم يُدجَّن، وأنّه أدرك معنى الصمود والانتماء، فأراد أن ينتصر لأهله المحاصرين آنذاك بهويّتهم وقوت أولادهم.

شرحت لأبي رياض ما حدث في الغرفة التي خرجت منها لتوّي، وذكرت له التهديدين اللذين انتهى إليهما اجتماعي بالمفتّش الذي لم أرَ فيه بعد خروجي أكثر من قطعة أثاث في مكتب. يومها أنهى المفتّش كلامه بنبرة لا تخلو من تهديد رغم زيف صرامتها: “أنا المسؤول هنا، وأنا من يُقرّر، أنت معلّم مؤقّت إلى أن أجد معلّما يحلّ محلّ المعلّم الذي ترك المدرسة”. “اللعنة عليك وعلى هذا المؤقّت الذي لا يكفّ عن مُلاحقتنا، تظنّ أنّي سأرتعد خوفا وأنبطح أمامك!”، قلت ذلك في نفسي ثم مهدّدا بدوري: “إذًا ابحث لك عن معلّم مؤقّت غيري، سأعود إلى عملي حيث كنت”. قلت له ذلك بنبرة خالية من التكلّف ولا تقلّ صرامة وتهديدا عن نبرته، وتركته بصفنته وخرجت.

في تلك اللحظة ظهرت بشارة الخير مع تلك البسمة المميّزة التي تغمر وجه أبي رياض. فرح حين سمع أنّني قابلت لغة التهديد بلغة لا تقلّ تهديدا. “عَفارِم عليك”، قال لي ثم ربّت على كتفي وطلب منّي ألّا أهتمّ لما قاله المفتّش، فهو، كما وصفه أبو رياض، “مغرور ومنفوخ عَ الفاضي”، ثم طلب منّي ألّا أغادر المكتب، فخلال نصف الساعة التالية سيجتمع المفتّشون ويتبادلون مناطق عملهم، فانظر من الذي سيحلّ محلّ “المنفوخ” وأدخل إليه. وهذا ما حصل بالفعل.

كان المفتّش الجديد لطيفا متواضعا، والأهمّ من ذلك بعدما قصصت عليه ما حدث بيني وبين زميله، أنّه أكّد على كلام أبي رياض من غير أن يعلم ما دار بيني وبينه. قال: “لا تشغل نفسك به، حضرته (يعني المفتّش الذي سبقه) لا يعي شيئا ممّا يقول، اذهب أنت وانجح في عملك وأنا سأتحمّل مسؤوليّة تثبيتك فيه.

بعد خروجي من مكتب المفتّش الأول لم يعد هناك سبب لبقائي، كنت سأغادره حائرا بين ما سمعته منه وبين ما عليّ أن أفعل. ولكنّه الغيبُ وما يُخبئه، فما حدث بعد ذلك بيني وبين أبي رياض من جهة، وبيني وبين المفتّش الجديد من جهة أخرى، كان كلّه من تدبير القدر الذي قلّما يكون رحيما بي، ووليد الصدفة الطيّبة التي ساقها ذلك القدر لتجمعني بالرجل الأصيل، أبي رياض.

بعد أيّام الجامعة وذلك اللقاء في الناصرة، افترقت طُرقنا مرّة أخرى، إلى أن جمعتني الأيّام بابنه، الأستاذ رائد عرفات، زميلا لي في مهنة التعليم الثانوي، عندها شعرت أنّ حبل الودّ الذي وصله الله بين المرحومين، أبي رياض ووالدي، سوف لا ينقطع أبدا رغم أنّي تقاعست مرغما قبل فترة، وتحديدا يوم السبت 23/7/2022، عن حضور حفل زفاف ولده، حفيد أبي رياض، بسبب نكبة الكورونا – لعنها الله – فقد ألمّت وألزمتني الحجر وعطّلتني عن كثير من التزاماتي وسوّدت وجهي مع كثر من إخوتي وأصدقائي.

مِن رائد الذي أصبح صديقا وأخا، تعرّفت على مدى اهتمام أبي رياض بتوثيق الرواية الفلسطينية للنكبة، وللقرى الفلسطينيّة التي تركتها الأيدي الصهيونيّة الغاشمة بعد النكبة، مهجَّرة مدمَّرة منهوبة الأرض والاسم والتاريخ. وعلمت منه أيضا أنّ صلة أبي رياض المباشرة بالنكبة وأحداث التدمير والتهجير التي عايشها، هي التي دفعته للاهتمام بالتأريخ والتوثيق وحفظ الذاكرة. وأكّدتْ ذلك كتاباته الكثيرة التي قرأت بعضها فيما بعد.

في كتاباته، سرّني كثيرا حرصه على ذكر زوجته الوفيّه طيّبة الذكر، المرحومة أم رياض، في إهداءات أعماله وغيرها. وهكذا ورد ذكرها في أحد أعماله: “إلى روح الزوجة الوفيّة أم رياض. إلى روح قضت تنتظر عودة الأهل والأحبّة، إلى كلّ الذين قضوا يستمعون إلى المذياع علّهم يسمعون خبر العودة، إلى أرواح الذين جادوا بدمائهم من أجل وطنهم، إلى أطفال ولدوا في أحضان الغربة ولم يكحّلوا عيونهم برؤية وطنهم، إلى رجال ما زالوا صامدين وصابرين رغم كلّ التحدّيات، إلى كلّ فلسطينيّة ما زالت تحتفظ بمفاتيح دارها وتتمسّك بكوشان أرضها …”. وما أشبه روح أم رياض الطيّبة بروح أمّي التي رفضت هي الأخرى عَرض أهلها لها، أن تترك زوجها وتلحق بهم إلى الشّام، رفضت وقضت عمرها تنتظر عودتهم وتسمع المذياع لعلّها … ولعلّها … وكم من روح فلسطينيّة طيّبة كروح أم رياض وروح أمّي، قضت وهي تنتظر … لعلّها …؟! لله درّك يا أبا رياض، كم من نفس أحييت بمشروعك الذي نذرت له نفسك وبقيّة عمرك، وبأعمالك التي أصدرتها على نفقتك الخاصّة في زمن كثُر فيه المتسلّقون وعزّ فيه أمثالك؟!

مِن ابنه رائد أيضا، عرفت أنّ أبا رياض تقاعد عن التعليم ولكنّه لم يقعد عن العمل، فقد أنهى معركة ليبدأ أخرى لا تقلّ أهميّة إن لم تزد، معركة بدأها بالتواصل مع الناس المشرّدين في وطنهم، ومع القرى التي شُرِّدوا منها، ثم استلّ قلمه سيفا بوجه لصوص التاريخ والجغرافيا، مزيّفي الرواية الفلسطينيّة الذين عاهدوا الشيطان على طمسها. ولكنّ الله أحبط مسعاهم بأبي رياض ومن ساروا على دربه.

وسررت مرّة أخرى حين قرأت ما كتبه عن قريتي المهجّرة، ميعار، وعن غيرها من قرانا المهجّرة في كتابه، “من قرانا المهجّرة في الجليل”، مثل الدامون والرويس والبروة وكويكات والغابسية والكابري وغيرها الكثير في منطقة الجليل. الحديث عن تلك القرى، دعمه أبو رياض بوثائق وشهادات تدحض الروايات الصهيونيّة المفبركة التي ربطوها زورا وبهتانا بالدين والتاريخ والأساطير. وهذا بحدّ ذاته كان من أقوى الدوافع التي دفعت بأبي رياض إلى مهمّته، التأريخ والتوثيق وصيانة الذاكرة. كان يقلقه كثيرا أنّ يرى الصهيونيّة والقيّمين عليها، يكذبون، و”يُفبركون” الروايات لحرصهم على خلق جيل صهيونيّ يشعر بالانتماء لأرض لا علاقة له بها، فما الذي يمنعنا نحن من حفظ روايتنا ونحن أدرى بأنّها الرواية الحقيقية التي يجب علينا أن نواجه بها كلّ روايات النهب المزيّفة؟

وكم سررت أيضا حين قرأت اسمي، محمد هيبي، بين الأسماء الميعاريّة التي ذكرها أبو رياض في كتابه في معرض حديثه عن قريتي المهجّرة، “ميعار”. فرحت لأنّي قرأت اسمي، والأهمّ لأنّي كنت أعرف الحقيقة، وأعرف أنّ المقصود ليس أنا، بل جدّي الذي أحمل اسمه ولقبه، محمد الهيبي، الكشوع.

اهتمّ أبو رياض بدقّة روايته وتميّز بتوثيقه للأسماء، أسماء الأماكن وأسماء الأشخاص والعائلات، الذين سكنوا تلك الأماكن، لأنّه كان يعرف أنّنا نُواجه آلة صهيونيّة غاشمة ومتمرّسة في نهب الجغرافيا والتاريخ وما بينهما.

حرص أبو رياض على أن يترك وراءه أثرا طيّبا ومفيدا يخدم أجيالنا وقضيّة شعبنا مهما طال ليل الغربة وتأخّرت أجراس العودة، فالذاكرة الجمعيّة، إذا أحسنّا صيانتها، هي وحدها القادرة على حفظ الحقّ والحقيقة والتاريخ. “الذاكرة الجمعية هي خميرة الهويّة الفلسطينيّة وخبزها”. هكذا كان أبو رياض يقول، ولذلك شدّد على حيويّة الرواية الشفوية وضرورة حفظها ونقلها للأجيال، لأنّ ذلك هو الضمان الوحيد لقلع الغصّة التي أصابته مرارتُها، وما زالت تُصيبنا جميعا كلّما شهدنا حالة من حالات التزوير واستبدال أسماء الجغرافيا العربية الفلسطينيّة، بأسماء عبريّة لا تمتّ للجغرافيا والتاريخ بصلة غير صلة النهب والتزوير. ولذلك اجتهد أبو رياض، ليترك لنا عددا لا يُستهان به من الكتب التي اهتمّ فيها بنقل الذاكرة وصيانتها. ومنها أذكر: “من قرانا المهجّرة في الجليل، “مسارات في الجليل والجولان”، “قرى وعشائر قضاء بيسان”، “مدن وقرى الكرمل”، “القرى المهجّرة في الحدود الشمالية” و”الناصرة مدينتي”.

لا يُساورني أدنى شكّ بأنّ أبا رياض أغمض عينيه وفارقنا إلى عالم الغيب مطمئنّا، فقد حمل الأمانة رغم ثقلها وبلّغها أصحابها. حفظ الرواية وصانها ونقلها، فإذا أراد لصوص الأرض والتاريخ، أو أحد المارقين المذدنبين لهم وللصهيونيّة وروايتها المزيّفة أن ينكر ذلك، ستصفعه صفحات كتب أبي رياض وتُعيد إليه صوابه.

ولأكون أنا أيضا مطمئنّا إلى أنّني أستحقّ معرفة أبي رياض وصداقته وصداقة أولاده، وأنّني جدير أن أكتب عنه ما كتبتُه هنا رغم علمي بأنّه يستحقّ أكثر، حرصت على العمل بوصيّته، صنت الذاكرة، الشخصيّة والجمعيّة، ونقلتها بطرق شتّى طيلة سني عملي الأربعين في سلك التعليم، إلى طلابي المتعطّشين لها، وغنيّ عن الذكر أنّني نقلتها إلى أولادي وأحفادي.

نم قرير العين يا أبا رياض، نم قرير العين مطمئنّا إلى أنّ لك إخوة وأبناء وأحفادا، رغم صعوبة الطريق وقسوة الحصار، كلّهم على طريقك سائرون، ولوصيّتك حافظون، وما نقلتَه إليهم، إلى أولادهم وأحفادهم بأمانة سينقلون. ويا أيّها الراحل عنّا الباقي فينا، نُعاهدك يا أبا رياض، من الجدّ إلى الولد وولد الولد، مهما طال بنا الزمان، سنتشبّث بالأرض ولن نبرح المكان، فلا غفران ولا نسيان.

By د. محمد هيبي

أستاذ اللغة العربية، كاتب وناقد أدبي. ولد في 5/3/1952 في قرية كابول، في الجليل الغربي، القريبة من "ميعار" المهجرة، مسقط رأس والده الشاعر الشعبي الفلسطيني، أحمد محمد هيبي (المعروف بالكشّوع أو أبو عصام الميعاري). هُدِمت ميعار وشُرّد أهلها في النكبة الفلسطينية عام 1948.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *