مداخلتي في أمسية إشهار كتاب “لغة الجسد في القرآن الكريم” للباحث الدكتور مروان مصالحة في منتدى الفنار العكّي، الجمعة 8/11/2019

قال أحد الشعراء في مدح القرآن الكريم:

يا أيّهـا الكَلِـمُ العـليُّ الشــانِ   يا من أضأتَ غياهـبَ الإنسانِ

فبذكرِ حرفِكَ تطمئنُّ قلوبنا     وبعـلمِ نحوِكَ يستـقـيمُ لسـاني

يبدو من هذين البيتين أنّ الصدر فيهما يُخاطب القلب والعاطفة، بينما العجز يخاطب العقل. هذا يشهد أنّ القرآن الكريم، وإن اطمأنّت به القلوب، لا يُمكن أن يُخاطب القلب فقط، وإنّما يُخاطب العقل بالمقدار نفسه إن لم يكن أكثر. لأنّ القلب لا يطمئنّ لشيء لا يقبله العقل.

أمّا الشاعر حافظ إبراهيم فقد جسّد اللغة بحرا عميقا واسعا، وشخّصها إنسانا يتكلّم فيقول:

أنا البحر في أحشائه الدرّ كامن فهل سألوا الغوّاص عن صدفاتي؟

هذا البيت مع سباقيْه، يُذكّرنا بأنّ القرآن الكريم هو، حافظ لغتنا العربية ومُثبِّت مَنَعَتِها على كل الذين تربّصوا بها عبر التاريخ، وما زالوا يتربّصون بها حتى يومنا هذا. وهم كثر، ولا حاجة لتذكيركم بقانون القومية البغيض، إذ لا يحقّ لأحد منّا أن ينسى.

اللغة العربية بحر، والبحر واسع وعميق، يرتاده المسافرون والغوّاصون. سطحه صفحة زرقاء مترامية، هادئة ثائرة، ما زال الإنسان منذ بدء الخليقة، يجوب مساحاته الشاسعة ولمّا يصلْ إلى قرار. وأعماق البحر لجّج غائرة، فيها من النور والظلمات ما أعجز الغوّاصين عن كثير من الصدّفات. ولكنّ بعضهم غاص وفاز ببعضها. وها هو غوّاص حاذق آخر، غاص في ظلمات بحر اللغة، وسبر أنوار بحر القرآن الكريم، ليُثبت لنا أنّ إعجاز القرآن الكريم، ما زال ينتظر جموع الغوّاصين الباحثين عن الآلئ، ليستخرجوا لنا نفائسها. هذا الغوّاص الحاذق، هو الدكتور مروان مصالحة الذي شرّفني بإهدائي كتابه، وبدعوته لي، للحديث عنه. وقد كان هدف دراسته، كما ورد في الخلاصة (ص 177)، أنّها تُسلّط الضوء على إعجاز القرآن الكريم في التواصل غير اللفظي، لأنّ تأثيره أقوى على المتلقّي. ومن جهة أخرى تُساعد هذه الدراسة على فهم القرآن الكريم بشكل عام. وتُساعد بشكل خاص، على فهم ما جاء فيه من آيات تُعبّر عن لغة الجسد، أو فيها أيماءات جسدية لها دلالاتها.

استخرج الدكتور مراون مصالحة، لؤلؤة، قلّة من الغوّاصين الباحثين انتبهوا لوجودها، لؤلؤة قد يشعّ بريقها على الباحثين مستقبلا، ليستجلوا أسرارها ويُتابعوا البحث عن أخواتٍ لها، في لجّة البحر العميق. هذي اللؤلؤة هي موضوع كتابه الذي صدر حديثا، وعنوانه “لغة الجسد في القرآن الكريم”. وقد حَظِي الكتاب قبل أمسيتنا هذه، بشهادات من رجال العلم والدين.

كلّنا نعرف أنّ التواصل الإنساني لا يحدث باللغة الملفوظة فقط، وأنّما هناك لغات كثيرة نتواصل بها. نتواصل بها منفردة أحيانا، وأحيانا داعمة للتواصل اللفظي. نتواصل بها منفردة حين يتعذّر التواصل اللفظي. مثلا لغة الإشارت بين الصمّ البكم، وقد يستعملها الأسوياء أيضا، عن وعي أو عن غير وعي. والرسائل المكتوبة أيضا، نتواصل بها حين يُسيطر علينا البعد ويتعذّر اللقاء أو التواصل اللفظي. فهي مكتوبة قد تُقرأ من غير أن نتلفّظ بها، باعتبارها ترجمة مكتوبة لألفاظ كنّا سنقولها لو تمّ اللقاء وتمّت المواجهة. كما أنّنا نلجأ أحيانا للتواصل غير اللفظي، دعما للتواصل اللفظي، فقد تكون الألفاظ أحيانا، عاجزة عن نقل الرسالة إلى المتلقّي، فتأتي لغة الجسد مثلا، داعمة للألفاظ تُبيّن ما خفي من معانيها ودلالاتها. وليس غريبا أن تكون لغة الجسد أصدق من اللغة الملفوظة. يقول الكاتب: “عند وجود اختلاف بين الكلمات المنطوقة ولغة الجسد، فإنّ الشخص (المتلقّي) يميل إلى تصديق لغة الجسد. حيث أنّ الاتصال غير اللفظي يزيد من احتمال كشف الفرق بين ما يقوله الشخص بكلامه، وما يجري في عقله، وعواطفه، ومحصّلة خبراته” (ص 19). وهذا صحيح. مثلا، كثيرا ما نقول عن شخص ما “مش غادر أصدقه، لسانه بقول إشي وعينيه بتقول إشي ثاني”. ذلك لأنّ اللغة شيء والكلام شيء آخر، وما نقوله ليس بالضرورة يُعبّر عمّا نفكّر به. أمّا لغة الجسد فهي انعكاس صادق لما نفكّر فيه أو نشعر به. وهذا تأكيد لما جاء به الكاتب في الفصل الرابع، وما جاء به القرآن الكريم في الآيتين الثانية والثالثة من سورة الصفّ، من تناقض بين القول والعمل، ويدلّ أيضا على الاختلاف بين التفكير واللفظ، أو بين اللغة والكلام. يقول تعالى: “يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ”. الآية الأولى تبيّن التناقض بين القول والفعل، وهو في الوقت نفسه تناقض بين التفكير والقول. نقول مثلا: عملنا أو سنعمل، ولكنّنا في الحقيقة لم نعمل. والآية الثانية تُبيّن الحكم الديني في مثل هذه الحالة، “كبُر مقتا”، وما يمقته الله يجب أن يمقته الناس، ويجب ألّا يُعمَل به، وإذا عُمِل فهناك قصاص، شرعي أو اجتماعي.

الفرق بين اللغة والكلام، هو أنّ اللغة هي العمق الذي نفكّر فيه، هي كل ما قد يدور في أذهاننا، أمّا الكلام فهو السطح، إنّه فقط، اللغة التي نتلفّظ بها فقط. وقد يكون هناك بون شاسع بين ما نفكّر فيه وبين ما نقوله. ولهذا أيضا، قد يكون هناك بون شاسع بين ما تقوله شفاهنا وما تقوله عيوننا. لذلك أفرد الكاتب فصلا خاصّا هو الفصل الثاني من الكتاب، يتحدّث فيه عن التواصل بلغة الجسد بين الأفراد، وبضمنه يُجيب الكاتب عن السؤال: هل نستطيع التحكّم بلغة الوجه” (ص 38)، وطبعا نستطيع لأنّ حركة الجسد قد تكون إرادية في كثير من جوانبها، ولكنّها قد تكون عفوية لاإراديّة، فقد تخوننا عيوننا وقسمات وجوهنا. ولذلك نجد الكاتب يتحدّث في الفصل نفسه، عن لغة العيون (ص 47)، وقد أفرد لإيماءات العيون في القرآن الكريم، فصلا كاملا (157). والكاتب يستعين على لغة العيون بنموذجين من الشعر، لشاعرين لم يذكر اسميهما، ولكنّ شعرهما يُبيّن إدراكهما لأهمية لغة الجسد عامة، وصدق لغة العيون بشكل خاص، لأنّها تفضح ما يخفيه المتكلّم.

يقول الشاعر الأول (ص 47):[1]

العين تُبدي الذي في قلب صاحبها   مِــنَ الشــنـاءة أو حــبٍّ إذا كـانـا

إنّ الـبغـيــض لـه عـيـن يَصْـدُقُـها    لا يستطيع لــما في القـلب كـتـمانا

فالعـين تـنطـق والأفــواه صامـتة    حتى ترى مـن صميم القلب تِبيانا

ويقول الشاعر الثاني (ص 47):[2]

عيناكَ قـد دلّتا عينيَّ منك على      أشـياءَ لـولاهـا مـا كـنـت إدريـها

تظلّ في نفسك البغضاء كامنةً      والقـلـب يغمـرها والعـين تُـبـديها

والعين تعلم من عيني محدّثها      إن كان من حزبها أو من أعاديها

إذن قد تكون لغة الجسد مقصودة وقد تكون تلقائية، والتلقائية هي الأصدق. فهي تُقدّم لنا تعبيرا صادقا ومقنعا، وخطابا قد يُغني المرسِل والمرسَل إليه عن حاجتهما للفظ. مثلا، إذا سألك شخص ما: ما بيدك؟ لو قلت له تفّاحة، قد يُصدّق كلامك وقد لا يُصدّقه. ولكن، أذا مددت يدك، تلقائيا أو عن قصد، والحالتان هنا ممكنتان، تفيان بالغرض نفسه، إذا مددت يدك وفتحتها أمامه وعرضتَ عليه التفاحة، فسوف يرى ويتأكّد، ولن يبقى أمامه مجال إلّا للتصديق. والسبب في ذلك أنّ لغة الجسد قد فعلت فعلها. وإذا أصرّ على تكذيبك، فذلك لأنّه مصرّ على قلب الحقائق، وهذا تأكيد آخر للتناقض بين القول والفعل. أي أن نفعل عكس ما نقول، أو ما كان يجب أن نقول. لأنّنا قد نقول شيئا ونفعل شيئا آخر أو لا نفعل، وقد نفعل شيئا ونقول فعلنا شيئا آخر أو لا نقول.

لغة الجسد هي وسيلة للتواصل الإنساني، وهي على جانب كبير من الأهميّة، لأنّها تنقل الأفكار والأحاسيس والمشاعر، وتدعم الألفاظ وتُساهم في إظهار معانيها، أو تُساهم في توضيح ما خفي فيها من دلالات، أو قد تسدّ مسدّ الألفاظ في كثير من الأحيان، فتجعلها زائدة لا حاجة لها.

صحيح أنّ الإنسان انتبه للغة الجسد ودورها في التواصل منذ القدم. وصحيح أنّ أبحاثا كثيرة كُتِبت حول هذا الموضوع. ولكن، قلّة هم الذين التفتوا إلى وجود لغة الجسد في القرآن الكريم، أو كتبوا عنها. وها هو الدكتور مروان مصالحة، يُؤسّس في كتابه لهذا الفرع من شجرة هذا العلم، والذي اصطلحنا عليه بلغة الجسد في القرآن الكريم، يُقدّمه لنا بأسلوب علميّ مدعّم بالحجج والبراهين الممتوحة من جهة من القرآن الكريم نفسه، متمثّلة بالآيات التي تحوي إشارات جسديّه، يشرحها ويُبيّن لنا ما فيها من إيماءات تلعب دورا مهمّا في حياة الإنسان، الدينية وغير الدينية. أمّا من جهة أخرى، فقد متح الكاتب حججه وبراهينه، من عشرات المراجع العربية والأجنيبة التي استند إليها، والتي تتحدّث عن لغة الجسد، ولكنّها قلّما التفتت لوجود هذه اللغة في القرآن الكريم. لذلك لا نبالغ إذا قلنا إنّ كتاب الدكتور مروان مصالحة، هو فتح جديد في طريق نأمل أن يستفزّه للمتابعة، ويستفزّ غيره من الدارسين. لأنّ هذا البحث، أراه بداية مباركة، وتأسيسا لا بدّ له من متابعة يقوم بها الدارسون. فقد لاحظت مثلا، أثناء قراءتي للكتاب، أنّ الخطاب الدينيّ مهيمن فيه، يهتمّ بحاجاتنا الدينية، وقلّما يلتفت لغيرها، بينما هذا الموضوع، يستطيع أن يخدم حياتنا اليومية والعامة، دينية وغير دينية. مثلا، في حديثه عن الإيماءات المختلفة في الفصل الثالث، وتحديدا عن القتل والجريمة (ص 82)، لاحظت أن الدكتور مروان حصر الحديث بتصرّف أخوة يوسف في حضرة أبيهم، وما فيه من إيماءات لها دلالات دينية وأخلاقية، تتعلّق بالسلوك الشخصي في تلك الأيام، بينما كان من الممكن أن تُستثمر هذه الآية وغيرها، وما فيها من معاني وإيماءات، في خدمة حياتنا اليومية، اجتماعية وثقافية. وما أحوجنا لذلك هذه الأيام والعنف كما ترون، يستشري في مجتمعنا ويحصد الأرواح، وضحاياه أصبحت يومية.

ما أشرت إليه، لا ينتقص من الكتاب شيئا، بل ذكرته لأقول للدكتور مروان ولغيره من الدارسين، إنّه بدأ الطريق ووضع حجر الأساس، وما زالت أمامنا بناية ضخمة شاهقة، يجب أن تقوم بكل طبقاتها وأجنحتها، لنتستفيد منها في كل نواحي حياتنا.


[1] . الحيص بيص، هو أبو الفوارس، سعد بن محمد بن سعد بن الصيفي التميمي، الملقب شهاب الدين، أديب وشاعر وفقيه مشهور من أهل بغداد، كان من أعلم الناس بأخبار العرب ولغاتهم وأشعارهم.

[2] . سبط ابن التعاويذي. محمد بن عبيد الله بن عبد الله، أبو الفتح، المعروف بابن التعاويذي، أو سبط ابن التعاويذي. شاعر العراق في عصره. من أهل بغداد، مولده ووفاته فيها. ولي بها الكتابة في ديوان المقاطعات، وعمي سنة 579 وهو سبط الزاهد أبي محمد ابن . كان أبوه مولى اسمه (نُشْتِكين) فسمي (عبيد الله). له (ديوان شعر – ط) اقتنيت مخطوطة منه، فظهر لي أن ناشره الأستاذ (مرجليوث) تعمد حذف كثير من شعره وملأه أغلاطاً. وحبذا لو يعاد نشره وله كتاب (الحجبة والحجاب).

By د. محمد هيبي

أستاذ اللغة العربية، كاتب وناقد أدبي. ولد في 5/3/1952 في قرية كابول، في الجليل الغربي، القريبة من "ميعار" المهجرة، مسقط رأس والده الشاعر الشعبي الفلسطيني، أحمد محمد هيبي (المعروف بالكشّوع أو أبو عصام الميعاري). هُدِمت ميعار وشُرّد أهلها في النكبة الفلسطينية عام 1948.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *